كان يوما فاصلا بلا شك، تغيرنا بعده جذريا، تكشف ما بداخل بعضنا من قبح وتكشفت بقايا الضمير لدى آخرين، لم نعد نحب شهر أغسطس لآن المرارة والوجع يعتصرنا ونحن نتذكر مأساة فض اعتصام رابعة التي كسا الدم كل جوانبها وجعلها ذكرى نهرب من استدعائها لأنها تعيدنا للحظة سعار وجنون رأينا فيها من يرقصون على الأشلاء ومن يطربون وهم يسمعون عن مزيد من الضحايا الذين أفنتهم المحرقة.
لم نكن نعلم أن بيننا من يقبلون ويباركون قتل إنسان طالما أنه يخالفهم الرأي، لم نكن ندري أن هناك من نزلوا يطالبون بالقتل والتنكيل تحت دعوى حماية الوطن، لم نتخيل أن الحلم سيتحول لكابوس دامي لتبتعد مصر عن مسار الثورة ويصير بينها وبين ركب الإنسانية شوطا طويلا من البعاد.
كنا نعلم أن إراقة الدماء ومباركة القتل ستغرق المصريين في بحر الكراهية المقيت، تمزقت العلاقات بين الناس وسقط الأقارب والأصدقاء والجيران في فخ الكراهية، مزقت السياسة أواصر الود والمحبة وصنعت مجتمعا جديدا يتنابذ فيه الجميع ويتصارعون، تعمقت الجراحات وضاعت قضية الثورة الحقيقية بين المزايدات والتخوين وضيق الأفق.
صار الجميع يلوكون كلمة الثورة، هذا يرى الثورة نصرة جماعته وحزبه وأيدلوجيته وهذا يرى الثورة إعادة الماضي وتمكين الفساد والانتقام وهذا يرى الثورة تجاوز الطرفين ولملمة الجراح للعبور للمستقبل.
خسرت مصر بلا شك، لكن الحقيقة أن الكل قد انهزموا بلا استثناء، انهزم من باركوا القتل لأن الدماء لم تصنع سوى السواد، وانهزم من تحجرت أفكاره وتجمدت معتقدا أن هذا هو الثبات الذي سيقود للنصر فما لقي غير الخذلان وتجاوزه الزمن، انهزم من لاذوا بالصمت فقد طالتهم شظايا الانفجار الكبير وعرفوا أن الصمت لا ينجي أحدا من الدمار.
هنا مجتمع بائس لا يستطيع أهله أن يدركوا أن الزمن لا يتوقف عند لحظة مهما كانت ضخامتها وكارثيتها، هنا قوم لم يدركوا حتى الآن أنهم في سفينة واحدة. إما أن تنجو بالجميع أو تغرق بهم دون استثناء، هنا بشر لا يريدون التعلم من تجارب بلاد سبقتهم في تعاطي الكراهية وما لبثوا أن استفاقوا لكن بعد أن خربت بلادهم وشقي حالهم وعظم مصابهم، هنا من يصرون أنهم لن يستطيعوا الحياة إلا إذا أفنوا المخالفين لهم، هنا من يظنون أنه يمكنهم إبادة فصيل من بني وطنهم ثم يهنأون بالعيش بعدها في سلام!
ثلاث سنوات يبدو أنها لم تكن كافية ليستفيق الجميع من أوهامهم ويكفروا عن خطاياهم، الذين ينسبون أنفسهم للثورة جل معاركهم فيما بينهم، يتطاحنون ويوزعون صكوك الوطنية ويخونون بعضهم البعض في بؤس بالغ، أما من طمست فطرتهم وشاركوا بالتأييد فما زال كثير منهم يكابرون ويخجلون من العودة لإنسانيتهم فيبررون ويبررون حتى أصبحوا بما يفعلونه سببا لاستمرار القبح وتشوه الحياة لأنفسهم ومن حولهم!
يحتكر بعضهم إطار الحل ويهاجم من لا يتبنى طرحه، لكن الحقيقة أن مشكلتنا صارت أعمق من الاختلاف على طرح سياسي ما، نحن مرضى بالكراهية ومولعون بالانتقام والتشفي، نحن لا نتخيل أننا سنسامح يوما من ظلمنا وسيسامحنا غيرنا حتى يمكن للمجتمع أن يتعافى من داء الكراهية والشقاق.
لا حل سيخرج للوجود دون أن نتداوى ذاتيا مما أصابنا من تشوه، وندرك أن شيطنة الآخرين لن تنتهي سوى بمزيد من البؤس، لا يعني هذا تضييع الحقوق ولا إفلات من أجرم فحق العفو ملك لمن أصابه الضرر فقط، لكن معركتنا الأولى هي إعادة التلاحم بين المصريين وكسر الحواجز النفسية التي أصابت هؤلاء وهؤلاء، ليس الأمر بالسهل لكنه التحدي الأكبر قبل أي طرح سياسي جديد.
لن يتعاطى الناس أي طرح سياسي جديد قبل أن تتطهر قلوبهم من الكراهية، كيف نفعل ذلك؟
إن التبشير بالنجاة من السواد يجب أن يقترن بالتهيئة النفسية للناس وغرس قيمة التعايش وقبول المختلف ومعرفة أن المصير واحد مهما كان الماضي أو الحاضر.
سيوحد الألم الناس، وستعيد المعاناة الجمعية التي لا تفرق بين مؤيد ومعارض مزجهم وصهرهم مرة أخرى، سيدرك الناس عظم ما ارتكبوه في حق أنفسهم وأبنائهم ووطنهم، وحينها سيطمحون في غد أفضل، فلنحارب الكراهية أولا، وبعدها سيعرف الناس الطريق بمفردهم، رحم الله كل من مات ظلما، وعجل بعقاب كل ظالم، وهدانا لخير السبيل ..
------------
وقع تحوير طفيف بالعنوان الأصلي للمقال
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: