نسرين الغربي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5081
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أعطى الفن الحديث, الذى تولد مع الفكر التطوري العالمي في شتى مناحي المعرفة الإنسانية و مناشئها, علماً وفلسفة وأدباً وتربية وثقافة، وذلك منذ بداية الحركة التأثيرية, وثورتها على تقاليد ممارسة الفن في أوروبا, والتي بدأت بوادرها منذ افلاطون و إستمرت أكثر من ثلاثة آلاف عام, وذلك عندما أطلق أفلاطون نظريته المادية الشهيرة في الفنون الجميلة, في إطار فلسفة الحق والخير والجمال, ووصفها بأنها إعادة صياغة المرئيات المحيطة, في أعمال إتسمت بالمحاكاة والتقليد، مما أعطى هذا الفن الحديث مفاتيح التعبير, بالتجريب المستمر في الفكر والتطبيق, وباتت هناك علامات فنية مميزة, و التي شملت كل صنوف الفن التشكيلي من خلال تفتيت الشكل, وإعادة صياغته في الفراغ، مما دفع أهل الفن إلى البحث عن تلك القوانين الأساسية في نظام بناء العمل الفني الذى يصنعونه, مع تذويب الفواصل بين تصنيفات الفنون التي نادت بها الحضارة الإغريقية, وظلت مستمرة حتى بداية القرن العشرين، فبرزت بذلك الصيغ التشكيلية المتنوعة حيث ، أصبح مسمى الفن التشكيلي محور التعبير الفني الأساسي عند الفنان المنتج. ومن هنا إختلف مفهوم الأشغال الفنية في الفن المعاصر، فأصبح يتقبل هذا المجال مختلف الخامات والتقنيات, التي من خلالها يمكن تحقيق المفاهيم والأفكار والفلسفات والقيم التعبيرية والتشكيلية, التي تجعل منه نقطة تحول داخل العمل الفني المفاهيمى، مما أدى إلى تغير الرؤية والتعبيرية للعمل الفني, لذلك أصبح الفن الغرافيتي مدخلاً هاماً في بناء العمل الفنيو الرؤية الأساسية التي شملت جل الإبداعات.
وما يهدف إليه البحث هو إثبات أن أساليب التعبير الناشئة عن المستحدثات والتغيرات الطارئة على الساحة الفنية، وعلى الأعمال الجرافيكية خاصة التي تسكنها وتوجهها تغيرات ثقافية تتبدل و تتوائم مع عصر ما بعد الحداثة.
ومن خلال ما تطرحه مشكلة البحث من تساؤلٍ وهو: هل يتحول فن الجرافيك المعاصر إلى فن تكيفه وتتحكم فيه ثقافات واتجاهات وتقنيات ما بعد الحداثة أم أنه سيبقى ممتلكاً خطابه ولغته وتأثيره ؟
تعتبر الرؤية الفنية من العمليات المعرفية لدى الإنسان, والتي ترتبط بأنشطة التفكير, والإحساس, والإدراك, فيكتسب المرء من خلالها كم هائل من المعلومات, والخبرات, طوال فترة تفاعله مع البيئة والمجتمع من حوله خصوصا و أن الرؤية الفنية هي إدراك العالم المحيط بالفنان بمفهوم خاص به وحده, سواء أكان هذا العالم عبارة عن شكل، فكرة، حدث إجتماعي، أو معلومة علمية، فهي بمثابة الإطار الذي يحيط بفاعلية الفنان ويوجهها.
حيث إرتبطت طبيعة الفنون عبر التاريخ القديم والمعاصر، بمبدأ التغيير وإعادة صياغته وفقا لما تفرزه مشاهد الإتصال بالواقع المحسوس، فالتعبير عن تلك الصورة، كان يتم من خلال إمكانية الفنان في طرح رؤاه المشابهة للواقع ، عبر صورة تشكيلية غرافيتية ذات رؤية وثيقة الصلة بما يختلج في نفس الفنان من أشكال ومضامين تحمل البعد الجمالي ابتداء من رسوم الكهوف وما حملته من صور متنوعة الأفكار، فقد قَّلد فيها الكثير من الأحداث اليومية والمعيشية التي كان يتعامل معها الإنسان القديم، فقد ''رسم الإنسان البدائي بعض الحيوانات والزخارف البسيطة على جدران الكهوف، ولم يقم برسمها لجمالها كما يقوم بعض الفنانين في مرحلة متقدمة ولكن لاعتقاده انه إذا رسمها فانه سيتغلب عليها في اليوم التالي'' (1)
حيث يمثل هذا التشكيل الغرافيتي جدار تشكيلا فنيًا تتداخل فيه الخطوط و الحروف عبر إيجاد علاقة جمالية وبنائية بين الوحدات الشكلية بتراكب الحروف وتجريدها من صورتها الإيقونية ، ثم تحويلها إلى تكوين ذو دلالة جمالية، وهذا ما عمل عليه الفنان ، ليفرز الانطباع القائم حول مدى أن تؤثر التشكيلات التجريدية في المتلقي أو لا، والخروج عن المألوف في طرح الأشكال والمضامين في المنجز الغرافيتي المعاصر ليصبح ضرورة جمالية.
فهي تتجلى عبر نزعة تجريدية تتراكب فيها الخطوط ضمن محورًا مهمًا يساهم في إنتاج نوع من المحاكاة الجديدة التي تخرج من الإطار التقليدي الى فضاء أوسع أو مستوى مغاير، إذ تتحول الحروف المتداخلة هنا إلى صورة لا مرئية من حيث المضمون أو الدلالة، لأنها فقدت ملامحها الواقعية بفضل الاختزال والتجريد القائم، وتشكلت للكشف عن جمالية الحروف وتخطيطها بخطوط حادة ملونة باللون البنفسجي الغامق ، وكذلك إبراز الجانب التصميمي للحركة، فالحركة هنا جاءت لتفعيل بنية التكوين عمومًا، وكذلك لربط التداخل الحروفي والنزوع إلى جوهر الأثر الجمالي من ذلك التداخل، العناصر الخطية واللونية والشكلية متفاعلة مع الصورة الكلية للتشكيل، حيث تغدو أكثر انسجامًا مع حركة الخطوط التجريدية القائمة على وحدة بنائية تتسم بصرامة الخطوط وحيوية الحركة فيها والتي تشمل العناصر المكونة للرسم الغراافيتي والتي تتعزز بفعل الرؤى والأفكار غير المألوفة.
بالتالي تعد نتاجات الفن الغرافيتي تمثل أعمالا محاكية للواقع عبر مضامين جمالية وفكرية ودينية وإعلانية وسياسية واجتماعية وبيئية ونفعية ونقدية، كما يتسم أسلوب المحاكاة في الفن الغرافيتي بالتلقائية والعفوية تارًة، وبالتنظيم والتخطيط المنطقي تارًة أخرى، إذ تشتغل بنية المحاكاة وصورها، من خلال الاعتماد على مفردات من الواقع أو من عالم الأحلام واللاوعي، بحيث يحقق هدفًا صوريًا (شكليًا) ومضمونيًا محدودًا، فقد كانت محاكاته غائية أي لها هدف محدد. وتتباين مستويات البناء المحاكاتي فيه، وذلك لاعتماده على الذاتية ''ذاتية الفنان'' التي تختلف من فنان لآخر، بمعنى أن محاكاته ذاتية ونسبية من فنان إلى آخر.
حيث أن داخل كل عمل فني عالم داخلي مبني على العديد من العوامل والانفعالات، عالم داخلي تبنيه لحظات الإلهام والانطلاق، يقول بول كلي "نحن نسعى لتسييد الحركة داخل العمل الفني و لسنا بصدد خلق كائنات متحركة، بل على العكس ستبقى أعمالنا ثابتة وواثقة من ذاتها في مكانها، ولكننا سنجعلها في هذا السكون عامرة بالحركة.الصيرورة والتحول لا معنى لهما سوى الحركة، والعمل الفني حتى قبل أن يوجد فإنه يصير " (2)، فالعمل الفني يتخذ -في بعض الأحيان- أوضاعاً تمثيلية تغلف قيمته البنائية الحقيقية، وإذا ما أردنا فهم هذا العمل يجب أن ننتقل من هذا المستوى التمثيلي إلى المستوى الثاني البنائي بغية الوصول إلى الحركة الداخلية.
فقد شهدت الحركة الحداثية في الفنون التشكيلية تحولاتٍ فكريةٍ وجماليةٍ في شتى ميادين الحياة حتى باتت من أهم المفاصل التحولية في تاريخ الفن فما من شكلٍ من أشكال الفن أو أسلوبٍ من أساليبه إلا وخضع لحركة التحول هذه ، معتبراً أن التغير والتحول أصبح سمة العصر الحديث. ولم تكن التحولات الشكلية والأسلوبية في الفن وليدة لحظةٍ ثابتةٍ أو قرارٍ فنيٍ وجماليٍ محددٍ ، فالتحديث في الفن قائمٌ على التحديث الفعلي في حركةٍ متغيرةٍ لا تتوقف.
فالرسم على الجدران قديمًا قدم الإنسان، حيث خاطب الإنسان البدائي الأشياء المحيطة به وذلك برسمها على الجدران ولهذا نجد ان '' تاريخ الرسومات والمظاهر الأولى لهذه الممارسة يمكن ان تعود بقدر ما إلى صور الكهوف الأولى'' (3)، مما ساهم في اكتشاف الكتابة الصورية ثم الرمزية، فقد بدأ بمحاكاة الواقع بطريقة رمزية، وذلك برسم رموز الأشياء على الجدران، وليس الشيء ذاته فهو '' إبلاغ رمزي، يؤطر ما هو زائل، بإطار الأبدي الخالد، كمظهر للعقل والتفكير '' (4) ويعد هذا نوعًا من إعادة صياغة الطبيعة في جوهرها وماهيتها، فقد كان الفكر رمزيًا كونه يعيد بنائيته للأشكال، ولهذا يعد الرسم على الجدران الوسيلة الأولى للكتابة في التاريخ البشري. فما نعرفه عن الحضارات القديمة يعود إلى هذه الكتابات والرسوم.
حيث تعد نتاجات الفن الغرافيتي رؤية معبرة لأعمال لا محاكاتية، ذات مضامين جمالية وفكرية ودينية وإعلانية وسياسية واجتماعية وبيئية ونفعية ونقدية، كما يتسم أسلوب المحاكاة في الفن الغرافيتي بالتلقائية والعفوية تارًة، وبالتنظيم والتخطيط المنطقي تارًة أخرى، إذ تشتغل بنية المحاكاة وصورها، من خلال الإعتماد على مفردات من الواقع أو من عالم الأحلام واللاوعي، بحيث يحقق هدفًا صوريًا و شكليًا و مضمونيًا محدودًا، فقد كانت محاكاته غائية أي لها هدف محدد و لعل هذا ما يتأكد في هذا العمل المصاحب.
حيث تتباين مستويات البناء التشكيلي فيه، وذلك لاعتماده على الذاتية '' ذاتية الفنان'' التي تختلف من فنان لآخر، بمعنى أن محاكاته ذاتية ونسبية من فنان إلى آخر ، مما أسهم في خلق منهج عبر الصورة السيميائية التي تحملها الغرافيتي و تساهم في تعزيز حالة التشظي، من خلال السطح التصويري الذي يحمل طابعًا مميزًا من العلامات والرموز والإشارات تعزز من عملية محاكاته للمجتمع لشرح مفهوم ومضامين هذا الفن لتبرز بذلك أهميته في المجتمع.
ففن الشارع يساهم في فتحه لنافذة تكشف عن أساليب وطرق تنفيذ هذا الفن الذي يحمل في طياته مضامين نقدية ساخرة، من المجتمع ضمن صورة جمالية وعبر أسلوب معاصر يحمل أشكالا مختلفة تتجلى ضمن التحولات الفكرية و الجمالية للمحاكاة في الفن الغرافيتي الذي يحمل القيم الجمالية و دلالاتها الرمزية و الفكرية .
تمثل التصورات الفنية رؤية جديدة تفتح المجال للتجارب و ممارسات فنية مواكبة لكل التغيرات خصوصا و أن الفن يؤثر و يتأثر ضمن عملية أخذ و عطاء تتجلى داخل المجتمعات وفق تغيرات و تحولات حيث أن الفضاء الإجتماعي يمثل فاعلا يقدمه الفن عبر تصورات و خيارات و إنتقادات تمثل رؤية تشكيلية تصل إلى الكشف عن شكل فني فقد مثل هذا الإنفتاح و التحرر المكاني مطلبا أساسيا يسعى إلى بلوغه الأدباء و الفنانين في كل من الرواية و الفنون التشكيلية, حيث أصبحنا نلاحظ ممارسة مكانها واحد، كذلك تدخل مكتنزة بالعديد من الرؤى التي تذهب بك بعيد عن أسس الممارسة وتمدّك بنوع من التأمل والتدقيق في تلك الصيرورة التي أصبح يعيشها الإنتاج الفني في محيطه، فينغمس بذلك الفنان مع الشكل في رؤية تكشف عن قيمة الواقع و تعبر عن وظيفة الفن وفق عناصر خارجية ترتبط بالواقع و تحدث علاقات تشكلية تحمل افكارا تغوص في الخصوصيات الفنية للفضاء و تعبر عن رؤى يحملها ضمن الاثر الفني.
لذلك مثلت اشكالية الجرافيتي من اهم المسائل التي يبحث فيها الفنيون و النقاد خصوصا و انها تعبر عن ايقاع فني يكشف عن ابرز اشكال التعبير المتجاوزة للإطار الكلاسيكي و المدركة لجدليته في سياقات تنفتح على متطلباته الفنية الحاملة لخصوصية يريد الفنان تطويعها بإدخال فن الشارع في فضاء العرض بأساليب جديدة تتماشى حسب الصياغة ووفق الأسلوب و التقنية المستعملة بأبعاد فنية تمثل محور جدلية الفضاء, و بذلك تتجلى التكاملات الفنية التي توظف في صياغة تشكيلية تحول العمل من رؤية تشكيلية تراوح بين الفضاء المفتوح و المغلق, في جدلية تمزج بينهما و تكشف عن بداياته الفنية عبر الفضاء المفتوح والشوارع و الأزقة و الأماكن المهجورة التي تحتضن فن الشارع بالرسم على الجدران ليكون العمل موجها مباشرة للمتقبل.
----------------------
الإحالات:
1- آمال حليم: موجز في علم الجمال ، ط 1 ، مكتبة المجتمع العربي للنشر والتوزيع ، عمان ، 2007 ، ص 29
2- كلي، بول: نظرية التشكيل، ط 1، ترجمة وتقديم: عادل السيوي، القاهرة دار ميريت- 2003 ،ص 359
3- Hanson , Emily S.: Art and Culture – Graffiti as an Original Element of Hip – hop, p. 6
4- زهير وآخران: دراسات في الفن والجمال، ط 1 ، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع ، الأردن ، 2006 ، ص48
-----------
المراجع
- آمال حليم: موجز في علم الجمال ، ط 1 ، مكتبة المجتمع العربي للنشر والتوزيع ، عمان ، 2007.
- كلي، بول: نظرية التشكيل، ط 1، ترجمة وتقديم: عادل السيوي، القاهرة دار ميريت- 2003.
- زهير وآخران: دراسات في الفن والجمال، ط 1 ، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع ، الأردن ، 2006.
Hanson , Emily S.: Art and Culture – Graffiti as an Original Element of Hip – hop.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: