على هامش الدعوة إلى التخلّي عن الفصل 230 المتعلق بعقوبة اللواط والسحاق
"حين أرتدّ فوضويا أصير حداثيا"
محمد المختار القلالي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6583 kallalimokhtar@gmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الإهداء: إلى الذين يدعوننا إلى التنقّل على أربع بدل قدمين.
يا سعد من بــاع داره** وم المال حصّل نصيبـه
في البحر ركّب صغاره** "ســـــــكـــــنــدريــــة" قريبـــة
ولا قعادك في بر تونس** كـل يوم تسمع غريبـة
قل لي بربّك، يا "صاحب الكلام"، ترى ما ذا عسى أن تقول لو امتد بك العمر، وظلك هذا الزمان الرديء فترى ما نرى، وتسمع ما نسمع، وتشهد معنا هذه الأحداث التي نغصت علينا حياتنا حتى أوشكت أرواحنا أن تصعد إلى باريها ؟ أما أنا فلا أخالك إلا متأسفا على أيامك تلك الخوالي برغم اليأس الذي يبدو أنه غشيك وقتها، حدّ التحريض على ركوب البحر، وهجر الأوطان. ولسان حالك :
رب يوم بكيت منه فلمّا** صرت في غيره بكيت عليه
*** *** ***
آخر هذه الأحداث (الترهات)، وليست الأخيرة على ما يبدو، ما طلعت به علينا شرذمة من شبابنا (محط آمالنا) من دعوة صريحة إلى التطبيع مع الفاحشة، أي نعم ! بالعربي الفصيح مع اللّواط والسّحاق، والعياذ بالله. والأنكى من ذلك أن تلقى هذه الدعوة، على قباحتها، آذانا مصغية من قبل بعض المحسوبين على النخبة المثقفة، ومن المؤتمنين على تربية الأجيال، بل وحتى من قبل بعض "الرسميين".
لن أتناول "الشذوذ الجنسي" من وجهة نظر دينية لعلمي أنّه ما من أحد يجهل أن الأديان السماوية كلها تحظر هذا السلوك وتحدّ مرتكبيه من خلال نصوص قطعية الدلالة، ما يعني أننا في غنى عن الخوض في ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
إلى ذلك، أعلم أنّ من بيننا من لا يقنعهم الدليل إذا استند إلى فقه الأديان واتصل بأحكامها لشكّ لديهم في صحة نسبة الشرائع إلى السماء. وهم على هذا الصعيد، صعيد الإيمان من عدمه، أحرار. لهم أن لا يعتقدوا إلا ما وقر في أفئدتهم، إذ لا سلطان على الوجدان. لذلك سأحجم عن التحجج بـ "حكم الدين" في هذا الضرب من السّلوك، مفضلا تناول "الظاهرة" من زوايا أخرى ثلاث :
1 - مدى علاقة هذه الممارسات بالحرية الفردية، هذا "الشعار" الذي يتخذه دعاة إباحة الشّذوذ الجنسي سلاحا به يدافعون عن "قضيّتهم".
2 – أثر هذه الظاهرة على النسيج المجتمعي وتحديدا على مؤسّسة الأسرة.
3 – تداعيات الممارسات الجنسية الشاذة على الصحّة العامّة.
ولنبدأ بتحري حجّتهم المحورية التي يتذرعون بها والمتمثلة في القول بإباحة الشذوذ بناء على كونه شكلا من أشكال الحرية، حرية الفرد في التصرف في جسده وفق إرادته وهواه.
هل أحتاج إلى التذكير بأن القول بـ"حرية الإنسان المطلقة" ليس إلاّ ضربا من التسطيح والتلبيس لم يعد ينطلي على أحد بعد أن بات معروفا أنه لا سلطان للفرد على الكثير من سماته وخصوصياته ، سواء تلك العائدة منها إلى العوامل الوراثية، أو الأخرى الناجمة عن الانتماء إلى ثقافة بعينها ؟
إلى ذلك، فاستقراء التاريخ يجعلنا نقدّر أن مرور "الكائن البشري" من مرحلة "التوحّش" إلى مرحلة "التأنّس" قد تمّ جرّاء عجزه عن تأمين حاجاته الحياتية بمفرده، ما جعله محمولا على التنازل عن جانب من حريّته لقاء ما يجتنيه من انخراطه في حياة الجماعة التي تقتضي وجوبا قدرا من الانتظام القائم على جملة من الضوابط والحدود. هي التضحية، التي لا مندوحة عنها، بالمهم من أجل الأهمّ، ذلك الخيار الذي يتعذر أن نجد له بديلا ما دام قد قرّ لدينا أن "الحرية العشوائية" والفوضى وجْهان لعملة واحدة.
وقريب ممّا ذكرنا ما ذهب إليه البعض من أن في فرض القيود ولزوم الحدود صونا للحرية وتوسيعا لمداها. وفي هذا المعنى بالذات يقول د. فؤاد زكرياء في كتابه الرائع "التفكير العلمي" : "إنّنا لو استقرأنا تاريخ المجتمعات البشرية لوجدنا أنّ الإنسان ظل يفرض على نفسه مزيدا من القيود لكي ينال مزيدا من الحريات. وهذا تعبير يبدو متناقضا إذ كيف تفرض القيود من أجل ضمان الحريات ؟ ولكن من السّهل أن يفهم القارئ ما أعني إذا فسّره في ضوء مثال مألوف في حياتنا اليومية، وهو إشارات المرور، فنحن نفرض على أنفسنا أن نتقيد بإشارات المرور لكي ننال بذلك مزيدا من الحرية في حركة المرور، والدليل على ذلك أنّ تعطل إحدى الإشارات، الذي يبدو في الظاهر وكأنه يعطي السّائق أو السّائر "حرية" السير كما يشاء، يؤدّي في واقع الأمر إلى إلغاء هذه الحرية بما يسبّبه من تكدّس وفوضى في المرور. وهكذا الحال في أمور البشر جميعا، أن ننتقل من حالة "الحرية" العشوائية أو المتخبطة التي كانت تسود في البداية إلى نوع من التنظيم والتقييد الذي يحقق لنا مزيدا من الحرية" (د. فؤاد زكريا التفكير العلمي ص 227 – 228).
بيد أن ما يجدر التنويه إليه في هذا السياق، هو أنه ليس كل القيود تصب في صالح الحرية بالضرورة. الواقع يقوم شاهدا على أنّ كثيرا ما صودرت الحريات بمفعول القوانين الجائرة، يسنها الطغاة بدعوى الحفاظ على "الحرية" فيما الغاية ليست سوى إحكام قبضتهم على الرقاب.
إن الذين يتذرعون بالحرية الفردية دفاعا عن "المثلية" يعمدون في الواقع إلى التنكّر "للثقافة" (بمعناها العام)، وهم المحسوبون على الثقافة في الغالب، ويعملون على التغرير بالعامة بدعوى التبشير بالحداثة فيما هم هنا والحداثة في الصين. "وهل تقتضي الحداثة تضييع جميع القيم والمعايير والمفاهيم الإنسانية التي راكمتها وأنضجتها التجربة البشرية على مرّ التاريخ ؟" (يتساءل أحد الكتاب). وهو ما يعني العودة بالبشرية إلى "الزمان الأول" أي إلى عصر "ما قبل الثقافة". وإنه لمن المفارقات العجيبة أن يتهم هؤلاء معارضيهم بـ"الرجعية". فيما هم، بالموضوعية، الأدعى إلى وصمهم بهذه الشبهة (الرجعيّة) بتنكّرهم لحركة التاريخ، وقفزهم على الثقافة، وإيثارهم النكوص إلى "الطبيعة الأولى". أي إلى مستوى الحياة الغريزية، غافلين عن أن الإنسان كائن "بيوثقافي" في النهاية. عجبي كيف لم يستوعب هؤلاء بعد كوننا "كائنات إجتماعية" بامتياز؟
أما عن أثر هذه الظاهرة على النسيج المجتمعي فمن السهل علينا أن نتصوّر مآل المجتمعات البشرية في حال استشراء العلاقات الجنسية السائبة، واختفاء الزواج بشكله التقليدي، وما يترتب على ذلك من تدمير للأسرة بما هي "الخليّة النّووية" للنسيج المجتمعي.
أختم بالتنويه إلى المخاطر التي تتهدّد الصحّة العامّة جرّاء التطبيع مع الممارسات الجنسيّة الشاذّة، وهي مخاطر لم تعد محلّ شكّ ولا افتراض بعد أن كشفت الأبحاث الطبية عن عدد من الأمراض الرهيبة الناجمة عن هذه الممارسات الشائنة، وفي مقدمتها داء فقدان المناعة المكتسبة (السيدا)، عافى الله الجميع.
وبعد، لا يستدعي الأمر خيالا واسعا كي ندرك ما يمكن أن تؤول إليه حالنا فيما لو تمّ إلغاء الفصل القلالي ، بما يعنيه ذلك من رفع الحرج عن الممارسات الجنسية الشاذة. ويبدو أنّ الغاية مما يجري ليست في الأرجح سوى التمهيد لتشريع "الزواج المثلي" في بلادنا العربية المسلمة، استرضاء لجهات أجنبية ذات أجندات مشبوهة.
يبقى بودّي أن أعرف من الداعين إلى إباحة "الشذوذ الجنسي" رأيهم في "زواج المحارم"، وهم القائلون بحرية الفرد المطلقة في التصرف في جسده، وبإقصاء "الثقافي" بالجملة عن مجال العلاقات الجنسية. أتحدّى هؤلاء أن يستطيعوا إجابتي عن السؤال الخطير التالي :
ما العاصم من اختلاط الدماء إذا هُتُِّكَتْ الضوابط، واختلط "الماء" بـ "الماء" ، لا قدّر الله؟
---------
محمد المختار القلالي
عضو اتحاد الكتاب التونسيّين
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: