ألفة خليفي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3598
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يعتبر التطور العلمي السريع الذي نشاهده في عصرنا الراهن و ما يعكسه ذلك من تبدلات وتحولات جوهرية تتجلى في كل مناحي الحياة الفكرية و الإجتماعية ، فقد شاع ما أطلق عليه "النهايات" في الدراسات الإنسانية كنهاية العالم ونهاية التاريخ ونهاية تاريخ الفن وموت الفلسفة، خاصة منها من الفلسفة الهيجلية (1) ، الفن قد مات أو قضى نحبه لصالح الفكرة أو الرؤية النقية وقد أوصى لنا هيجل أيضًا أن الفن قد تحرر الأمر الذي ساهم في تصاعد الجدل و بروزه في هذا السياق حول فكرة موت الفن" و نهاية العمل الفني نفسه.
فقد تميزت مسيرة الفن الطويلة عبر العصور المختلفة بأفكار مشابهة تعرضت بصورة مباشرة أو غير مباشرة تكشف عن أزمات الفن المختلفة من حيث دوره وأهميته ورسالته ، و لعل هذا ما تدعم في العصر الحديث وبشكل خاص في النصف الثاني من القرن الماضي فقد شهد جدلا ونقاشًا واسعا حول مسألة موت الفن أو نهايته، التي كانت تتهم التحولات العلمية المتسارعة بصورة رئيسية خاصة و أن الكثير من الباحثين يرون في التطور العلمي سلطة متعسفة بالفن أفرغته من مضامينه الفكرية والشعورية لصالح الفن كعمليات ذهنية نقية خالصة، المر الذي ساهم في تقويض هدف الفن مما ساهم في توسيع فجوة التواصل بين المرسل والمتلقي وذلك من خلال ما طرح أمام المشاهدين من أعمال فنية اتسمت بالسطحية والتكرار الممل، فقد أصبحت أعمال فنية هدم فيها المعنى, وتفتت الصورة بحجة مواكبة الحداثة العلمية وروح العصر.
لذلك تعتبر فكرة موت الفن أو نهايته أو انتكاسته ليست بالجديدة وليست وليدة الفن الحديث والمعاصر، خاصة و أنه لم ينحصر طرحها في عصرنا الراهن فحسب ، بل هي أفكار وتصورات قد راودت الفلاسفة والمفكرين عبر العصور السابقة، وقد تحكمت بذلك ظروف ثقافية و إجتماعية و إقتصادية وروحية الأمر الذي ساهم في جعلها تفرز أفكارًا متشائمة وبمستويات مختلفة تتعلق بمصير الفن و تبحث في أزمته أو نهايته و لعل هذا ما يتأكد خاصة في رؤية هيجل ومن خلال رؤية فلسفية خالصة، قد توصل إليها و ذلك بتحليله الجدلي التاريخي الظاهراتي لمراحل تطور الفن المتعاقبة بوصفه كائناً عضوياً كالكائن البشري، مستعرضا نموه وتحولاته، بدءا بالفن من خلال مراحله الطفولية والفتوة كما في عهود الفن القديم والكلاسيكي، لتتطور إلى أوج شبابه ورجولته في عصر النهضة العلمي في القرن الخامس عشر حين يتوازن فيه العقل والشعور، و إنتهاء بإنحدار الفن وكهولته وإقترابه من الموت في الحقبة الرومانسية التي طغت عليها العواطف والمشاعر الدينية، تماماً مثل حياة الإنسان في سنين كهولته الأخيرة عندما تتآكل حيويته وطاقته ويلجأ إلى الروحانيات عله يجد فيها خلاصاً وتحديا أمام الموت والانهيار، حيث شهدت مسيرة الفن فيما بعد سلسلة من ردود الفعل الرافضة لتلك التحولات منذ السنوات المبكرة من عصر الحداثة، ومنذ لوحة الغداء على العشب التي عرضها مؤسس الانطباعية ادوارد مانيه بصالون المرفوضين منذ عام 1863 ، خاصة و أن هذه اللوحة ورغم احتفاظها بالمعنى والحضور الإنساني شكلا ومضمونًا إلا أنها أعتبرت تمثل ضربًا من التدمير والاستهجان بالفن، فقد صدم مانيه معاصريه من جمهور ونقاد في تلك اللوحة ، لكونها تعلق أهمية أكبر على الأسلوب منه على الموضوع حيث ركز مانيه في أسلوبه على تشكيل الضوء و الطبيعة و ذلك من خلال تلاعب الأنوار فيها ممهدا للمراحل اللاحقة من الانطباعية التي وظفت الألوان على حساب الحساسية والخيال الفني مما جعل الأعمال الفنية تكتسب فتورًا لصالح الدغدغات البصرية للبقع اللونية المضيئة والموزعة على سطح اللوحة توزيعاً بحتا, ودون أية صلة بدلالات رمزية أو شعورية أو تخيلية ، فلقد أفرزت الحداثة وخاصة الانطباعية أولى صرخات الرفض والتذمر من الفن السائد آنذاك، سواء من قبل النقاد والباحثين والجمهور على السواء .
فالفن عالم مفعم بالصور الحيوية المتنوعة ذات الثراء التناظري الذي يجسد الفرح والانفعالات الإنسانية والتعبيرات الجمالية المتطابقة والمتماثلة بين المرسل و المتلقي (2) وهو ما يحاول الفنان البحث فيه و الكشف عنه بالإنتقال من مرحلة إلى أخرى، إنه تعبير تشكيلي يكشف عن عالم فني يتجسد عبر رؤية إبداعية تتحقق عبرها الخطابات التشكيلية ضمن تأثير لوني وهندسي يجعل من الخاصية المميزة للفن بإعتباره أداة تساهم في خلق منهج فني تنتشر عبره الأحداث وتتجلى من خلاله التوضيحات الفنية عبر صياغة إبداعية متأثرة بالأساليب.
لذلك ظهرت العديد من الصرخات المدوية والمنبهة إلى الحالة الجديدة المنذرة بنهاية الفن وتقويضه بعد أن توغل العلم فيه، خاصة بعد ظهور الثورة الرقمية الالكترونية في نهايات القرن المنصرم، لتقدم صورة أكثر تشاؤمية وإحباطًا إزاء مصير الفن وأزمته التي أثبتها التحليل العلمي عبر البراهين و الأدلة، إذ ينبه هذا العالم أن الثورة الرقمية لم تحدث فقط تغييرا جوهريًا في بنية العمل الفني وبنيته ورسالته فحسب، بل ساهمت أيضًا في تحولات في صورة الفن المعاصر بفعل الثورة الرقمية التي تتجلى عبر إشارات ورموز مختزلة لتغدو هذه الأخيرة رهينة الرقم بعد أن أصبح العمل الفني مجرد عمليات ذهنية خالصة .
فالفن مثله مثل سائر الانجازات البشرية قد لا يخلو من انجازات العابثين في الإبداع والابتكار، إلا أن هؤلاء ليسوا بالضرورة فنانين بل مستمتعين عاجزين، أساءوا للعلم مثلما أساءوا للفن نفسه. وهم أن وظفوا العلم في أعمالهم الفنية، وظفوه بطريقة آلية ميكانيكية سطحية، وإن لم يوظفوه ادعوا تصديهم للدفاع عن الفن التقليدي الصوري بعد أن تقوقعوا في بوتقة التكرار فيه دون تطور، بنفس الوقت الذي لا يمكن فيه إنكارا الدور الايجابي للكثير من الفنانين الذين صرحوا بأن الاكتشافات العلمية قد أوضحت لهم الرؤية وقد أشعلت خيالهم، بعد طوعوها ووظفوها في إبداع فن جديد حيث أبرز ما فيها من خلال مقولته التي تتحدث عن الفن بوصفه فكرة مطلقة لم يمت أو لم يشرف على نهايته كما بينت ذلك بعض الكتابات السابقة التي تقر بنهاية الفن ولعل من أهمها أطروحة هيجل التي برزت و تحدثت حول موت الفن الذي يعتبر جزء من " تاريخ الفن الغربي (3)
و بالتالي فإن التطور العلمي الراهن قد أدى إلى تعديل البناء الطبيعي والاجتماعي والثقافي بصورة مباشرة وجوهرية، وبالتالي لا يمكن إهمال انعكاساته على الفن والعمل الفني، إلا أن انعكاسات العلم ليست العامل الوحيد، فالفن قد تعرض لهجمات أخرى عملت على تقويضه وهدمه، مثل سطوة بعض المنظومات السياسية والاقتصادية التي سعت من أجل السيطرة على عقل الإنسان، وخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة ،ومن تلك الهجمات على سبيل المثال ظاهرة العولمة، وما تفرع عنها من نزعات تدعو إلى هدم التراث وتحطيم الهوية المحلية، بحجج ذات دوافع استعمارية مستبطنة ظاهرها الانفتاح المغري على العالم وتفكيك الثقافات الإقليمية الضيقة.
وطبقًا لذلك فقد برر اجتثاث التراث الإنساني بحجة مواكبة العصر والحداثة العلمية. وبالتالي فقد تفشت النهاية والعبث بالقيم في أذهان الشباب مما أدى إلى نضوب الأفكار والمعتقدات الإنسانية باسم العلم الذي كان برئ من كل ذلك ، فقد فجرت طبقا لذلك محاولات تخريب الفن وإفراغه من مضمونه وغناه الداخلي من خلال أشكال فنية مجهضة، ونظريات مبنية مصطنعة ليس لها صلة بالعلم.
بالتالي فانه ليس من المنطقي أن نسلم أن فن الإنسان العلمي الحديث أصبح ممزقًا بصورة حاسمة وقاطعة، بل الذي تمزق هو إرادة الفنانين أنفسهم في استثمار التحولات النوعية الجديدة التي أحدثها العقل العلمي المعاصر في صياغة فن جديد يحتفظ بصلته الحيوية مع المجتمع، ويستثمر العلم للكشف عن أسرار تلك الحيوية، ذلك أن الفن لم يمت مهما تعرض له من هجمات، إنما الذي مات هؤلاء الفنانون العاجزون عن اكتشاف الجديد بتحولاته المتلاحقه .
------------
المراجع
. (The death of art) ، مؤتمر قدم في إ[طاليا بولونيا بحث بعنوان باريللي ريناتو*
- *A . Danto After the end of art. Contemporary art and the (16) pale of history, the A.W, Mellon Lectures in the fin
.arts, Bollingen series XXXV,
- * Vitz, P.C. (1988) Analog art and digital art: A brain (18) hemisphere critique of modernist painting. Foundations of aesthetics, art and art education. (Eds.) F. Farley & R.W. Neperud. New York
-----------
الإحالات:
1- . (The death of art) ، مؤتمر قدم في إ[طاليا بولونيا بحث بعنوان باريللي ريناتو )
2- Vitz, P.C. (1988) Analog art and digital art: A brain (18) hemisphere critique of modernist painting. Foundations of aesthetics, art and art education. (Eds.) F. Farley & R.W. Neperud. New York: P66.
3- A. Danto After the end of art. Contemporary art and the (16) pale of history, the A.W, Mellon Lectures in the fine
arts, Bollingen series XXXV, 44, Princeton. P. 101.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: