يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قال له صاحبه وهو يحاوره: لكنك يا صديقي من رجال العهد البائد، وحسبُك هذه مطعنًا عليك.
وأجاب: نعم يا أخي، أنا من رجال العهد البائد، لكنني كنت فيه من ذوي الشرف والاستقامة، وفي كل عهد رجال أولو شرف واستقامة.
قال صاحبه: إنني آخذك باعترافك أنك من رجال العهد البائد. أما أنك كنت فيه من ذوي الشرف والاستقامة فهذه قضية يجب إقامة الدليل عليها، وإقامة الدليل أوجب لأن عبارة العهد البائد تخالف عبارة الشرف والاستقامة، فما تذكره إذن يدخل في باب الاستثناء، والاستثناء يؤيد القاعدة على شريطة أن تثبت صحته بالدليل القاطع.
وأجاب: أنا يا أخي أكلمك باللغة العربية، وأنت تكلمني باللغة السياسية، قال صديقه في دهشة: وهل هناك فرق بين اللغتين؟
وأجابه: نعم يا أخي، وفرق كبير، وحسبك لتقدر ذلك أن تعلم أن عبارة العهد البائد ليست من مبتكرات هذا العصر الذي نعيش فيه؛ ففي سنة ١٩٣٥، حين ألف المغفور له نسيم (باشا) وزارته الأخيرة، لم تكتف الصحف السياسية بأن تطلق على العهد الذي سبقه اسم العهد البائد، بل وصفته بأنه العهد البغيض البائد، هذا مع أنه لا تلازم في اللغة بين البغيض والبائد، فالعهد البائد لغة هو العهد الذي انقرضت مقوماته، أو بعض مقوماته، وقد يكون في هذه المقومات الخير كما قد يكون فيها الشر، وقد يكون فيها البغيض كما يكون فيها الطيب المحبوب، وقد تكون هذه المقومات ضرورة لا مناص منها في العهد الذي تكون فيه، ثم تبيد في عهد يليه لسبب أو لآخر.
قال صاحبه: أكاد لا أفهمك يا صديقي، أوَلَو رأيت شيئًا يبيد في عهد وقد كان موجودًا في العهد الذي سبقه، ألا يدل ذلك على أنه كان شرًّا ولذلك زال …؟ أم ترى اللغة تحتمل غير هذا المعنى الواضح؟
وأجابه: ليس حتمًا يا أخي أن يبيد الشر وحده، لعلك لم تنس ما درسناه عن العهد الحجري، وأنه باد ليحل محله العهد الحديدي، فهل كان الحجر شرًّا؟ وهل استغنت الإنسانية حتى اليوم عن الحجر، وهبْها استغنت عنه يومًا ووجدت منه بديلًا، فذلك لا يطعن عليه، ولا ينفي أنه خدم الإنسانية أجيالًا وقرونًا لا حصر لها. وقد أصبح عهد الملوك عهدًا بائدًا، وأصبح الملوك الباقون على ظهر الأرض باقين للتذكار، أفكانت عهود الملوك كلها عهود شر يخجل منها أصحابها، أوَلَمْ يكن بين الملوك رجال ونساء أولو شرف واستقامة وعدل؟ هذا مع أن الكلام عن الملوك يتخطى حدود اللغة البحتة ويدخل في صميم السياسة. وقد كان أجدادنا يؤمنون بأن الخيل والبغال والحمير خلقت لتركبوها وزينة، وكان الجمل مطية الصحراء، ثم أصبح عهد الجمال والخيل والبغال والحمير عهدًا بائدًا منذ حلت سيارات النقل والركوب محل هذه الدواب، أفكانت هذه الدواب شرًّا لأن عهدها أصبح عهدًا بائدًا مع أنها حملت الإنسانية، وكانت زينتها ألوف السنين، ولا يزال لها من الفائدة ما لا ينكره عالمنا الحاضر؟ وأستطيع أن أضرب لك أمثالًا لا تنتهي من عهود أصبحت بائدة بعد أن كانت على الإنسانية كلها خيرًا وبركة.
قال صاحبه: الآن أصبح كلامك واضحًا في إظهار الفرق بين اللغتين العربية والسياسية، وأستطيع على ضوئه أن أضيف إلى الأمثلة التي ضربتها أمثلة غيرها، فقد انقرضت حيوانات بحرية وبرية كانت موجودة في عهود بائدة، وقد شهدت بنفسي هياكل عظمية لتلك الحيوانات في بعض المتاحف، لكن هذه الصور المادية لمخلوقات انقرضت في عهود بائدة لا تنطبق على الإنسان في حياته المعنوية، فالإنسان هو الإنسان الذي يحدثنا التاريخ عنه منذ ألوف السنين، وصفات الكمال والنقص في الإنسان هي هي لم تتغير رغم تعاقب العصور؛ لم ينقلب النقص كمالًا، ولم تنقلب الفضيلة رذيلة، ولم تنقرض الفضائل ولا الرذائل وإن اختلف مقدارها من عهد إلى عهد. وما تسميه أنت اللغة السياسية هو الذي جعل أصحاب هذه اللغة يصفون ما درس من هذه الصفات في عهد من العهود بأنه باد وانقرض، وإن أمكن أن يبعث من جديد ويعود إلى الحياة، أما وذلك حق لا يحتمل الريب، فلا أحسبك تجادلني فيه باسم اللغة العربية واللغة السياسية، بل يجب أن تعترف بوضوحه كما اعترفت بوضوح نظريتك في شأن الموجودات المادية.
وأجابه محاوره: معذرة، يا أخي، إن أنا خالفتك وذكرت أن ما ينطبق على الحياة المادية ينطبق كذلك على الحياة المعنوية، وذهبت إلى أن المعنويات الإنسانية ينقرض بعضها إلى غير عودة، ويبيد بعضها ثم يعود من جديد للحياة. لقد كان الأخذ بالثأر من صفات النبل والشهامة، ثم انقلب في الأمم المتحضرة إلى وحشية لا تطيقها جمعية نظامية. صحيح أن هذا الخُلُق لا يزال باقيًا في بعض الجماعات، لكنه لم يبق فضلًا ولا نبلًا، وأصبح آخذًا في الانقراض كما تنقرض الحيوانات البرية والبحرية، وكانت المبارزة مظهرًا من مظاهر الشجاعة فيما يسمونه عصور الفروسية، ثم حرِّمت وأصبحت جريمة يعاقب عليها القانون، وأنت حين تنتقل من بيئتك المصرية إلى بيئة أخرى ترى من اختلاف العادات والتقاليد ما يُثير دهشتك، فإذا ذهبت إلى أوروبا مثلًا رأيت الناس لا يجدون بأسًا بأن يقبل رجلٌ امرأةً في الطريق، ولو أن ذلك حدث في صعيد مصر لأثار معارك دامية، ولو أنه حدث في بلاد العرب لأثار حربًا بين القبائل، فكما تتأثر الأجناس بالتطور في حياتها المادية وينقرض بعضها بتغير الطقس والبيئة، كذلك تتأثر الأخلاق والعادات والمقومات المعنوية بتطور الحضارة الإنسانية، ويختلف تأثرها باختلاف هذا التطور، فالمعنويات يجري عليها ما يجري على الماديات في تطورها وانقراضها، وهل كان الرق أمرًا ماديًّا؟ وهل كانت دعوى الملوك والحكام أنهم خلفاء الله على الأرض دعوى مادية؟ مع ذلك انقرض الرق، وانقرضت دعوى خلافة الله على الأرض. ألا ترى، يا أخي، وذلك هو الواقع أن عبارة العهد البائد يختلف مدلولها اللغوي اختلافًا ظاهرًا؟
قال صاحبه: إن الحوار بيننا على هذا النحو من التفلسف يؤذن أن يطول، بل يؤذن أن لا ينتهي، فاسمح لي أن أنتقل منه لألقي عليك سؤالًا صريحًا أطلب عليه منك جوابًا صريحًا: ما رأيك في العهد البائد الذي أنت من رجاله؟
وأجاب: أرجو أن تعفيني من الإجابة على هذا السؤال، فأشد ما أخشى أن تعود بنا الإجابة عليه إلى حوار يطول ولا ينتهي، ولست أريد بذلك أن أدافع عما كان يقع في العهد البائد — كما تسميه أنت يا أخي — من أخطاء أعلم بها ولا أنكرها، وإنما أريد أن أتحدث عن سلامة هذه الأمة، وحيوية شعبها الكريم، ولست أريد أن أتكلم عن أخطاء العهد الماضي حتى لا تظن أنت أو يظن غيرك أن لي من وراء ذلك مأربًا؛ فأنا أحتقر المآرب الخاصة حين يصوِّر الناس آراءهم حسب إملائها، وحسبي وحسبك أن ندرك كلانا أن أمتنا سليمة البنيان؛ لنؤمن بأنها بالغة لا محالة ما تصبو إلى بلوغه
---------
جريدة الأخبار
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: