البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

انتصار الروح

كاتب المقال فتح الله قولن - تركيا / أمريكا   
 المشاهدات: 2697



الإنسان يمثل في هذه الدنيا قوتين مختلفتين عن بعضهما؛ هما الروح والجسد. هاتان القوتان قد تجتمعان في بعض الأحيان وتشكّلان كيانًا موحَّدًا متكاملاً، لكنهما على تناقض فيما بينهما على الأغلب؛ فإذا انتصرت إحداهما فذلك يؤدي إلى هزيمة الأخرى. إن الروح في جسم استعرت فيه الرغبات الجسدية، وبلغت من الغليان مبلغًا بعيدًا، ضعيفة هزيلة وأسيرة لا تريد عتقًا من براثن الرغبات البدنية؛ بينما لو ثارت على شهوات النفس ونوازعها، ونُصِّب القلب سيدًا على العقل، والروح حاكمةً على الجسد، فإن الروح تتخطى ألف متاهة ومتاهة بقفزة واحدة، وتبلغ أفق الخلود.

إن بلدًا انهار في ميدان الروح، لا فرق بينه وبين المقبرة حتى لو زُيّن كل ركن من أركانه بمئات من أقواس النصر وهياكل التنانين. إن عالمًا لم يرتفع بنيانُه على أنفاس انتصارات الروح؛ ألعوبة في يد القوة الطاغية والجبروت الغاشم... وإن ثقافة لم تنمُ ولم تزدهر في البيئة الفاضلة للروح؛ كساحرة شريرة قطّاعة للطريق أمام الأفق الإنساني... وإن الحشود البشرية التي تعيش في بلد هذا شأنه، أشقياء بؤساء عُمي لا يكادون يخرجون من أزمة حتى يقعوا في أزمة أخرى أشدّ بؤسًا وشقاء. ولكن هيهات للنفوس الأنانية التي لا تفكر إلا في متعتها الذاتية، ولم تستطع أن تربط حياتَها بقيمة إسعاد الآخرين قطّ، أن تدرك هذا المصير الكالح الأليم.

آه... لو نجح هؤلاء البؤساء -ولو مرة واحدة- أن يَفنوا أنانية ونفسًا، فيعرفوا سر التحليق نحو الخلود في أفق الروح.

إن الأبطال الذين ربطوا قلوبهم بأعظم الغايات علوًّا وعمروها بحب الإنسانية، أولئك قد ضبطوا ميزان طاقة القلب، وشحذوا عواطفهم للتحليق نحو أسمى الآفاق، وبلغوا الخلود في قرارة ذواتهم. هؤلاء السعداء الذين استطاعوا أن يتخلصوا من العيش الحيواني بقفزة واحدة وتجاوزوا شهواتهم الجسدية، قد مكّنوا أرواحهم من التحليق، وقلوبهم من الرفرفة والتسامي، وحققوا انتصارات متعاقبة للروح في أبعادها الإنسانية رغم أنف النفس ونوازعها.

إن بلدًا انهار في ميدان الروح، لا فرق بينه وبين المقبرة حتى لو زُيّن كل ركن من أركانه بمئات من أقواس النصر وهياكل التنانين. إن عالمًا لم يرتفع بنيانُه على أنفاس انتصارات الروح؛ ألعوبة في يد القوة الطاغية والجبروت الغاشم...
إن القويّ والمنتصر الحق، من قَوي على نفسه وانتصر عليها، أما الأرواح الشقية التي لم تتخلص من أسر النفس ورغباتها القاتلة، فهي مهزومة حتى لو فتحت العوالم كافة. فلو دانت لمثل هؤلاء الأرضُ كلها، من أولها إلى آخرها، لا يمكن أن يُسمَّى ذلك الاحتلال فتحًا؛ بل إن بقاءهم في الديار التي احتلوها لمدة طويلة، مستحيل.

عندما لطم "نابليون" العلمَ والفضيلة في شخص الفيلسوف "فولني" مأخوذًا بجنون العظمة، ظنًّا منه أنه بات ملك العالم الأوحد، ليت شعري هل أدرك أن هذه الهزيمة في الروح، هي أشد مرارة وأعظم خزيًا له من الهزيمة التي مُني بها في "واترلو"؟(1).

وإن "مرزيفونلي مصطفى باشا"(2) قد تعرض للهزيمة في نفسه أولاً قبل أن يتعرض لها جيشه في "فيينا" بكثير. تلك الهزيمة الأولى في تاريخنا -التي بدأت في روح القائد ثم شاعت في الآفاق- لم تُطِح برأسه فحسب، بل علّمت أكثر الجيوش عظمة وشجاعة في العالم يومئذ ما لم يكن يعلمه حتى ذلك اليوم... علّمته الفرار. وكذلك قلب الأسد "يلديريم بيازيد خان"، لم ينهزم في "شوبوك"(3) أصلاً، بل انهزم حين استهان بغريمه وحسب نفسه سلطان العالم الأوحد... وآخرون وآخرون.

بالمقابل، لم يكن "طارق"(4) منتصرًا حقيقيًّا حينما انطلق بحفنة من أبطاله البواسل متجاوزًا برج هرقل، ثم متغلبًا على تسعين ألف جندي من جنود الإسبان. بل عندما وقف في "طليطلة" إزاء كنوز الملِك وخزائنه هاتفًا: "احذر يا طارق، لقد كنت بالأمس عبدًا، فأصبحت اليوم قائد مظفرًا، وغدًا ستكون تحت التراب". أجل، في تلك اللحظة، لما زأر في نفسه بهذا الزئير، وحلق بروحه هذا التحليق، كان منتصرًا حقًّا.

كذلك السلطان "يافوز سليم"، ذاك الذي كان يرى الأرض ضيقة على ملِكين، لم يكن فاتحًا مظفرًا حقًّا عندما كان يهز أرجاء الأرض بجيشه الفاتح المعظم، فينزع تيجان ملوك من على رؤوسها ليضعها على أخرى، بل كان فاتحًا حقًّا؛ عندما عاد من نصر "الريدانية"(5) يحمل وسام سلطان العالم الإسلامي الأوحد، حتى إذا وصل أبواب إسطنبول، وعلم أن الرعية قد استعدت لاستقباله مصفّقة مهللة مكبّرة، أبى أن يدخلها حتى لا يرى هذا الاستقبال الفخم، وانتظر حتى جاء الليل ونام الناس، ثم دخل العاصمة بصمت وهدوء. بل كان قائدًا مظفرًا حقًّا؛ حين تلوثت -أستغفر الله، بل تعطّرت- عباءته بوحل تناثر من حوافر دابة شيخه، فأوصى بأن تكون تلك العباءة غطاء لتابوته بعد وفاته.

وكذلك القائد الروماني "كاتون"، لم يكن منتصرًا حقيقيًّا عندما هزم جيوش قرطاج، بل كان منتصرًا حقًّا وفاتحًا تربع على عرش القلوب، حين قال بعد أن ردّ ملابس القيادة وأوسمتها وجيشُه يدخل العاصمة وسط هتافات النصر المدوية: "لقد حاربت لكي أخدم أمتي، وقد قمت بواجبي، والآن أعود إلى قريتي".

إن الجذور مهمة للأشجار في نموّها وامتدادها، وكذلك التضحية للإنسان، تضحيته المادية والمعنوية. فالأشجار تنمو وتمتد بقدر قوة جذورها، كذلك الإنسان ينمو ويمتد ويسمو حتى تلامس هامتُه أطراف السحاب بقدر تجرده من مصلحته الشخصية، وانسلاخه من حب الذات والأنانية، وإيقافه لنفسه من أجل الآخرين.

"لم أذق لذة من لذائذ الدنيا طوال حياتي التي تجاوزت الثمانين، لقد مضى عمري كله في ساحات الحروب وسجون الأسر وفي ميادين شتى من الآلام والمعاناة، لم يبق أذى إلا ذقته، ولا مرارة إلا تجرعتها. لا حبّ للجنة في قلبي ولا خوف من النار. لو أرى إيمان أمتي قد بلغ بر الأمان، فإنني أرضى أن أحرق في لهيب النيران. نعم، جسدي سيحترق ربما، لكن قلبي سيكون روضة من رياض الجنان" (بديع الزمان سعيد النورسي). ما أعظمه من نشيد قدسي يبشر بانتصارات الروح.

(*) نشر هذا المقال في مجلة سيزنتي التركية، العدد:54 (يوليو 1983). الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.

الهوامش

(1) معركة واترلو: معركة فاصلة في 18 يونيو 1815 في قرية واترلو قرب بروكسل عاصمة بلجيكا. وهي آخر معارك نابليون بونابرت، حيث هزم فيها هزيمة نكراء. وتعتبر هزيمة واترلو، الفصل الختامي لإمبراطورية نابليون الذي عاد إلى باريس وتنازل عن العرش وتم نفيه إلى جزيرة سانت هيلينه. (المترجم)

(2) وهو الصدر الأعظم العثماني الذي قاد الجيش العثماني في محاصرة فيينا الثانية عام 1683، حيث انهزم الجيش العثماني هزيمة مريرة حكم بعدها على الصدر الأعظم بالإعدام. وجاءت الهزائم في العقود المقبلة متتابعة، وبدأت أراضي الدولة العثمانية تنحسر في أوربا شيئًا فشيئًا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1914-1918. (المترجم)

(3) معركة شوبوك أو معركة أنقرة كما اشتهرت في التاريخ العثماني، وقعت في عام 1402 بين الدولة العثمانية بقيادة السلطان يلديريم بيازيد، والدولة التيمورية تحت قيادة تيمور لنك، وانهزم فيها الجيش العثماني، ووقع بيازيد أسيرًا في يد تيمور لنك، حيث توفي بعد ثمانية أشهر في الأسر. وعاشت الدولة العثمانية بعد تلك الهزيمة حالة من الفوضى والتراجع مدة طويلة، إلى أن جاء السلطان محمد الأول فأعاد بناء الدولة من جديد. (المترجم)

(4) وهو القائد المسلم المشهور طارق بن زياد، الذي قاد الفتح الإسلامي للأندلس عام 711 م. (المترجم)

(5) معركة الريدانية كانت في عام 1517 بين الدولة العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول (يافوز سليم) ودولة المماليك بمصر. (المترجم).


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

مقالات، تأملات، الروح،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 23-09-2016   مجلة حراء- تتبع المجموعة الإعلامية لفتح الله قولن

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
محمد أحمد عزوز، محمد الياسين، سامح لطف الله، عبد الله الفقير، ياسين أحمد، محمد عمر غرس الله، خبَّاب بن مروان الحمد، صفاء العراقي، جاسم الرصيف، مراد قميزة، عبد الغني مزوز، حميدة الطيلوش، عمار غيلوفي، الناصر الرقيق، إسراء أبو رمان، د - الضاوي خوالدية، عراق المطيري، محمود سلطان، العادل السمعلي، أبو سمية، د. كاظم عبد الحسين عباس ، محمود فاروق سيد شعبان، د- هاني ابوالفتوح، صلاح المختار، د - المنجي الكعبي، أشرف إبراهيم حجاج، يحيي البوليني، فوزي مسعود ، عبد الله زيدان، إيمى الأشقر، د. صلاح عودة الله ، محمد يحي، علي الكاش، طلال قسومي، تونسي، سامر أبو رمان ، فتحـي قاره بيبـان، منجي باكير، وائل بنجدو، مجدى داود، كريم فارق، محرر "بوابتي"، ضحى عبد الرحمن، حسن الطرابلسي، ماهر عدنان قنديل، خالد الجاف ، إياد محمود حسين ، كريم السليتي، أحمد النعيمي، د- محمود علي عريقات، د. عبد الآله المالكي، رشيد السيد أحمد، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، د - مصطفى فهمي، محمد اسعد بيوض التميمي، حسني إبراهيم عبد العظيم، مصطفى منيغ، محمد العيادي، د. أحمد بشير، د- جابر قميحة، د.محمد فتحي عبد العال، مصطفي زهران، د. طارق عبد الحليم، سلام الشماع، د. ضرغام عبد الله الدباغ، د - محمد بنيعيش، الهيثم زعفان، رضا الدبّابي، فهمي شراب، سلوى المغربي، محمود طرشوبي، سيد السباعي، صلاح الحريري، سليمان أحمد أبو ستة، عزيز العرباوي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، صفاء العربي، د. مصطفى يوسف اللداوي، عبد الرزاق قيراط ، حسن عثمان، د - صالح المازقي، الهادي المثلوثي، يزيد بن الحسين، محمد الطرابلسي، د - عادل رضا، عمر غازي، عواطف منصور، سفيان عبد الكافي، د. أحمد محمد سليمان، أنس الشابي، محمد شمام ، أ.د. مصطفى رجب، رحاب اسعد بيوض التميمي، فتحي العابد، صالح النعامي ، أحمد الحباسي، رافع القارصي، د. خالد الطراولي ، حاتم الصولي، فتحي الزغل، نادية سعد، رافد العزاوي، أحمد بن عبد المحسن العساف ، أحمد ملحم، د - شاكر الحوكي ، د - محمد بن موسى الشريف ، سعود السبعاني، د- محمد رحال، د. عادل محمد عايش الأسطل، المولدي الفرجاني، أحمد بوادي، علي عبد العال، صباح الموسوي ، رمضان حينوني،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة