يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نعم أخفى من الشمس التي يُضرب بها المثل لكل حقيقة ظاهرة سافرة، وسيقال غدًا كما قيل قديمًا عن أمثال هذه الحقيقة: إنها كالشمس لذي عينين. وسيصيب القائلون كما أصابوا قديمًا في كل مَثل مضروب من هذا القبيل، ولكن الذين يقلبون الآية ويضربون المثل بالشمس في الخفاء والغموض لا يخطئون، وربما كانت أسبابهم أكثر وأظهر من أسباب المتمثلين بها لفرط الجلاء والبيان.
هذه الشمس الظاهرة السافرة قد غبرت على الناس دهورًا، وهم يحسبونها قرصًا في سعة الغربال الصغير. وغبرت عليهم دهورًا وهم يحسبونها دائرة حول الأرض، والأرض راسخة في مكانها لا تدور ولا تستدير. وغبرت عليهم دهورًا وهم يحسبونها على مدى قامات أو على مدى مراحل وغلوات. ولولا أنهم جربوا أن يصيبوها برمية السهم فلم يدر كوها، لَما ارتفعوا بها في الجو عن ذلك المقدار. وغبرت عليهم دهورًا وهي تكسف وهم يدقون الطبول ليجفلوا عنها التنين الذي يفغر فاه لابتلاعها، وكأنه يبرِّدها قبل الابتلاع كما يبرِّد الآكل لقمة الطعام.
فإذا قيل عن سر من الأسرار بعد هذا إنه أخفى من الشمس، فالقائل أولى بالإصغاء إليه من ضاربي الأمثال بالظهور والوضوح.
ولقد عُرف اليوم أن قُطْر الشمس أطول من قُطر الأرض أكثر من مائة مرة، وأن المسافة بيننا وبينها تزيد على تسعين مليونًا من الأميال، وأننا ندور حولها وهي لا تدور حولنا، وأننا لم نجهل شيئًا كما جهلناها في الزمن القديم، ولم يخفَ علينا شيء كما خفي علينا هذا النور الذي يزيل الخفاء ويكشف الظلام. فما القول في معرفتنا بها، في الزمن الحديث؟
إنها لا تزال في طي الخفاء، وهي في رائعة النهار، ولا يزال النور ستارًا بيننا وبينها يحجب عنَّا ما يكشفه الظلام منها، حين يغشاها الكسوف بظله الكثيف.
ويروق الشعراء، كما يروق العلماء، أن يقال إنها تتحجب بالأنوار، وأنها أوضح ما تكون حين تجترئ عليها العيون، ولن تجترئ العيون عليها وهي في روعة الإشراق واللألاء.
لهذا يرصدونها وهي كاسفة، ويعلمون عنها من هذه الأرصاد المظلمة ما لم يعلمه أبناء هذه الأرض منذ عبدوها، وقد يكون العابد أجهل الخلق بالمعبود!
ولو علموا سرَّها لعلموا سرَّ «النور» كله، وليس بعد هذا السر من خفاء!
وأول شيء يجهلونه هو مصدر هذا الوهج المضيء أو مصدر هذا الضياء الوهَّاج!
هل تتوهج الشمس وتضيء لأنها تنهدم وتتداعى، أو هي تتوهج وتضيء لأنها تتماسك وتتجاذب وتنتقل من الهدم إلى البناء؟
وبعبارة أخرى يسأل السائلون، ومنهم كبار العلماء: هل تأتي حرارة الشمس من ذرات تنشق وتنفجر، أو تأتي هذه الحرارة من تكوين الذرات وبناء عنصر الهليوم مثلًا من عنصر الهيدروجين؟
والجواب: فيها قولان، بل فيها كذلك قول ثالث يجمع بين الهدم والبناء!
وهذا هو مبلغ العلم بنور الأنوار، فما قول القائلين عن سر الأسرار وخفايا الأعماق؟!
ولم يختلف الأقدمون في شأن الشمس وهي عندهم إله معبود، كما اختلف المحدثون فيها وهم ينزلون بها من مرتبة الربوبية، ويجرون عليها من قضاء كوني ما يجرونه على كل ذرة فيه.
كيف صارت؟ وكيف دارت؟ وكيف سارت وسيرت حولها ولائدها من هذه السيارات الصغار؟
كل قول يقال ينكره قائلون آخرون لعلة من العلل التي لا يتفقون عليها، ولكن القول الراجح عنها أنها كانت دخانًا بعثره جرم من أجرام السماء تائه في الفضاء، فأفلت منه ما أفلت، وعادت منه أشتات تدور حولها، ولا تزال تدور إلى اليوم المقدور.
أما هذا اليوم المقدور، فلا خوف منه على أبناء الجيل الحاضر ولا على حفدتهم وحفدة حفدتهم إلى مئات الأعقاب، بل ألوف الأعقاب؛ لأنه لن يأتي في أقرب الأقوال قبل مئات الملايين من السنين!
وهنا وقفة للمتأمل في العلم وفي الدين، نمهد لها بكلمة وجيزة عن التوفيق بين قواعد العلم ودعائم الإيمان كما ينبغي أن يتحراه العلماء الدينيون.
نشأت بين هؤلاء العلماء المطلعين على المعارف الحديثة طائفة تهتم بالتوفيق بين النصوص الكتابية وبين أحدث المخترعات وآخر الآراء والنظريات التي يقول بها علماء الطبيعة والفلك، وما إليهما من العلوم التي تُسمَّى بالعلوم العصرية.
وفي اعتقادنا أننا لا نطلب من الدين أن يكون تابعًا للكشوف العلمية في كل حقبة من الزمن؛ لأن هذه الكشوف العلمية تتغير وتتناقض بين حقبة وأخرى. فليس من الصواب أن تُناط صحة الاعتقاد بصحة الآراء كلما اختلفت فيها العقول والأنظار، أو كلما اختلفت فيها الحواس أحيانًا حسب اختلاف الأدوات التي يستعان بها على الرصد والتحليل.
مثال ذلك؛ قول بعض المحدثين: إن السيارات السبع هي المقصودة بالسماوات السبع. فإن السيارات قد زادت على العشر بعد إحكام أدوات الرصد في السنين الأخيرة، وقد ظهرت منها مئات من السيارات الصغار تسبح في الأفلاك الشمسية، ومنها المذنبات.
وقياسًا على هذا، لا يلزم العالم الديني أن يجعل نصوص الكتب الدينية مطابقة لما يكشفه العلماء الطبيعيون بين حقبة وحقبة، وكل ما يُطلب منه ألا يجعل الدين عقبة في طريق البحث والنظر، وليكشف العلماء الطبيعيون بعد ذلك ما يشاءون في كل عصر جديد.
فإذا دلَّت المقارنة على توافق بين الدين والعلم الحديث، فهي ملاحظات تساق كما ينبغي أن تساق كل ملاحظة تخطر على الذهن وتحتمل المراجعة، ولكنها لا تساق كأنها مقطع الرأي في العلم أو أصل من أصول الاعتقاد.
على هذا الاعتبار نسوق الملاحظات التالية عن التوافق العجيب بين آراء المؤرخين الطبيعيين وبين المفهوم من الآيات القرآنية في تعليل أصول الأشياء، ومنها أصول المادة وأصول الحياة.
فالأجرام السماوية أصلها من سديم، وهذه الأجرام كانت متصلة قبل أن تنفصل، وقد انفصلت الأرض منها وظلت مائرة حائرة حتى وطدتها الجبال، وفي عناصرها السائلة نشأت الحياة.
هذه أحدث الأقوال في التاريخ الطبيعي كما وقف عندها العامة المحدثون، وموضع التأمل فيها أنها توافق آيات القرآن الكريم في جملة هذه المقررات.
فالأجرام السماوية من غازات ملتهبة أو دخان: (ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ).
وقد كانت السماء والأرض جرمًا واحدًا ثم تفرَّقتا: (أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا).
وقشرة الأرض يبست قبل باطنها وظلت تطفو بغير قرار حتى استقرت بأوتادٍ من الجبال وجرى فيها ما يجري عادة في الجروف الثلجية من طفو ورسوب، فثبتت مواضع القارات: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ) (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا).
والماء هو أصلح البيئات لنشأة الحياة؛ لأن الغازات لا تتماسك ولا تتحرك. كل ذرة من ذرات الخلايا الحية هي في الوقت نفسه شحنة كهربائية تحتفظ بحرارتها ولا تتسرب منها قوتها إذا نشأت أول الأمر في بيئةٍ قليلة التوصيل: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).
وتقاس على هذه الملاحظات ملاحظات أخرى من قبيلها، يقف عندها المتأمل ولا يجوز أن يتخطاها، ولكنها لا توجب على علماء الدين أن يجزموا بقبول فكرة علمية أو رفض فكرة أخرى؛ لأن باب المستقبل مفتوح لما يتجدد كل آونة من أنواع التعبير والتعليل.
وغاية المتأمل من كل ملاحظة وكل خاطرة أن يتفتح الذهن لكل احتمال وكل تقدير، وأن يحذر السدود المغلقة والحواجز المعطِّلة؛ لأنها تعطل العقل كما تعطل الضمير والوجدان.
ولعمري، إن الحقائق التي تسمح للعقل أن يضرب المثل بالشمس في الخفاء ويضرب بها المثل في الجلاء، لجديرة أن تعلِّم الإنسان شيئًا يذكره أمام الحقائق التي لم تبلغ الشمس في هذا ولا ذاك.
--------
جريدة الأساس
٧ مارس ١٩٥٢
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: