قام الرئيس السبسي بزيارة إلى الولايات المتحدة، تحديدا نيويورك، في الأسبوع الثالث من شهر سبتمبر في إطار القمة الأممية السنوية وأيضا القمة الأفريقية-الأمريكية. قام مساعدو الرئيس بحملة ترويجية إثر نهايتها في تونس على أنها "زيارة ناجحة". كانت أهم حججهم على ذلك، وبكل جدية، ما يلي: تحدث وزير الخارجية كيري في حضور السبسي بالفرنسية بعد أن طلب الأخير منه ذلك. تم تقديم ذلك، حديث وزير خارجية أمريكي بالفرنسية لكي لا يحرج الرئيس التونسي الذي لا يقدر على التحدث في نيويورك بالإنجليزية، على أنه إنجاز خاص. الحقيقة أن زيارة السبسي كانت فاشلة بكل المقاييس سواء ما كان معلنا أو غير معلن.
لنبدأ باللغة. عجز السبسي، والذي قدم نفسه مرارا ككفاءة دبلوماسية فائقة من عصر بورقيبة. عجزه عن التحدث بأكثر لغة دبلوماسية رائجة منذ كان وزيرا للخارجية في الثمانينيات، هو في ذاته أحد العقبات التي تضع حدودا لتواصل ناجع مع الإدارة الأمريكية وأوساط الضغط فيها. إذ اللغة هنا مجال لكسر الحواجز والتأثير. وإثر ما حدث من وضعيات مخجلة في الزيارة السابقة، ماي 2015، حيث اخترع جملا جديدة في سياق تخبطه للحديث بالإنجليزية (the right of man)، ولتفادي وضعية مخجلة جديدة، يبدو أن طاقم الرئيس قام بكل ما في وسعه لتجنيبه تكرار هذا الوضع المهين، وطلبوا من وزير الخارجية الأمريكية التحدث بالفرنسية.
محدودية الكفاءة الدبلوماسية للسبسي أمر واضح. لنأخذ مثلا تحضيره لهذه الزيارة التي تأتي قبل شهرين من عقد "مؤتمر تشجيع الاستثمار الدولي لدعم تونس" في تونس، والذي يراد منه جلب مشاريع استثمارية خارجية ضخمة وكثيفة للبلد. هل الحشد لمثل هذا المؤتمر، في نيويورك، يكون الآن؟ قبل أسابيع قليلة من عقده؟ ما هي التعهدات التي يمكن عمليا أن تقوم بها إدارة أمريكية ستتخلى بعد أسابيع قليلة؟ هل إن برمجة "مؤتمر الاستثمار الدولي" في وقت قريب من الانتخابات الأمريكية وما يفرضه عادة من جمود على الإدارة الأمريكية، وهي التي تضمن بقرض ائتماني الوضع المالي التونسي وقدرة تونس للخروج للأسواق المالية، كان اختيارا موفقا؟
من المعروف أن الولايات المتحدة تعيِش على وقع حملات الانتخابات الرئاسية، وأن أي زعيم دولة يقوم بلقاء المرشحين للانتخابات، وهو ما حصل في حالة عدد من رؤساء المنطقة، مثل السيسي الذي قابل كلا من كلينتون وترامب. فهل سعى أصلا السبسي لتنظيم ذلك؟ أم إنه سعى ولم ينجح؟ في الحالتين لا يعكس ذلك نضجا واقتدارا دبلوماسيين.
نتساءل أيضا على مدى تواصل السبسي وطاقمه مع مختلف المؤسسات والجمعيات التي تمثل قوة ضغط للمستثمرين الأمريكيين.
وبشكل عام هل وضع السبسي، وهو المشرف على السياسة الخارجية لتونس، خطة واضحة المعالم للدبلوماسية الاقتصادية تكون عمادا لدعم "مؤتمر الاستثمار الدولي"؟ أضاع السبسي الوقت في محاولة تمرير مشاريع قوانين لا تخص مجال اختصاصاته مثل "قانون المصالحة" التطبيع مع الفساد، وأضاع الوقت في مبادرة "حكومة وحدة وطنية" طيلة الصيف، ولم يبدأ فريق عمل الحشد لمؤتمر "الاستثمار الدولي" إلا منذ أسبوعين. لوجيستيا أي شخص يقبل هذه المهمة إما يشارك في الفساد أو هو مغفل.
الحقيقة أن الطاقم الدبلوماسي التونسي بقي في حالة شلل طيلة هذه الفترة، حيث تعامل السبسي معه كمجال "نفايات" أو التخلص وإعادة توزيع بعض الوزراء الموالين له والخارجين من الحكومة الأخيرة وهو ما أثار حفيظة "نقابة السلك الدبلوماسي". إذ أشارت في بيان بتاريخ 9 سبتمبر الماضي إلى أنها "تؤكد على تمسكها بمهنية السلك وبحياد المرفق الدبلوماسي والنأي به عن المحسوبية والترضيات والمحاصصات الحزبية بما يخالف الفصل 15 من الدستور"، و"أن تعيينات حزبية في مراكز دبلوماسية أثبتت فشلها في أداء مهامها، بعد فشلها في مناصب وزارية في حكومات سابقة، لافتقارها لعنصر الخبرة الدبلوماسية والتجربة الميدانية الكفيلة بتحقيق أهداف السياسة الخارجية التونسية وانتظارات الجالية التونسية في بلدان الاعتماد".
وقد صدرت في الأسبوع الأخير نتائج التقرير السنوي لدافوس 2016 - 2017، وكشفت أن تونس تحتل المرتبة 133 على 138عالميا في نجاعة سوق الشغل فقط بلد إفريقي وحيد خلفها وهي مصر. وأشار محللون اقتصاديون في تونس إلى "أن كل من الصومال والتشاد ومالي وموريتانيا سبقوا تونس في الترتيب وأصبحوا أفضل منا". ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن من أهم تحسن أو تأخر مؤشرات النجاعة الاقتصادية مكافحة الفساد.
أخيرا هناك مسألتين أخريين في زيارة السبسي لنيويورك تستحقان تركيزا خاصا وتم التعتيم عليهما:
الأول، حضور معز بلخوجة طبيبه الخاص وزوج ابنته اجتماعات رسمية (مع وزير الخارجية الأمريكي ورئيس البنك الدولي) من المفروض أن تكون مغلقة فقط على الوفد السياسي (وزراء، مستشارين، سفير). المشكل ليس في سفر طبيبه معه بل في حضوره هكذا اجتماعات. بروتوكوليا أمر أخرق ويمكن أن ينظر إليه دوليا بأن الرجل في لحظاته الأخيرة بما أن طبيبه لا يفارقه وهي رسالة غير جيدة لمن يريد جلب المستثمرين الباحثين عن استقرار سياسي.
الأمر الثاني، هو أن منظمي الزيارة اختاروا الإنفاق بشكل غير معقول في وقت تعاني فيه الدولة أسوأ عجز منذ سنوات، ويزايد فيه السبسي ووزيره الأول (مقصودة) على التونسيين بالتقشف. بمعزل عن تكاليف الطائرة الرئاسية اختيار إقامة كامل الوفد من السبسي إلى كل الوفد المرافق في أفخم نزل وأكثره غلاء في قلب مانهاتن نزل Waldorf Astoria، وهو ما يعني اختيار غرف يتراوح ثمنها في الحد الأدنى جدا لليلة الواحدة بين 1300 دينار تونسي و20 ألف دينار تونسي (الدفع طبعا بالعملة الصعبة)، في الوقت الذي يمكن التواجد فيه في نزل أخرى في نفس المنطقة بأسعار أقل، أو لما لا إقامة السبسي في إقامة السفير. بالمناسبة وللمقارنة أقام الدكتور المرزوقي خلال زياراته (باستثناء سنة 2012 عندما تكفلت بالحجز مباشرة سفارتنا في واشنطن) في غرفة في الطابق الأعلى في إقامة السفير (وهي محترمة ويوجد مصعد)، وأقام وفد صغير من معاونيه في أحد النزل، أربعة أشخاص في غرفة واحدة. وتناول الطعام في كثير من الأحيان في مطاعم للأكلات السريعة.
السبسي تعود الآن على الإنفاق الباذخ مثل تكاليف إصلاح قصر بن علي القديم في الحمامات لقضاء عطلة صيف قصيرة في الوقت الذي يستوجب الظرف تقديم المثال خاصة في ظرف الأزمة الحالي. السؤال الآن هل سيتحدث أحد عن تكاليف هذه الزيارة مثلما كان يتم سابقا المبالغة والتشهير في كل مكان خاصة أن ما يحدث في هذه الزيارة يستحق فعلا التشهير؟!
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: