كان مصطلح "الانقلاب" مصطلحا شديد الوقع على قارئ يوصّف الحالة التونسية ويستحضر منذ ثلاث سنوات المشهد المصري حيث ما كان يمكن مقارنة المذابح التي ارتكبها الجنرال الانقلابي هناك في حق الشرعية بالمسار المعقد للمشهد التونسي. لكن اليوم، ومع إعلان رئاسة الجمهورية عن ضرورة الدعوة إلى حكومة وحدة وطنية، وتلميح الجميع بما فيهم محافظ البنك المركزي إلى إمكانية إفلاس بعض البنوك، وإلى أن الحال المالي خطير وخطير جدا، فإن الوضع لا يدع مجالا للشك في أن الدولة العميقة التي قادت الثورة المضادة على مهد ثورة الغضب العربية توشك على الانهيار.
أما تزكية الحليف "الإسلامي" لمطلب مُمثل الثورة المضادّة في الحكم فهي تؤكد معطيين أساسيين: الأول هو أن الوضع خطير فعلا، وأن البلاد على شفا حفير عميق جدا. وأما المعطى الثاني فيتجلى في انحسار خيارات "حركة النهضة" بعد أن تحالفت مع ممثل دولة العمق، ورهنت نفسها بشكل لصيق بقرارات المجموعة الحاكمة وهو ما يجعل من التزكية المطلقة حلا أوحدَ خشية تحمّل مسؤولية الانزلاق الذي ينجم عن النقد أو التشكيك في خيارات الحزب "نداء تونس" الوريث الثوري لنظام بن علي.
الدولة على وشك الانهيار، أو بتعبير أدق فإن الانقلاب الناعم على وشك الانهيار لأنه تحقق على حساب شعارات ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر الخالدة عبر انتخابات مزيفة باعتراف الدولة العميقة نفسها. فبقطع النظر عن الجُبن الذي أحاط بردود أفعال "الترويكا" الحاكمة ومجمل النخب التونسية غداة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية حيث لم يجرؤ واحد منهم على التصريح علنا بأن الانتخابات كانت مزيفة عموديا وأفقيا، فإن الوقائع اليوم تؤكد أن منظومة الفساد السابقة للثورة هي التي لا تزال تمسك بزمام الأمور في مهد الربيع العربي.
اليوم، واليوم فقط، ندرك أن الوضع القائم في تونس وكذلك في مصر ـ بشكل أكثر حدّة ـ لا يختلف عن الوضع السابق للانفجار الكبير، وأن الدولة العربية العميقة بأذرعها المختلفة قد نجحت في حرف الثورات عن المسار المراد لها ومنعها عن بلوغ الأهداف التي رسمها وعي الجماهير بضرورة تبديد أوهام الاستبداد وجرائمه.
من جهة أخرى، حفلت منصات النخب التونسية بالتهليل لإسقاط الحكومة والدعوة إلى تكوين حكومة جديدة يسيل لها لعاب نُخب بن علي وقد تربّت في حضن الاستبداد، ورضعت من ثقافته، وتشكلت على ردود الأفعال التي أرادها لها. صرّح الجميع بأنه لابد من مرحلة إنقاذ جديدة في نسق دوري لا ينتهي إلا بإنقاذ الإنقاذ نفسِه من الإنقاذ أي تدوير الوهم والإيهام بأن الجديد قادر على إخراج البلاد من الأزمة العصيّة التي تمر بها. البعض ممن بارك الانقلاب التونسي الفاشل الذي تلا الانقلاب الدامي في مصر ممن شاركوا فيما يسمى تونسيا بـ"اعتصام الأرز بالفاكهة" صيف 2013 لم يتردد في قبوله للتضحية وتلبية نداء الواجب لو اختير للمهمة المقدسة.
نقول دائما إن ولاعة البوعزيزي المباركة قد أنجزت أعظم أفعالها عندما عرّت النخب التونسية والعربية عامة خاصة تلك المتاجرة بحقوق الإنسان وبالمقاومة والممانعة وكشفت زيف الإيديولوجيات السياسية التي لم تكن غير حوانيت للاسترزاق الرخيص على دماء الفقراء والشهداء والمسحوقين.
اليوم لا يكتفي فعل الولاعة السحري المتواصل بتعرية جشعها وتكالبها على المناصب والامتيازات ثم المتاجرة بهموم الفقراء، بل يعري خاصة فشلها وعجزها عن إنجاز المسار الانتقالي والذهاب بالبلاد نحو حفير الإفلاس والفوضى عبر التحالف بين قوى المال الفاسد وبين تجار الإيدولوجيا السياسية وبائعي الشعارات البرّاقة.
"بن علي" رغم كل جرائمه فإنه كان الرجل الوحيد الذي أتقن التعامل مع النخب السياسية التونسية بأن دجّنها فأحسن تدجينها، لكنها اليوم وقد أطلقت من عقالها تعود من جديد إلى إعادة إنتاج الاستبداد.
الانهيار التونسي اليوم لا يمثل انهيارا للدولة الوطن كما توهم به منظومة العصابات الحاكمة والمتحالفين معها، بل هو انهيار للدولة بما هي منظومة استبدادية توهم بوجود الدولة وبوجود المؤسسات، في حين انكشفت بعد هروب الرئيس السابق عن مجموعة مترابطة ومقننة من أدوات النهب المنظم والفساد المقنن وتطويع كل آليات السلطة من أجل ذلك وهي ما اصطلح عليه في المعجم الثوري التونسي "بدولة الفساد".
ما الحل إذن؟ فقد نزع المسار الانتقالي نحو استعادة دولة الفساد واستنساخ الاستبداد بتشكيل ثوري تطور إلى حدود فرض "منطق الأمر الواقع"، وفرض نخب نجح النظام العالمي في تسويقها على أنها كانت طوق نجاة الثورة التونسية، مستحضرا بشكل غير مباشر حالات الفوضى التي تعم مجالات أخرى من مجالات الربيع العربي.
"جائزة نوبل" التي منحها النظام الدولي العالمي "للرباعي الراعي للانقلاب" ـ على حد تعبير نشطاء الفضاء الافتراضي في تونس ـ هي عنوان آخر من عناوين إسناد أنظمة الوكالة العربية دوليا. وهو إسناد يوازيه إغراق متعمّد للدولة بالقروض الاستعمارية المجحفة في حق أجيال قادمة. هي قروض تسند لبلد عاجز عن السداد، وهي تُدفع من أجل تسديد قروض أخرى متخلدة بذمة اقتصاد النهب الوطني، أي أنّ القروض المزعومة لن تغادر خزائنها، ولن تخرج من الصندوق المقرِض بل سيذهب بعض منها إلى جيوب الإقطاعيين أنفسهم الذين يسيطرون على ثروات تونس واقتصادها منذ نصف قرن من الزمان بعد أن مكنهم الاستعمار من ثروات البلاد اعترافا بخدماتهم في التمكين له.
نجاح الفساد في أعلى الهرم وازاه فساد أعظم في أسفل الهرم من خلال الجرائم الكبرى التي ارتكبتها النقابات العمالية عبر آلاف الاعتصامات والإضرابات التي ركعت الاقتصاد وأدمت خاصرة المجتمع، وهو ما جعل النظام الدولي يمكّن "اتحاد الخراب وقطع الأرزاق" ـ كما يسميه الشباب التونسي على مواقع التواصل الاجتماعي ـ من جائزة نوبل.
لا حل اليوم غير مصارحة الشعب التونسي بحجم الجريمة وتحييد النخب الفاسدة ومحاسبتها بعد الفشل الذريع الذي خططت له منذ تسلمها مقاليد الحكم، ومحاسبة العصابات التي تهدد بإلقاء البلاد في أتون أزمة قاتلة قد تنفتح على ما لا يحمد عقباه من الاحتمالات خاصة وأن فزاعة الإرهاب والتهديدات الإرهابية لم تعد تجدي نفعا بعد انكشاف تورط النظام السابق وبقاياه في هندسة أغلب الجرائم الإرهابية التي ارتكبت منذ الثورة بما فيها إرهاب قناصة النظام، وإرهابه الإعلامي الذي لا يتوقف.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: