فوزي مسعود
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11531
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
1-2- الحديث من حيث الغرض
كما ذكرنا من قبل، فإن منتج الحديث، لابد انه يسعى لهدف من خلال موقفه، على أن مثل هذا الأمر يلزمه بعض التوضيح:
أ- إذا أخذنا العاملين، المتكلم والهدف من الكلام، يمكن أن نميز بين حالتين، إما أن المتكلم قصد بنيته وعن وعي الهدف الذي يؤدي إليه الكلام، وإما انه لم يقصد ذلك، حيث إن الهدف المنشود هو الغرض الناتج من الحديث، وليس ينبغي فيه بالضرورة لصحته توفر قصد ونية المتكلم، وكما هو بيّن فإنه يمكن أن يقع إنتاج أهداف من دون قصد صاحب الحديث، وهنا يجب إذن التمييز بين أهداف مقصودة من حديث صاحبها، و أهداف غير مقصودة، ولكن الحديث يمكن أن ينتجها، أو على الأقل تفهم من خلاله.
ب- يمكن التنبّه حين البحث في غرض الحديث، للعوامل التالية: المتكلم، الهدف، وأصل الدافع للحديث، وتغير هذه العوامل، يعطينا الحالتين: إما أن المتكلم ينطلق من دافع ذاتي يبتغي به الهدف من حديثه، وإما انه يتكلم قاصدا هدفا معين، ولكن تحت دافع خارجي. وهذا يعني أن في الحلة الأولى هناك علاقة مباشرة بين المتكلم والهدف، بينما في الحالة الثانية لا توجد مثل هذه العلاقة، ووجود هذه العلاقة من عدمها يمثل العامل الذي يمكن أن نعتمد عليه في تمييز صنفين من الحديث، إما حديث أصيل في الحالة الأولى أو حديث وظيفي في الحالة الثانية.
1-2-1- الحديث بعدم توفر القصد من المتكلم
القول بعدم توفر الهدف من الحديث لدى المتكلم، كلام يجب توضيحه أيضا، لأن المتكلم لما كان عاقلا، فإنه لاشك كان عالما بحديثه، وما يمكن أن ينتجه ذلك الحديث، ثم إن الحديث بعدم توفر القصد منه لدى المتكلم يعني ضمنيا أن هناك طرف آخر له هدف من الحديث، وهذان العاملان لا يتيحان غير حل واحد لإمكانية دفع الناس لأن ينتجوا كلاما هم غير منتبهين لبعض ما يؤدي إليه والذي هو في نفس الوقت الغرض المرجو من الطرف المستفيد أو الدافع للكلام والحاث عليه، وهذا الحل هو معالجة العامل الثاني المتمثل في أهداف الحديث، وتتبع هذه المعالجة الطرق التالية:
- تضخيم الهدف المقصود من المتكلم بحيث يكبر في نفسه ويغطي عليه أي هدف آخر يمكن أن ينتجه حديثه أو موقفه.
- استعمال أساليب يدفع المتحدث لإنتاجها تعين على تضخيم إنجازه وهدفه واهتماماته عموما، بحيث تعمل كلها على التغطية على الهدف الأصلي المرجو من الواقفين والدافعين للموقف بجملته.
- العمل على إشراك المتحدث وتوريطه في المواقف، بحيث انه يصبح معنيا هو نفسه بالدفاع عن الواقع الذي ساهم في إنتاجه (تحدث فيه بالتحديد)، وهذه مرحلة متقدمة في العمل الدعائي تمثل نجاحا كبيرا في القدرة على إغراق الناس في الأمر الواقع بحيث إنهم يصبحوا ليس فقط من منتجيه وإنما من المدافعين عنه.
من أمثلة هذا بتونس، يمكن ذكر التالي:
أ- الإكثار من المسابقات التلفزية والإذاعية الضاربة لمبدأ أن الكسب المشروع يكون فقط من خلال العمل، وهي بعد ذلك محرمة شرعا(تصبح أمرا واقعا) ثم العمل على إشراك المواطن فيها عن طريق تكثيف اهتمامه بالجوائز المالية (يصبح متورطا في الواقع)، والإكثار من الجوائز واتساع عدد المستفيدين منها (خلق شريحة مستفيدة من الواقع، بحيث تعمل على الدفاع عنه ذاتيا من دون حاجة منتجي هذا الواقع للتدخل).
ويظهر في هذه الحالة، كيف وقع استعمال الناس لهدف أساسي وهو تخديرهم وصرف اهتماماتهم لغرض لا يعلمه إلا المخدرون، وثنيهم عن الاهتمامات الجادة، ثم توريطهم في ارتكاب المحرمات، وهو الهدف الذي لم ينتبه له المشتركون في تفاصيل ذلك الواقع (المسابقات).
ب- إشراك الناس في مجمل البرامج الإذاعية والتلفزية، التي تتمحور حول اهتمامات مصطنعة، كالفنانين ومن شاكلهم من ممثلين أو لاعبين رياضيين، ودفع المتحدثين للنقاش ولإعطاء آرائهم، وهو مسعى يهدف لخلق الانطباع لدى الناس أنهم يعبرون عن رأي ويشاركون في وسائل الإعلام، وأنهم يتمتعون بحرية الكلام، خاصة حينما يسرفون في قضايا مفتعلة كمقابلة كرة أو مغن أو تصريح جدلي. وكما هو معروف، فان مثل هذه الاهتمامات (الرياضة، والفن والممثلون) هي من ضمن الأنشطة الوظيفية الاجتماعية، وهي تتحول في بعض البلدان كتونس، لوسيلة لتحويل اهتمامات الناس، وتفريغ طاقاتهم، خاصة تلك المتعلقة بالاحتياجات المنقوصة، كحرية التعبير، أو الرغبة في نقد المسئولين، فيقع استحداث واقع متخيل من خلاله يمكن تفريغ تلك الطاقات بعينها، وهو ما يقع في مقابلات الكرة وبرامجها أو أمور الفنانين وبرامجهم.
إذن وقع استعمال الناس لهدف آخر غير ذلك الذي كان يقصده المتدخل أو المتحدث في برنامج إذاعي مثلا، فالناس حين تدخلاتهم الإعلامية تلك وبعدها، يعملون على تضخيم المناسبات التي كانوا من المشتركين فيها من حيث أن الأمر يعني تضخيما لمشاركاتهم وبالتالي لأنفسهم، ولكنه من جهة أخرى إعلاء من شان واقع آسن وعمل على ترسيخه.
ت- لو انتقلنا لمستوى تجريدي أعلى، وأخذنا فقط الجانب التصوري من أي موقف / حدث، باعتباره صادر عن فكرة ومولد لفكرة أخرى، فيمكن إعطاء مثال آخر يندرج تحت تصنيف المواقف التي تصدر عن غير قصد من صاحبها مع توظيفها من أطراف أخرى، وهو مثل القروض الربوية، إذ في هذه الحالة يقع إقحام هذا التعامل الربوي كوسيلة وحيدة متاحة والتشجيع عليها في كل أوجه الحياة وتيسيرها، والعمل بالمقابل على إغلاق السبل أمام كل من يسعى للكسب من دون الاعتماد على القروض (عكس البلدان الأخرى حيث توجد البنوك الإسلامية)، وهو ما يؤدي لفتنة الناس في دينهم، بحيث أنهم إما يعرضون عن هذه الأساليب، ويكون نصيبهم البقاء على هامش الدورة الاقتصادية، وإما أن يشتركوا في الأمر الواقع مع القبول بكل ما يستتبعه من اقتراف للمحرمات، وفي هذه الحالة، وقع استعمال الناس لهدف أساسي وهو توريطهم في ارتكاب محرم كبير في الإسلام، وهو الربا، وهو ما يعني ضمنيا عمل منهجي على التهوين في أنفس الناس من شان الالتزام بالدين.
إذن وقع استعمال الناس من دون قصد منهم لأهداف غير معلنة، وهؤلاء المتورطون في هذا الواقع المفروض، لن يكون بامكانهم إلا الدفاع عن أنفسهم حينما يلامون على أفعالهم، بالتبرير تارة عن طريق استحداث الفتاوي، أو بالثورة أصلا ضد هذا الدين، والعمل على نسيانه ومحرماته بمزيد من التورط في محرمات أخرى.
1-2-2- الحديث بتوفر القصد من المتكلم
كما قلنا فإنه يمكن تمييز حالتين حين اعتبار الحديث بوجود القصد منه لدى المتكلم، وهو إما أن يكون المتكلم قاصدا للهدف من حديثه، أو إن الهدف من ذلك الكلام لا يعنيه مباشرة، وإنما كان الموقف كله نتيجة توظيف من طرف آخر، وقلنا انه من خلال التثبت من وجود علاقة بين المتكلم والهدف المقصود من عدمها، يمكن تحديد صنفين من الحديث: حديث أصيل في حالة وجود هذه العلاقة، وحديث وظيفي في ظل غياب هذه العلاقة.
1-2-2-1.الحديث الأصيل
وهو الحديث الصادر عن طرف ويكون الهدف منه مقصودا لِذاته من طرف المتكلم، وفي مثل هذه الحالة من الحديث يمكن أن نسجل النقاط التالية:
- لما كان الحديث صادرا عن صاحبه الذي هو نفسه المقرر للهدف منه، فإنه يكون حديثا واضحا من حيث انه قليل الاحتمالات حين تأويل معانيه، إلا أن يكون الغموض مقصودا فيه، وذك لأن الفكرة المقصودة لم تعالج إلا من خلال طرف واحد، عكس الحديث الوظيفي، وهذه المعالجة هي عملية تنزيل الهدف إلى كلام من خلال المتكلم، ولا يتم ذلك إلا عبر عامل واحد هو المتكلم نفسه. ويمكننا إن شأنا البرهنة على وجود علاقة عكسية بين عدد الأطراف المؤثرة في الفكرة محتوى الحديث وبين درجة وضوحها وبالتالي ارتفاع احتمالات تفسير المعنى المقصود من الكلام، فكلما كان عدد الأطراف المؤثرة في إنتاج للكلام أقل كان المعنى المقصود من الكلام أكثر احتمالية أن يكون هو نفسه المستنتج من ظاهر الحديث، والعكس بالعكس، كلما كان عدد الأطراف المؤثرة في إنتاج للكلام أكثر، كلما كان الكلام حمال أوجه أكثر، وبالتالي تكثر تأويلات لمعانيه.
- لا يحتاج الحديث الأصيل لافتعال المواقف في تبليغ المعنى، حيث ينصب جهد عملية الحديث على المعنى المقصود الذي هو معروف لدى المتكلم، بمعنى أن عملية الحديث الأصيل لا يقصد من خلالها إلا هدف واحد، عكس الحديث الوظيفي. والافتعال هو اصطناع موقف ظرفي يتوسل به لغرض ما، ولما كان الموقف هنا لا يحتمل أصلا هدفين، كان معنى ذلك غياب تام لاصطناع المواقف في عملية الحديث.
1-2-2-2.الحديث الوظيفي
وهو الحديث الصادر عن طرف ويكون الهدف منه مقصود ابتداء من طرف آخر غير المتكلم، وفي مثل هذه الحالة من الحديث يمكن أن نسجل النقاط التالية:
- يتواجد بعملية الحديث الوظيفي هدفان، هدف خاص بالمتكلم وهو عادة لا يخرج عن النفع الخاص والاكتساب المادي، وآخر خاص بالطرف الدافع للكلام.
- وجود هدفين، يعطي مجالا لتعارضهما، وهو ما يؤثر في محتوى الحديث من حيث نتيجته، ويكون ذلك في الحالات التالية:
* إذا كان هدف الطرف الدافع للكلام غير مقبول من المتكلم أو متعارض مع قناعاته، ولكنه اضطر للكلام.
* إذا كان هدف المتكلم يقع تقديمه زمنيا قبل هدف الدافع للكلام، كان يتحصل المتكلم على مقابله المادي لقاء خدمته (كتابة مقال أو القيام بدراسات ميدانية في حالة الأطراف التونسية التي تمول من الخارج)، قبل أن تنتهي مهمته المتفق عليها.
- الأهداف الوظيفية، رغم ارتكازها على مبدأ تأدية خدمة مقابل نفع للمتحدث، فهي لا تتخذ عادة الشكل المباشر في تبادل المصالح، بحيث إن هذه الصيغة تعمل بالقدر الكافي على إبعاد التهم ظاهريا ولا يجعلها تحت طائلة القانون واتهامات الناس للإطراف القائمة بها، مثل ذلك انه يمكن تصنيف عمليات التمويل التي تقوم بها منظمات غربية لمؤسسات و أطراف تونسية تحت صنف الحديث الوظيفي، لأن الأطراف التونسية المموَّلة تعرف ضمنيا أنها لم تمول إلا لأنها تخدم موضوعيا أهداف أولئك الممولين، وبالتالي فهي ستعمل على مواصلة خدمة نفس الأهداف، كحفاظ منها على ذلك التمويل.
- يمكننا تحليل الحديث الوظيفي من خلال تناول نوعية الهدف نسبة للمتغيرات الممكنة بحقه، وهنا نلاحظ ثلاث حالات: أهداف ثابتة عبر الزمن، أهداف متغيرة نسبة للزمن وأهداف متغيرة نسبة للأحداث وليس بالضرورة للزمن (وإن كان الأمر يبدو متغيرا نسبة للزمن، ولكن ليس الزمن هو المؤثر في عملية التغيير)، والأهداف المقصودة هي تلك المقصودة من الكلام، وهي بالتالي أهداف الدافع للحديث وليست أهداف المتكلم والتي لا تعدو أن تكون استرزاقا:
أ- أهداف ثابتة:
وهذه تكون عادة إما لقناعة المتكلم بمحتوى الكلام بحيث أن الهدف من الكلام هو نفسه هدفه الذاتي، وفي هذه الحالة لا يوجد استرزاق من عملية الحديث أو النشاط الإعلامي، وإنما العملية تمثل ما يمكن أن يكون تحالفا بين طرفين لهما نفس الأهداف، يعملان عليها سويا، وهي أهداف لا ترتهن في وجودها بتغير الزمن أو الأشخاص، وهذا النوع من التحالف يمكن أن يسمى تحالف موضوعي. ويمكن أن نذكر في هذا الباب كمثل على ذلك، تحالف بعض الأطراف العلمانية التونسية مع أطراف خارجية في العمل على تسيير مشاريع مشبوهة بتونس بدون تلقي تمويلات أو منافع، كتلك المشاريع المتعلقة بموضوع المرأة عموما، أو تلك المنادية بإعادة النظر في الأسس التاريخية والدينية لتونس ( التأسيس لخلفية مسيحية أو خلفية قرطاجنية لتونس والعمل على جعل البعد العربي الإسلامي مجرد بعد من ضمن أبعاد أخرى متنوعة..)
ب-أهداف متغيرة نسبة للزمن:
وهي عمليات يواصل فيها المتكلم تأدية مهام لمصلحة طرف آخر، ويكون الزمن هو العامل الوحيد الذي يحدد تواصل تلك المهام، بحيث يأتي وقت تنقطع فيه مواصلة عملية الحديث الوظيفي، ويكون ذلك نتيجة قرارات داخلية من إحدى الطرفين، إما أن المتكلم يقرر وقف عمليات الاسترزاق لإحساسه بخطأ ما يقوم به بدرجة من القوة تكون مانعا له من مواصلة الحديث لمصلحة أطراف أخرى، أو أن يقرر الطرف الدافع للكلام إيقاف عملية الحديث الوظيفي.
ج- أهداف متغيرة نسبة لعوامل غير الزمن:
يحصل أحيانا أن تكون أحداث ما هي السبب في وقف عملية تواصل مهام الحديث الوظيفي، سواء توقف العملية بقرار من المتكلم أو بقرار من الدافع للحديث، والتوقف قد يكون إراديا أو قد يكون لا إراديا بغياب الطرف المعني، بسبب قاهر، كتغييبه بالموت أو بالسجن أو بالهجرة.
ولما كانت عملية الحديث الوظيفي، ترتكز على العامل المادي من حيث وجودها باعتبارها استرزاقا في الأصل، فإن هذا العامل يكون مدار الأسباب المانعة لتواصل عملية الحديث تلك، مثل ذلك الاختلاف على الأجر (والذي لا يكون بالضرورة ماليا) مقابل القيام بمهام إعلامية لفائدة طرف ما أو التشهير بطرف آخر من خلال مقالات أو مداخلات، أو التخلف عن تمويل أعمال أو أنشطة وعد بها القائم بالحديث أو النشاط الوظيفي (عمليات التمويل التي تقوم بها أطراف غربية لمؤسسات تونسية تحت مسميات عديدة)، أو تغير المهام مع عدم تغير المقابل، كأن يقع تمويل إحدى المنظمات للقيام بدراسة مقابل تمويل، ثم يطلب من الطرف التونسي أن يقوم بدراسة أخرى من دون مقابل.
مثل آخر أن يكون منتج أفلام تونسي من أولئك المنتجين المشبوهين في اتفاق مع ممولين غربيين، ويقع الاتفاق معهم على أن ينتج فيلما بمحتوى معين ثم يعدونه بتوزيعه خارجيا والعمل على نيله جوائز عالمية، وقد يقع أن يتخلف في الإيفاء بهذه الوعود مما يسبب خسائر للمنتج التونسي، مما يدفعه للانسحاب من تأدية مهامه الوظيفية وهي إنتاج أفلام تحقق أهداف مموليه.
14-03-2009 / 08:44:55 فوزي مسعود