عادة ما تطلق كلمة “إبادة”على سياسة القتل الجماعي المنظمة التي تقوم بها منظمات أو حكومات ،وليس أفرادا ،ضد جماعات وشعوب وأجناس معينة لأسباب طائفية وعرقية ودينية وسياسية وغيرها..وقدعرف التاريخ البشري حروب إبادة ،أي حروب تدمير وفتك ،كما حدث خلال الحربين العالميتين اللتين خلفتا حوالي 70 مليون قتيل ،لكن مصطلح “الإبادة” الحالي أصبح مقترنا بحادثتين فقط هما إبادة اليهود وإبادة الأرمن ،لا أحد يتحدث عن إبادة المسلمين عبر التاريخ.
يجب أن نعترف أن كلمة “إبادة” استعملت لأول مرة للإشارة إلى محاولة النازيين القضاء على اليهود خلال الحرب العالمية الثانية ،ثم استعملت فيما بعد لوصف ما حدث برواندا سنة 1994 من قتل لآلاف أفراد قبيلة التوتسي من قبل أفراد قبيلة الهوتو ،واستعملت أخيرا للإشارة إلى الحرب بالبوسنة حيث اتهم الصرب بإبادة المسلمين ،فضلا عن اتهام الأرمن للأتراك بإبادة 1.5 مليون أرمني سنة 1915 ،ولا تزال هذه القضية تثير قلق وغضب الحكومات في أنقرة ،بسبب تسييسها ،خاصة من خلال تبني معظم الدول الغربية لوجهة النظر الأرمنية ،في الوقت الذي يتجنبون فيه مجرد الحديث عن المجازر وعمليات الإبادة التي تعرض لها المسلمون عبر التاريخ ،بل ولا يزالون يتعرضون لها حاليا.
الجريمة لا تنطبق على الجميع
والحقيقة أن هذه الفظاعات التي ارتكبت – بغض النظر عن صحتها- أثناء محاولات الإبادة لطوائف وشعوب على أساس قومي أو عرقي أو ديني أو سياسي ،صنفت كـجريمة دولية في اتفاقية وافقت الأمم المتحدة عليها بالإجماع سنة 1948 ،ووضعت موضع التنفيذ عام 1951،حيث صادقت عليها حتى الآن 133 دولة.
في هذه الاتفاقية، بموجب المادة الثانية ،تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية ،بصفتها هذه:
1- قتل أعضاء من الجماعة.
2- إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
3- إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.
4- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
5- نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
الغريب من خلال القراءة العميقة لهذه المادة ،نجد أنها لا تنطبق تماما على ما حدث للأرمن قبل قرن من الزمن ،لكنها تنطبق وبشكل رهيب على ما يحدث حاليا لمسلمي الروهينجا في ماينمار أو بورما سابقا ،أو ما يحدث للفلسطينيين على يد اليهود الذين يؤرخون لمقتل ما يقرب من ستة ملايين يهودي على يد النظام النازي لأدولف هتلر.
لوبي الأرمن ينجح بتفوق
سنويا ومنذ 101 سنة يتم تسليط الأضواء على ذكرى مذابح الأرمن التي حدثت في حالة حرب (الحرب العالمية الأولى) ،وطرحها بشكل مأساوي لإثارة الرأي العام العالمي ضد تركيا لإضعاف موقفها دوليا وتوظيف القضية للضغط عليها لكي تعترف بإبادتها للأرمن فتكبل بتعويضات تجهض نموها المتصاعد الذي يثير العديد من القوى الإقليمية والدولية. وللأسف نجح اللوبي الأرمني خاصة في أمريكا في دفع عدة دول أوربية إلى الاعتراف بأن ما قامت به الدولة العثمانية سنة 1915هو إبادة جماعية.
وعند قراءة بعض مواد الاتفاقية ،وجدتُ أنه رغم كثرة مجازر الإبادة الجماعية إلا أنه لم تتم الإشارة إلا إلى البعض منها ،وبانتقاء شديد .وكان تركيز ،ما يسمى بالقانون الدولي الإنساني ،على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ،بحيث لم يعد مصطلح الإبادة مصطلحا وصفيا فحسب بل مصطلحا قانونيا أيضا ،لكنه لا يستخدم بمعناه القانوني في العديد من حالات القتل الجماعي ،لأن استخدامه أوعدم استخدامه قد يسبب صراعا سياسيا وتضارب في المصالح ،وبالتالي هناك الكثير من القضايا التي لا يريد العالم الغربي على وجه الخصوص الاعتراف بها:
– إبادة الأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر)
– إبادة هيروشيما
– إبادة الفرنسيين للجزائريين أثناء الاستعمار
– إبادة اليهود للعرب والمسلمين في فلسطين
– إبادة البوذيين للمسلمين في ماينمار
فيما تم الاعتراف بحالات إبادة بعضنا لم يسمع عنها أصلا: كمجازر “سيفو” وهي عمليات حربية شنتها قوات نظامية تابعة للدولة العثمانية ضد المدنيين الأشوريين في 1915،ومجزرة “سميل” التي قامت بها الحكومة العراقية بحق الأقلية الآشورية أيضا في شمال العراق عام 1933. كما تم الاعتراف بعمليات الأنفال التي قام بها النظام العراقي السابق برئاسة الرئيس صدام حسين سنة 1988 ضد الأكراد في إقليم كردستان ،فضلا عن مذبحة حماه في سوريا ونزاع دارفور ،إلى غاية اضطهاد الإيزيديين على يد داعش العراق.
من الدفاع إلى الهجوم
ألم يحن الوقت بعد لأن يتخلى العرب والمسلمون عن سياسة التبرير وقراءة الأحداث التاريخة بصورة سطحية ،ويتركون موقف الدفاع وسياسة إقناع من لا يقتنع ،ويتوجهون نحو استخدام أسلوب طرح مماثل لطرح الأرمن ،حيث أن ما تعرض له المسلمون وما يتعرضون له حاليا هو أبشع بكثير مما تعرض له الأرمن قبل مئة عام.
لماذا لا يتم تشكيل تكتل دولي مع دعم إعلامي لإبراز الجرائم التي حدثت وما زالت تحدث ضد المسلمين وطرحها سنويا في المحافل الإقليمية والدولية ودفع الدول التي قامت بها للاعتراف بكونها جرائم إبادة ضد الإنسانية مع مطالبتها بدفع تعويضات. ألا يعتبر قتل آلاف المدنيين العراقيين في 1991 وفي 2003 وباستخدام الأسلحة المحرمة دوليا إبادة جماعية ؟ألا يعتبر قتل آلاف المدنيين في سوريا بالطيران الروسي إبادة جماعية ؟ألا يعتبر قتل وتهجير وتعذيب المسلمين في بورما إبادة جماعية ،ألا يعتبر قتل الفلسطينيين يوميا والعدوان على غزة بكل أنواع الأسلحة المحرمة إبادة جماعية؟
إبادة منذ الرسالة المحمدية
وفي التاريخ هناك أحداث مؤلمة طواها الزمن ،مذابح ومجازر وحرق وتهجير لمسلمي الأندلس نسيها العالم أو تناساها. أما الأرمن وأفعالهم ومؤامراتهم ضد دولة الخلافة فهذه عالقة في أذهانهم. وتحظرني هنا الملاسنات الحامية التي جرت بين بابا الفاتيكان الذي كان يدافع عن الضحايا من الارمن ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو الذي دعا البابا فرانسيس إلي تقديم كشف حساب حول محاكم التفتيش في الأندلس والقتلي من المسلمين وحتى اليهود. ألا يذكرون فرنسا ،التي جرمت إنكار إبادة الأرمن ،واحتلالها للجزائر 132 سنة تعرضت خلالها لأبشع أشكال الإبادة ،من تهجير وتعذيب واستيطان وتعدي على الحرمات ومسخ للهوية واللغة والدين..ولحد الآن ترفض فرنسا مجرد الاعتذار عن جرائمها الاستعمارية ،فما بالك بالاعتراف بها ودفع التعويضات. ألا يذكرون مذابح المسلمين في ليبيريا أواخر الثمانينات ومذابح الشيشان على يد الروس وما فعلوخ بعشرات الملايين من المسلمين حين أبادوهم في سيبيريا وفي القرم وفي جبال الأناضول.
هناك عشرات بل مئات المذابح والمحارق وحملات الابادة الجماعية المتكررة في حق المسلمين ،بعضها موثقة بالصوت والصورة وبعضها تم بثه على الهواء مباشرة..ولكن لا أحد يريد أن يتحرك ليحمل الآخر على أن يعتذر أو يعترف أو على الأقل… ليصمت ،لأننا نتعرض إلى حملات اضطهاد وتهجير وتعذيب وتنكيل ومقاطعة وحصار وسجن وقتل..نتعرض للإبادة منذ الأيام الأولى لظهور رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم..ولا زالت مستمرة إلى غاية اليوم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: