البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

مقالات منسية : الإسلام والحضارة العربية: للأستاذ محمد كرد علي

كاتب المقال عباس محمود العقاد   
 المشاهدات: 3137


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


للشعوب مزايا تدل عليها كما تدل الملامح والألوان. وهذا أقصى ما يُستطاع الجزم به في هذا الباب، وكل تجاوز له وتورط فيما بعده يعد خبطًا في الظلام.

أمَّا هذه المزايا: ما هي؟ وبأي مقدار توجد في الشعب عامة؟ وفي أفراده خاصة؟ فذلك ما ليس لأحد طاقة بحصره الآن، وقد يُعْيي الباحثون حصره إلى زمن جد بعيد؛ لأن الصِّفات الخلقية — أول شيء — غير قابلة للحصر «المادي» والضبط المحسوب بالأرقام وما شابه الأرقام.

ثم يجوز أن تعرف الصفة الشعبية على التغليب والترجيح، ولا يتسنَّى بعد ذلك أن نعرف نصيب الفرد من هذه الصِّفة عند التوزيع والتعميم، فإذا قُلت مثلًا: إن العرب كرام، وإن قومًا من الأقوام الآخرين بُخلاء، فقد يتفق أن ترى عربيًّا مُفرطًا في البخل، وأن ترى رجلًا من أولئك القوم الآخرين مُفرطًا في الكرم دون أن تختل القاعدة الشائعة؛ لصعوبة توزيع الصفات القومية في جميع الأفراد على مقاديرٍ متساويات أو متقاربات.

وهذا عدا سبب آخر غير هذا السبب يدعو إلى الاحتراس في الحكم على أفراد الشعوب بما اشتهر من أخلاق تلك الشعوب العامة؛ وهذا السبب هو اختلاط الأنساب والتزاوج القديم بين أجيال الناس من قديم العصور، فلو فرضنا أن ملكة «الفن» مثلًا مقررة مشهود بها لشعب يقيم في إقليم من الأقاليم، فليس في وسعك أن تجزم بانتماء كل فرد يقيم في ذلك الإقليم إلى السلالة الخالصة التي تحدَّر منها عنصرُ الشعب في أصوله الأولى؛ لأن الأب قد يكون مصريًّا والجد من العرب، وقد يكون الآباء جميعًا مصريين، والأم أو الجدة من سلالة غريبة، فلا حصر هنا للملكات والطبائع على وجه التحقيق.

زارني مرة عالِمٌ إسرائيليٌّ وسألني: ما رأيك في دعوى الكمال التي يدَّعيها الجرمان اليوم ويجبهون بها اليهود خاصة، و«الساميين» على الإجمال؟

قلت مازحًا؛ لأن الأمر أقرب إلى المزاح منه إلى الجد: «أنتم شعب الله المختار» قديمًا، والجرمان «شعب الله المختار» في الزمن الحديث، فما شأن الناس يدخلون بين الشريكين المتنافسين؟ هذا خلاف لا يفصل فيه إلا الله.»

والواقع أن الفصل الحاسم في أمثال هذا الخلاف لن يدخل في حدود العِلم الإنساني والمعارف المقررة، وكل قاعدة فيه تبدأ بتقريرها لا تلبث أن ترى شذوذًا قويًّا أو ضعيفًا يطرأ عليها في جانب من الجوانب. وهؤلاء اليهود في بلاد الجرمان نبغ منهم موسيقيون كثيرون، فقيل: إن فنَّ «الموسيقى» مَلكة في الجنس من قديم، وسرعان ما رجعوا إلى مزامير داود لتعزيز هذا الاستدلال.

ولكن ما بال اليهود الإنجليز — كما اعترض بعض المعترضين — لم يَنْبُغ بينهم موسيقيون عظماء، ونبغ منهم ساسة ومصرفيون؟

هنا يظهر أن البيئة لها الشأن الأول فيما يسمونه ملكات الأجناس، فاليهود النوابغ اتجهوا إلى الموسيقى في البلاد الجرمانية لأن الموسيقى مطلوبة محبوبة هناك، واتجهوا إلى الإدارة المالية والإدارة السياسية بين الإنجليز لأن المال والسياسة لهما شأن عظيم بين القوم. والحرية الدستورية تفتح هذا المجال لليهودي الذي يتطلع إلى مستقبل فيه.

وهكذا يقال في جميع المزايا وجميع الشعوب وجميع الشواهد من هذا القبيل، فالحكم فيها مختلط متردد ليس له ضابط محدود، وغاية ما تفيد هذه الأحكام أن نأنس بها في الترجيح والتخمين، ولا نقطع بها في صدد الحقيقة واليقين.

***

وأمامي الآن كتاب يسرني أنه خلا من عيوب الإطلاق في الأحكام و«العصبيات» التي يتوقعها القارئ من عنوانِ موضوعِه، وهو: «الإسلام والحضارة العربية»؛ لأن مؤلفه الباحث الخبير الأستاذ «كرد علي» يكتب للتمحيص، ويؤثره على كل هوًى وإغراء.

فالكتاب لم يقع في مآخذ «العصبية» المذمومة؛ بل تصدى لنقض هذه المآخذ عند الكاتبين عن العرب وعن الإسلام من «الشعوبيين» الذين يجردون العرب من فضائلهم ومزاياهم، ويضيفون الفضائل والمزايا جميعًا إلى غيرهم من الشعوب.

وطريقته كلها تظهر من كلمته في الردِّ على «رنان» حيث يقول في غلط الحس: «مِن الناقدين مَن وقعوا في غلط الحس فحكموا على العرب والإسلام أحكامًا لا مبرر لها، ربما كانوا يعدلون عنها لو ساعدهم الزمن فرجعوا اليوم إلى تمحيص ما دونوا، كما وقع لرنان يوم زار في القرن الماضي جزيرة أرواد، فشاكسه بعض أهلها فهجا أهل الجزيرة بأسرهم، بل السوريين بأجمعهم، بل المسلمين عامة، وقال: إن غلط الفكر هو مظهر خُلق السوريين، وأن الأرواديين قاوموه للبغض المتأصل في قلب كل مسلم لما يقال له علم.

وقال في مناسبة أخرى: إن الذي يميز العالم الإسلامي إنما هو اعتقاد المسلمين أن البحث لا طائل تحته، وأنه قد يؤدي إلى الكفر.

وحكم هذا المؤلف على جميع السوريين بما رأى من انحطاط صيادين مُعدمين في جزيرة صغيرة، وعلى كل مسلم بأنه عدو العِلم والبحث، في نظرته، لا يصح على إطلاقه؛ لأنه بعيد عن المنطق، ولا يتلاءم مجال مع حكمة صاحبه وعلمه الواسع، ونظن رنان وهو يكتب قبل زهاء سبعين سنة لو زار بعض البلاد العربية اليوم لغير رأيه في الحكم على المسلمين، ولرأى كثيرًا من عامتهم قد تحرروا مما سماه تعصبًا أعمى، وألفوا ممارسة الحقائق، وأقبلوا على العلم على اختلاف ضروبه، وكان بعضهم بالأمس ينكرونه ويعقونه.»

فالكتاب لا يقع في أخطاء العصبية، بل هو يصحح أخطاء الواقعين فيها من الكاتبين عن العرب والإسلام، ونهجه في التصحيح هو النهج الذي تراه في هذه العبارة كفيلًا بالإقناع وإظهار الخطأ ظهورًا لا يمتري فيه منصفان، وأنت لا تقرأ هذا الكتاب لترى أن العرب قد استأثروا وحدهم بالمكارم والمحاسن، وقالوا كل ما يقال، وعلموا كل ما يعلم، وكشفوا كل ما يكشف، حتى لم يدعوا للشعوب كلمة إلا استطعت أن تردها إلى أصلها العربي بقليل من التصحيف والتحريف. كلا، إنك لا تقرأ في كتاب الأستاذ كرد علي شيئًا من ذلك، ولكنك تقرأ مئات الأشياء التي يتبين منها إجحاف الذاهبين في تجريد العرب؛ مذهب أصحابنا القاصرين عليهم كل خير، وكل إحسان، وكل مجادة. وذلك نهج في البحث مضمون النفع؛ لأنه مضمون الإقناع، ناجح في تزييف الباطل وإن لم ينجح هذا النجاح في تثبيت الحقائق جميعًا، ولا ذنب عليه؛ لأن تقرير الحقيقة أصعب جدًّا من تفنيد الأباطيل.

ولو قرأ هذا الكتاب مسيحيٌّ أو يهوديٌّ أو وثنيٌّ في مثل الثقافة التي عليها الأستاذ كرد علي لوافقه في معظم أبوابه، وإن لم يوافقه في عقيدته الدينية؛ لأن المعلومات التي احتواها جديرة وحدها بالوصول إلى نتائجها، وهي على هذا معلومات غزيرة منوعة تحيط بعشرات من المراجع، وعشرات من أساطين التاريخ والبحوث الاجتماعية، وهكذا تحسن الكتابة في هذا الموضوع خاصة لما يحيط به من العصبيات والموروثات، كما تحسن في جميع الموضوعات.

----------
مجلة روز اليوسف
٢٦ سبتمبر ١٩٣٥


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

عباس محمود العقاد، الحضارة، محمد كرد علي، الأدب العربي، تاريخ الأدب،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 23-03-2016  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
محمود سلطان، علي الكاش، نادية سعد، أحمد بوادي، جاسم الرصيف، سلام الشماع، عبد الله الفقير، سامح لطف الله، صباح الموسوي ، حسن عثمان، د. طارق عبد الحليم، حميدة الطيلوش، د - عادل رضا، أنس الشابي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، صفاء العربي، خالد الجاف ، سلوى المغربي، العادل السمعلي، د. صلاح عودة الله ، عبد الرزاق قيراط ، ضحى عبد الرحمن، فتحي العابد، د. مصطفى يوسف اللداوي، أحمد ملحم، رافد العزاوي، أحمد بن عبد المحسن العساف ، د- محمود علي عريقات، سامر أبو رمان ، محمد عمر غرس الله، محمد الطرابلسي، سيد السباعي، بيلسان قيصر، د. كاظم عبد الحسين عباس ، د- هاني ابوالفتوح، د- جابر قميحة، محمد أحمد عزوز، د - شاكر الحوكي ، محمد يحي، د.محمد فتحي عبد العال، أحمد الحباسي، طلال قسومي، عبد العزيز كحيل، سفيان عبد الكافي، مصطفي زهران، فتحـي قاره بيبـان، سعود السبعاني، حسني إبراهيم عبد العظيم، منجي باكير، أ.د. مصطفى رجب، محمد علي العقربي، المولدي الفرجاني، محرر "بوابتي"، أشرف إبراهيم حجاج، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، مراد قميزة، د - محمد بنيعيش، علي عبد العال، د - مصطفى فهمي، أبو سمية، د. أحمد محمد سليمان، د. ضرغام عبد الله الدباغ، رشيد السيد أحمد، الهادي المثلوثي، ماهر عدنان قنديل، إيمى الأشقر، د - محمد بن موسى الشريف ، فتحي الزغل، فوزي مسعود ، د- محمد رحال، رمضان حينوني، د - صالح المازقي، أحمد النعيمي، عبد الله زيدان، د. عادل محمد عايش الأسطل، إياد محمود حسين ، حاتم الصولي، محمود فاروق سيد شعبان، محمود طرشوبي، صفاء العراقي، خبَّاب بن مروان الحمد، كريم فارق، رافع القارصي، مجدى داود، يحيي البوليني، مصطفى منيغ، سليمان أحمد أبو ستة، محمد اسعد بيوض التميمي، د. عبد الآله المالكي، ياسين أحمد، الناصر الرقيق، عمار غيلوفي، عزيز العرباوي، كريم السليتي، حسن الطرابلسي، تونسي، إسراء أبو رمان، صلاح المختار، محمد العيادي، رحاب اسعد بيوض التميمي، الهيثم زعفان، المولدي اليوسفي، يزيد بن الحسين، د - الضاوي خوالدية، عمر غازي، فهمي شراب، عراق المطيري، د. أحمد بشير، د. خالد الطراولي ، د - المنجي الكعبي، عواطف منصور، وائل بنجدو، صالح النعامي ، محمد شمام ، عبد الغني مزوز، صلاح الحريري، محمد الياسين، طارق خفاجي، رضا الدبّابي،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة