مقالات منسية :الأوامر المختومة في المأثورات النبوية
عباس محمود العقاد المشاهدات: 3758
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يكثر في الحروب الحديثة ذكر الأوامر المختومة التي تَصدُر إلى قواد السرايا والسفن ليفتحوها عند مدينة معلومة، أو بعد مسيرة ساعات، أو في عُرض البحر على درجة معينة من درجات الطول والعرض، إلى أمثال ذلك من العلامات التي تعين بها الجهات.
ويتفق في أمثال هذه البعوث أن يكون القائد وحده مُطَّلِعًا على سر البعث، أو موصيًا به، ورجاله جميعًا يجهلونه ولا يعرفون أهم خارجون في غزوة أو في استطلاع أو في مناورة إلى ما قبل الحركة المقصودة بساعات معدودات، وهنالك تصدر الأوامر التي لا بد من صدورها للتهيُّؤ والتنفيذ، ولا خوف من كشفها في تلك الساعة لصعوبة الاستعداد الذي يقابلها به العدو إذا انكشفت له قبل تنفيذها بفترة وجيزة، ولا سيما إذا كانت الحركة من حركات البحار.
هذه الأوامر المختومة ليست بحديثة.
وقد عُرِفَتْ في المأثورات النبوية على أتم أصولها التي تُلاحَظ في أمثالها، ومن ذلك أنه عليه السلام بعث عبد الله بن جحش ومعه كتاب، أمره ألَّا ينظر فيه حتى يسير يومين، وفحواه أن «سر حتى تأتي بطن نخلة على اسم الله وبركاته، ولا تُكْرِهَنَّ أحدًا من أصحابك على المسير معك، وامضِ لأمر فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصد بها عِير قريش وتعلم لنا من أخبارهم.»
وهذا نموذج من الأوامر المختومة جامع لكل ما يلاحظ فيها حديثًا وقديمًا عند بداية الدعوات على التخصيص.
فأولها: كتمان الخبر عمَّن يحيطون بالنبي عليه السلام، فلا يبعُد أن يكون منهم من هو مدخول النية، عينًا عليه وعلى أصحابه من قبل قريش، ولا يبعُد أن يكون منهم من يبوح بالخبر ولا يريد به السوء، أو يدرك ما في البوح به من الخطر المحظور، ولا يبعُد أن يكون منهم الضعفاء والمخالفون. والاستعانة على قضاء الحاجات بالكتمان سُنَّةٌ حكيمة من سنن النبي عليه السلام، وهي في حروب الدعوات على التخصيص أقمن بالاتِّباع.
ومما لوحظ في كتاب النبي لعبد الله بن جحش كتمان الخبر عن أصحابه ووصاته ألا يُكره أحدًا منهم على المسير معه بعد معرفته بوجهته. وهذا هو أهم الملاحظات في هذا المقام.
فقد يحارب الرجل وهو مُكرَه مهدد بالموت الذي يتَّقيه إذ يفر من القتال، ولكنه لا يستطلع وهو مُكرَه ثم يفيد استطلاعه من أرسلوه، بل لعله ينقلب إلى النقيض فيحرف الأخبار عمدًا، أو يتلقاها على غير اكتراث، أو يُطلع الأعداء على أسرار أصحابه وهم غافلون عنه.
ولهذا تعاني الدول أكبر العناء في مراقبة الجواسيس بالجواسيس، وفي امتحان كل خبر بالمراجعة بعد المراجعة، والمناقضة بعد المناقضة حتى تطمئنَّ إلى صحته قبل الاعتماد عليه.
وفي الحرب الحاضرة تجرِبة جديدة لهذا النوع من المستطلعين أو الرُّوَّاد المتقدمين.
فقد عرف أن هتلر يعتمد على أفراد من جنده يهبطون من الطيارات وراء الصفوف فيتسلَّلون إلى مراكز المواصلات، ويعيشون بين القرى المعزولة، فيشيعون فيها الرعب والحيرة، ويُوهمون من يراهم أن الجيش المُغير كله على مقربة منهم، فلا جدوى لهم من الاستغاثة أو المقاومة، ويحمل معظم هؤلاء الرواد المتقدمين أجهزة للمخاطبة يستعينون بها على الاتصال برؤسائهم من بعيد.
قيل في الإعجاب بهذه الخُطة الهتلرية كثير، وقيل في انتقادها والتنبيه إلى خطرها كثير.
فمن دواعي الإعجاب بها أنها أفادت في قطع المواصلات، وإشاعة الذعر، وتضليل المدافعين، وأنها شيء جديد في شكله وإن لم يكُن جديدًا في غايته ومرماه.
ومن أسباب انتقادها أن كل فائدة فيها تتوقف على العقيدة وحسن النية، فهي تستلزم أن يكون الرائد غيورًا على عمله، متحمسًا لإنجازه، رقيبًا على نفسه وهو بمعزِل عن رقبائه، فليس أيسر له إذا هو انفرد وأعوزته الرغبة في إنجاز عمله من أن يستأثر في أول مكان يصل إليه من بلاد الأعداء طلبًا للسلامة، ولا عقاب عليه ولا هو يتقي العقاب إلى نهاية القتال. ثم يتعلَّل بما شاء من المعاذير إن وجد بعد ذلك من يحاسبه ويعاقبه، وهيهات أن تستجمع الأدلة عليه في أمثال هذه الفوضى.
فالخطة الهتلرية فاشلة لا محالة إن لم يُنفِّذها مريدون متعصِّبون غير مُكرَهِين ولا متشكِّكين فيما هو موكول إليهم، وهي لهذا أحرى أن تُحسب من وحي الطريق وإلهام العقائد، لا من النظام الذي يدرب عليه كل جيش ويصلح لجميع الجنود. فلولا أن النازيين قَضَوْا قبل الحرب الحاضرة زهاء عشر سنوات ينفخون في نفوس الناشئة جذوة البغضاء، ويلهبونهم بحماسة العقيدة، ويخلقون فيهم اللَّدَد الذي يغني عن الرقابة ساعة التنفيذ؛ لحبطت الخطة كل الحبوط، وانقلبت على النازيين شر انقلاب.
وها هنا تتجلى حكمة النبي عليه السلام في اشتراط الرغبة والطواعية واجتناب القسر والإكراه.
فهذه — أولًا — بعثة منفردة لا سبيل إلى الإكراه الفعال بين رجالها إذا أريد.
وهي — ثانيًا — بعثة استطلاع لا يُغني فيها عمق الكاره المقسور، وألزم ما يلزم العامل فيها إيمانه وصدق نيته وحسن مودَّته لمن أرسلوه. فإن أعوزته هذه الصفة فقد أعوزه كل شيء.
أما غرض البَعثة كلها وهو الاستطلاع فقد كان النبي عليه السلام عليمًا بمزاياه معنيًّا به غاية العناية، يحسب العدو المجهول كالعدو المستتِر بأسوار الحصون في حِمًى من الجهل به، قد يَحُول دون الاستعداد له بالعدة الضرورية، ويحول من ثَمَّ دون الانتصار عليه.
وكان عليه السلام مَثَلًا بين قُوَّادِ الجيوش الذين جعلوا عدة الاستطلاع مقدمة على عدة التعبئة، ومن هؤلاء نابليون الكبير.
قُلنَا في مقال كتبناه بالرسالة لمثل هذه المناسبة منذ سنتين: «لم يُعرف عن قائدٍ حديث أنه كان يُعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون، وكانت فِراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال، فلما رأى أصحابه يَضرِبون العبدين المستقيين من ماء بدر؛ لأنهما يذكران قريشًا ولا يذكران أبا سفيان، علِم بفطنته الصادقة أنهما يقولان الحق ولا يقصِدان المِرَاء، وسأل عن عدد القوم فلما لم يعرفا العدد، سأل عن عدد الجَزُورِ الذي ينحرونها كل يوم، فعرف قوة الجيش بمعرفته مقدار الطعام الذي يحتاج إليه، وكان صلوات الله عليه إنما يُعوِّلُ في استطلاع أخبار كل مكان على أهله وأقرب الناس إلى العلم بفجاجه ودروبه، ويعقد ما يسمى اليوم مجلس الحرب قبل أن يبدأ القتال، فيسمع من كُلٍّ فيما هو خبير به، ولا يأنف من الأخذ بنصيحة صغير أو كبير.
ونحن نكتب هذا المقال والحرب الروسية تُذكِّرُنا كيف أصيب نابليون في هذا الميدان حين أصيب في وسائل الاستطلاع، ثم تذكرنا كيف تكرَّرت هذه الغلطة بعينها على نوع من المشابهة بين غزوة نابليون روسيا أمس، وغزوة هتلر لتلك البلاد اليوم.
فمن أسباب هزيمة نابليون إهماله النصائح التي سمِعَها في مجلس الحرب من بعض الثِّقَات قبل التوغُّل في الأرض الروسية.
ومن أسباب تلك الهزيمة أن الروس كانوا يتراجعون أمامه تحت جُنح الظلام، ويُخلون المدن والطرقات حتى لا يرى فيها دَيَّارًا يسأله عن مكان الجيش المتراجع، أو يلتقط من خلال أجوبته ما يُعينه على الاستطلاع الذي كان كما أسلفنا شديد التعويل.
أما هتلر فقد أتى من قبل هذين النقصين كما أتى من قبله من هو أعظم منه وأولى بالتحرُّز والأناة.
فقد اشتهر الآن أنه كان في مجلس الحرب على خِلافٍ مع قواده الثِّقات الذين علِموا من شأن الروس ما ليس له به علم.
واشتهر الآن أنه أخطأ في استطلاعه أخبار القوم؛ إذ خيل إليه أن الشعب الروسي يتحفَّز للثورة ويترقَّب الإغارة عليه لنُصرة المغير كائنًا من كان، ولو جاءت الغارة من عنصر مُعادٍ للعنصر السلافي وهو عنصر الجرمان.
ومحمد عليه السلام لم يتعلم ما تعلمه هتلر ونابليون، ولكنه لم يخطئ قط مثل هذا الخطأ في جميع غزواته وكشوفه. ولعلنا نفهم كلما درسنا زمانه الحافل بالعِبر والأمثلة الباقية أن دراسته ضرب من دراسة العصر الحديث والقادة المُحدَثِين
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: