تكشف المعارك العنيفة التي تخوضها الولايات المتحدة منذ أكثر من ثلاث سنوات إلى جانب حلفائها الدوليين وشركائها المحليين ضد تنظيم الدولة الإسلامية عن حقائق مذهلة تتمثل بهشاشة قدرات القوات المحلية وصلابة قوات تنظيم الدولة، إذ لم تتمكن أي قوة محلية من تحقيق نصر دون مساعدة من القوات الأمريكية التي اعتمدت تكتيكات الأرض المحروقة ونهج تدمير المدن لطرد مقاتلي تنظيم الدولة، الأمر الذي يتطابق مع كافة القوى التي خاضت معارك مع تنظيم الدولة في سوريا بمساعدة روسيا والتي اعتمدت على نهج التطهير المكاني وتكتيكات الإبادة.
في هذا السياق إن الحديث عن نهاية تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية لا يعدو عن كونه رغبويا، ولا يتوفر على مصداقية، ومناقض للحقيقة، وذلك بسبب عدم فهم طبيعة التنظيم وازدواجيته، حيث يمكن الحديث عن نهاية مشروع التنظيم السياسي كـ "دولة" تتوافر على هياكل للسلطة والحكم تسيطر مكانيا على مناطق مدنية حضرية رئسية كالموصل والرقة ويستند في عسكريته إلى منظق الحروب النظامية الكلاسيكية ويفرض علي مناطق سيطرته منظومته الحاكمة، بينما سوف يعود التنظيم إلى سيرته الأولة ويحافظ على وجوده كمنظمة تتوافر على إيديولوجبا وهيكل تنظيمي وتمويل يستند بصورة أساسية إلى حرب العصابات وتكتيكات الاستنزاف في المناطق الأكثر صعوبة في العمق الصحراوي، فضلا عن مفارزه الأمنية وخلاياه وشبكاته المنتشرة في المدن.
رغم المكاسب العديدة التي حققها تنظيم الدولة الإسلامية بعد سيطرته على المدن، إلا أن الكلفة كانت باهظة، وسوف يعود إلى استراتيجيته الأساسية التي تستند إلى منطق حرب العصابات التي كان يتبعها قبل سيطرته على أراض في العراق وسورية وإعلانه عن دولة "الخلافة"، وهي إستراتيجية قليلة الكلفة وشديدة الفعالية تقوم على شن هجمات خاطفة عبر مسلحين وعبوات ناسفة وسيارات مفخخة وانتحاريين عبر خلايا التنظيم المتخفية بين المدنيين، فقد طور المجلس العسكري للتنظيم نمطا من الحروب الهجينة، حيث سرعان ما يتكيّف مع التحولات الميدانية وينتقل من نهج اتباع الحروب الكلاسيكية إلى نهج حرب العصابات الذي يعتمد على قوات خفيفة سريعة الحركة ترهق قوات الخصم.
برهنت المعارك ضد تنظيم الدولة عن صعوبة تحقيق نصر على تنظيم الدولة دون استخدام خيارات الأرض المحروقة ونهج التطهير المكاني، ذلك أن التنظيم يتمتع بسلوكية قتالية براغماتية فائقة، ويدير موارده البشرية والمالية وفق استراتيجية تقوم على الإقتصاد في القوة والتقشف في الإنفاق، ويجعل من خسائر القوات المهاجمة فادحة بشريا وماديا ونفسيا، فعسكرية تنظيم الدولة ونهجه الاستراتيجي في الصمود والبقاء تتجاوز التجارب التاريخية فبالمقارنة مع حركات ودول تعرضت لهجمات جوية أقل حدة، وبمشاركة دولية أضعف كنظام حركة طالبان في أفغانستان 2001 ودولة البعث في العراق 2003، فقد فقدت طالبان السيطرة على عاصمتها الفعلية قندهار بعد أقل من شهرين من الغارات الجوية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وضربات قوات المعارضة الموالية للتحالف، أما دولة البعث فقد فقدت السيطرة على العاصمة بغداد بعد أقل من شهر ونصف من الغزو الأنجلوأميركي، على الرغم من توافر عناصر تعتبر أساسية في الصمود كوعورة الجغرافيا وتعقيدات الطبوغرافيا، ووجود الحواضن الشعبية.
في سائر المدن التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية عجزت القوات المحلية من تحقيق تقدم إلا بعد غارات جوية مكثفة وقضف مدفعي وصاروخي يحول الأبنية إلى ركام دون الاعتبار بقتل المدنيين كما يحدث في مدينة الرقة التي تتعرض للقصف منذ حزيران/ يونيو الماضي ووجود أكثر من 50 ألف مقاتل من قوات سوريا الديمقراطية بمكوناتها الأساسية الكردية وفصائل عربية أخرى، وبإشراف مئات من القوات الأمريكية والأوروبية وغيرها، بينما لا تزيد أعداد مقاتلي تنظيم الدولة عن ألفي مقاتل حسب الولايات المتحدة.
أما صور ومشاهد القتل والدمار في معركة الموصل التي انطلقت في تشرين ثاني/ أكتوبر2016 فقد باتت معروفة، إذ لم تتمكن القوات العراقية المسندة من طائرات التحالف الدولي بقيادة أمريكا من استعادتها دون تدمير المكان بصورة شبه كاملة، بعد أكثر من تسعة أشهر من القصف، رغم وجود أكثر من 150 ألف مقاتل من قوات الجيش العراقي وقوات البشمركة الكردية وقوات الشرطة الاتحادية وقوات جهاز مكافحة الإرهاب وسلاح الجو العراقي، وفصائل مليشيا "الحشد الشعبي ــ الشيعي" وفصائل الحشد العشائري السني، فضلا عن قرابة 5 آلاف عسكري ومستشار أمريكي وأوروبي، في مواجهة قرابة 3000 إلى 4500 عنصر من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في المدينة حسب تقديرات وزارة الدفاع الأميركية.
لم تكن مدن الموصل والرقة حالات استثنائية، فقد كشفت كافة معارك المدن عن ذات النهج من التدمير فعملية استعادة تكريت التي بدأت في 15 تموز/ يوليو 2014 بمشاركة 30 ألف من قوات الجيش ومليشيات الحشد الشعبي عجزت عن تحقيق تقدم حقيقي ومنيت بخسائر كبيرة أمام أقل من 800 مقاتل من تنظيم الدولة الإسلامية، ولم تتمكن من التقدم إلا بعد مشاركة القوات الأمريكية بناء على طلب عراقي رسمي، والتي نفذت ضربات جوية عنيفة على مدينة تكريت منذ 25 آذار/ مارس 2015، وعقب انسحاب معظم مقاتلي الدولة الإسلامية قامت مليشيات الجيش والحشد الشيعي بعمليات نهب وحرق واسعة في المناطق التي دخلتها من مدينة تكريت تحت غطاء جوي أميركي.
كما برهنت معركة الرمادي عن صعوبة تحقيق نصر على تنظيم الدولة الإسلامية دون استخدام خيارات الأرض المحروقة ونهج التطهير المكاني، حيث رفعت قوات الأمن العراقية العلم العراقي على ركام مقار الحكومة المحلية المدمرة في مدينة الرمادي عاصمة محافظة الأنبار، في 28 كانون أول/ ديسمبر 2015، وقد أشارت الأرقام والإحصاءات التي صرحت بها وزارة الدفاع الأمريكية إلى فشل القوات العراقية عمليا باقتحام الرمادي، والتي لم تتمكن من الدخول إلا عقب تدميرها وتحويلها إلى ركام، حيث نفذ التحالف الجوي الذي تقوده الولايات المتحدة 630 ضربة جوية على مدينة الرمادي.
تخلص دراسة لمعهد الحرب إلى القول أن تنظيم الدولة الإسلامية مستعد لتحمل خسارة هذه المناطق الهامة ونجاتها بعد ذلك، فقد وجهت الولايات المتحدة القوات التي تدعمها نحو مهاجمة اثنين من أقوى خطوط الدفاع لدى العدو، وما زالت الدولة الإسلامية تسيطر على الأراضي في كلا الدولتين، والأهم من ذلك أنها ستستمر بالحفاظ على قدرتها في اختراق المجتمعات العربية السنية الواقعة تحت الحصار حتى بعد سقوط أكبر قواعدها ودفاعاتها، وتعمل داعش أيضاً على تصدير رؤيتها لمسألة الخلافة إلى فروع خارجية وتحويل أيديولوجيتها عن الخلافة من مجتمع مادي إلى مجتمع افتراضي منظم يعمل على نقل أهداف داعش بشكل مستقل عن المنظمة، وبهذا فإن هزيمة داعش في سوريا والعراق قد لا تكون كافية لهزيمة تنظيم داعش العالمي.
بصرف النظر عن قدرة عسكرية تنظيم "الدولة" الذاتية البحتة، فإن قوة التنظيم الحقيقية ترتكز إلى أسباب موضوعية، وفي مقدمتها الشروط والظروف السياسية لعراق ما بعد الاحتلال، والتي أطلقنا عليها مبكرا "الأزمة السنية"، حيث جرى إقصاء وتهميش السنة من العملية السياسية بطرائق عديدة، وبرزت "المسألة الطائفية"، وسوف تشكل عملية تدمير المدن السنية حواضن مؤكدةلتنظيم الدولة الإسلامية قي ظل غياب أي برامج لإعادة الإعمار وعمليات الإدماج، ذلك أن طرد التنظيم من المدن السنية سوف يبعث بحروب وصراعات بطرائق أخرى، حيث ستبرز أزمة الثقة داخل العراق، وتظهر الخلافات المركبة والمعقدة بين الفرقاء السنة والشيعة والعرب والكرد، والمواطن والدولة والحكومة والأقاليم المتنازع عليها، فضلا عن بروز المسألة الإقليمية والدولية، وطبيعة الدور الأمريكي والإيراني والتركي، ذلك أن أزمة الثقة هي عنوان عراق ما بعد الاحتلال.
الأزمة السنية التي يعتبر تنظيم الدولة أحد مظاهرها، ستظهر مع مرور الزمن، حيث يمكن التوصل إلى نوع من التفاهمات بين الحكومة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة وتقع تحت النفوذ الإيراني وحكومة إقليم كردستان بتبادل وتقاسم المصالح رغم صعوبة ذلك، وربما تقوم أمريكا بالفصل بين القوات في المناطق المتنازع عليها ومعركة النفوذ، لكن أزمة الثقة الكبرى بين السنة والشيعة يصعب تجاوزها، فبروز الحركات السنية الراديكالية هو نتيجة لعمليات الإقصاء والتهميش والقمع الذي تعرض له السنّة في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وهي السياسات التي ساهمت بقوة بانتقال حركة احتجاج المحافظات ذات الغالبية السنّية من العمل السلمي الذي اتّسمت به في فترة 2012-2013، إلى التمرّد الجهادي العنيف.
نهاية معارك المدن السنية بعد تدميرها ستعمل على وضع الأزمة السنية على محك التفجير، نظرا لغياب تصورات سياسية واضحة حول إدارة هذه المدن السنية، وعدم وجود خطط عملية وموارد ومخصصات مالية للتعامل مع مسألة إعادة الإعمار وعودة النازحين، وعلى الأرجح لن تستطيع الحكومة العراقية الوفاء بوعودها للمحافظات السنيّة المدمرة وسوف تتفاقم أزمة الثقة الحادة بين المكونات السنية والشيعية، فالمعركة الحقيقية تبدأ مع انتهاء العمليات العسكرية، حيث تبرز مرة أخرى الجدالات والمطالبات دون حلول جذرية لعراق منقسم لا يزال بعيدا عن الحداثة السياسية وغارق في الانقسامات الطائفية والإثنية، وخاضع للهيمنة الإقليمية والدولية، وبهذا فإن تنظيم الدولة الإسلامية لن يواحه صعوبة كبيرة في إعادة بناء هياكله التنظيمية وتجنيد واستقطاب أعضاء ومناصرين جدد، وقد تكون عودته أسرع مما يعتقد مدمري المدن ممن يئسوا من تحقيق نصر على تنظيم الدولة الإسلامية دون هدم المدن السنية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: