حلول تحتاجها تونس.. استلهاما من الاكوادور وميلونشون
طارق الكحلاوي - تونس المشاهدات: 4024
اذا كان هناك أزمة في تونس فهو في طرح حلول جديدة لمشاكل مستعصية لمنظومة اقتصادية واجتماعية وفوق ذلك سلوكية-قيمية افرزت ثورة وافرزت تعطلها في ذات الوقت. ومن الواضح ان المهمة الاساسية لمشروع اعادة بناء دولة ومجتمع ما بعد الثورة هو دمقرطة الدولة وتحويلها الى تعبير متماهي لمصالح مجتمعها ككل، هذه الدولة التي تم بناؤها بعد الاستقلال وكانت دولة مصالح لوبيات محددة وليس دولة ممثلة لمصالح شعبها. غير انه على وفرة العرض السياسي القائم فان غالبية مضمونه يدافع عمليا عن تواصل خوصصة الدولة وليس دمقرطتها، دولة مغتربة عن مجتمعها.
بكل تأكيد نحتاج حلولا مبنية على اساس وضعنا المحلي، لكن في اي تجربة جديدة هناك مجالا للاستلهام من تجارب اخرى. بالنسبة لتونس، يمكن ان نرى في تجربة الرئيس الاكوادوري كوريا، وفي البرنامج الانتخابي لحركة "فرنسا غير الخاضعة" بقيادة ميلونشون، مع اعتبار كل الاختلافات بينهما وبين الوضع في تونس، افكارا تصلح للاستفادة في سياق مشروع دمقرطة الدولة التونسية.
لنبدأ بالاكوادور. مما لا شك فيه ان هناك فروقا واضحة بين تونس وهذا البلد الامريكي اللاتيني. من بينها ان الاكوادور دولة نفطية ( 40% مداخيل الدولة). غير ان بعض الاجراءات الابداعية التي اتخذها رئيسها كوريا يمكن ان تصلح لدول نامية غير نفطية مثل تونس. حكم الرئيس رافائيل كوريا، وهو في الاساس جامعي في الاقتصاد وأحد طلبة الاقتصادي الامريكي جوزيف ستيغليتز، الاكوادور بعد انتخابه ديمقراطيا لعهدتين متتاليتين منذ سنة 2007 الى بداية العام الجاري. وتم اعادة انتخاب مرشح حزبه خلفا له في الاسابيع القليلة الماضية بما يعكس نجاح تجربته في الحكم. وخلال هذه المرحلة استطاع هذا البلد النامي الصغير ان يتجاوز ازمتين كبيرتين الاولى الازمة المالية الدولية سنة 2008 والثانية تراجع اسعار النفط منذ سنة 2013، وان يقوم فوق ذلك بتغيير دور الدولة ووضع الفئات الاجتماعية المتضررة.
نتائج حكم كوريا تهم تحديدا دمقرطة الدولة الاكوادورية بما يجعلها خادمة لمجتمعها عامة، ويتبين ذلك مثلا بتجاوز سياسة تفقير طويلة الامد، حيث تم التقليص بما يقارب الاربعين في المئة من نسبة الفقر، وما يقارب الخمسين في المئة من نسبة الفقر المدقع، وتضاعف الدخل المتوسط. وتم مضاعفة الانفاق العمومي في ميداني التعليم والصحة. من المثير للانتباه ان كوريا قام بكل ذلك باتباع اجراءات هي على عكس ما يتم النصح به من قبل الهيئات الدولية المالية المهيمنة. اذ مثلا وفي سياق تعديل دستوري اقره مباشرة بعد انتخابه سنة 2008 اصبح "البنك المركزي" الاكوادوري ذراعا اقتصاديا للحكومة وتم انهاء وضعه كمؤسسة "مستقلة"، وهو توجه معاكس للاتجاه العام الحالي الذي يتم الدفاع عنه من قبل اوساط نيوليبرالية عديدة، وتم تشريعه في تونس.
في علاقة بالمنظومة البنكية اقرت كوريا سنة 2009 قانونا يفرض على كل البنوك ان يجلبوا خمسة واربعين بالمئة من مخزونها المالي الى السوق المحلية، وارتفعت النسبة المفروضة هذه الى ثمانين بالمئة سنة 2015، وهو ما يعني ابقاء العملة الصعبة وتحديدا الدولار في السوق المحلية. أخيرا، من بين الاجراءات الاساسية التي ساهمت في تجاوز الازمات ونجاح كوريا هو ايضا اجراء معاكس تماما للسياسات النيوليبرالية السائدة عالميا. ويتمثل ذلك في زيادة متفاوتة في التعريفات الجمركية على اغلب الواردات، على الضد من مقررات منظمة التجارة العالمية، بما ادى الى زيادة في نسبة النمو بما يتجاوز سبعة في المئة بين سنتي 2015-2016.
باختصار كان كوريا يعتمد سياسة اقتصادية تضع في المرتبة الاولى مصلحة المجتمع الاكوادوري خاصة اذا تعارضت مع الاجراءات النيوليبرالية التي يتم تشجيعها في الخارج. في المقابل تنجر تونس الى التفريط في ادوات الدولة المالية والبنكية وفي مفاوضات لمزيد التخلي عن اي مداخيل جمركية على واردات الاتحاد الاوروبي. وهذه مواضيع مقدسة تقريبا بين غالبية الطيف السياسي في تونس، ومثلا كانت الاجراءات الناتجة على دفع القسط الثاني لصندوق النقد الدولي الاسبوع الاخير في تونس، وانصياع النخبة الحاكمة لقرار "انزلاق" الدينار امام العملة الصعبة في وضع سيعقد من التضخم وتعمق الميزان الجاري، من خلال انفلات التوريد. المشكل هنا في ثقافة الاقتصاديين المحليين والسياسيين السائدة التي تقدس اي حلول قادمة من الهيئات المالية الدولية.
نأتي الى ميلونشون الان، وتحديدا برنامجه الانتخابي الذي اشرف على صياغته فريق شاب ومنفتح محيط به. صحيح ان ميلونشون ينتمي الى اليسار الراديكالي التقليدي، التروتسكي تحديدا، الا ان التيار الذي يقوده "فرنسا غير الخاضعة"، يمثل محاولة في التجديد الاقتصادي والبرامجي على مستوى الشكل والمضمون.
بداية يتمثل التمايز عن اليسار التقليدي في طريقة اعداد رؤية هذا التيار. البرنامج الانتخابي المسمى "المستقبل بشكل جماعي" (L'Avenir en commun) تمت صياغته بشكل تشاركي اتسع بشكل كبير وصل الى الاف المشاركين بهدف تجاوز الاملاء الافقي للحلول من قبل "خبراء". تم ذلك من خلال "جلسات استماع" تضم متداخلين اجتماعيين ميدانيين عديدين، وفتح موقع الحملة لتلقي مقترحات من عموم الناس في عدد من القضايا ذات الاولوية، و"جامعات شعبية" تم فيها تدارس معمق لهذه القضايا وصياغة حلول للمشاكل القائمة، ثم تم تتويج ذلك بورشات لصياغة مشاريع قوانين جديدة تعبر عن هذه الحلول، وايضا ورشات "لرقمنة" هذه الحلول بناء على موارد الدولة.
وبناء عليه تم وضع برنامج شامل يبدأ من تغيير الدستور على اساس انتخاب هيئة تاسيسية وبدء الجمهورية السادسة. لكن بالنسبة للحلول التي تهمنا في برنامج ميلونشون يمكن الاشارة الى ما يلي: بداية سياسة جديدة في التغذية والبيئة تحت عنوان "القاعدة الخضراء" تستوجب تغيير العادات الغذائية بما يفرض تخفيضا في استهلاك اللحوم لاضرارها البيئية والصحية، والتركيز على توسيع مجال العمل الفلاحي بما يخلق مئات الاف مواطن الشغل من خلال التركيز على الفلاحة العضوية ودعم الفلاحة المستديمة المنسجمة مع البيئة (Permaculture) لتعويض هيمنة الشركات الضخمة الربحية الصرفة على الفلاحة وهيمنة الوسطاء والسماسرة في توزيع المنتوجات الفلاحية التي اضرت بالبيئة وبالعادات الغذائية وبالمستوى المعيشي على السواء. هذه النقطة مهمة من منظور تونسي لانها تتوافق مع الامكانات الكبيرة في القطاع الفلاحي التونسي اذا تم توجيه الاستمثار العمومي له بما يمكن من تدعيم الفلاحة البيولوجية والتشغيل بتوظيف الاراضي الدولية الضخمة المتروكة او المستغلة من ذوي غير الاختصاص، وضرب هيمنة المضاربة من قبل الوسطاء والسماسرة بما يضعف القدرة الشرائية للمستهلكين وهامش الربح للفلاحين المنتجين.
سأختم بنقطة اخرى في برنامج ميلونشون تتقارب مع ما يمكن ان نقوم به في تونس، والتي تندرج ضمن محور "اقتصاد البحر". ويتعلق ذلك بتركيز شبكات انتاج طاقة من البحر (hydrolienne/marine current power) ستعمل الحركة المائية في سياق استراتيجيا للانتقال طاقي، بما يوفر مئات الاف مواطن الشغل.
باختصار، هناك امكانية دائما لانتاج افكار جديدة، ومبدعة، في سياق هدف محدد خدمة المصلحة الاجتماعية العامة بتوظيف قوة الدولة. يمكن التوصل الى هذه الافكار اذا تم التحرر من هيمنة نخبة الخبراء الفوقية واعتماد اسلوب تفاعلي اكثر بين عموم الفئات الاجتماعية والمختصين الاقتصاديين. وبناء عليه يمكن ضمان اولية ان تخدم الدولة في سياق شفاف المصالح العامة عوض خدمة المصالح الخاصة الخفية. هذا جوهر الدروس المستخلصة من تجربة رافائيل كوريا ومقترحات برنامج ميلونشون. وهو تحديدا ما نحتاجه في تونس. فليس هناك حلولا مقدسة وجاهزة محتكرة من "الخبراء".
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: