محمد المختار القلالي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5886
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لا حديث هذه الأيّام، في بلادنا، إلاّ عن السّباق نحو قصر ‘قرطاج’. وهذا طبيعيّ بالنّظر إلى أنّه لأوّل مرّة في التّاريخ يتسنّى للتّونسيين ممارسة حقّهم في اختيار من يتولّى النّهوض بشأنهم العام. ولا بأس هنا من الإشارة إلى أنّ الفضل في ذلك يعود لله أوّلا ثمّ للثّورة من بعده. أذكّر بهذا خاصّة أولائك الذين سعوْا إلى التّهوين من شأنها (الثورة) غداة قيامها، ومن عملوا بعد ذلك على الانقلاب عليها من خلال مطالبتهم بحلّ ‘التأسيسي’، والتخلّي عن إنجاز الدستور، بل وحتّى بالزّحف على مؤسّسات الدّولة، بغية قفل المسار برمّته، المسار نحو الحياة الديمقراطية التي قامت من أجلها ثورة الشّعب.
وإنّه لمن المفارقات العجيبة أن نجد هؤلاء اليوم في مقدّمة من يتفيّؤون ظلال هذه الثورة التي ناهضوها بالأمس القريب، ومن يجنون، قبل غيرهم، بواكير ثمارها.
وبعد، ها قد انتهى الآن الدّور الأوّل من السّباق بتأهيل شخصيّـتيْن، لكلّ منهما تاريخها وخلفيّتها ومشروعها لخوض غمار ما تبقّى من السّباق. ما يعني أنّه لم يبق أمام النّاخب غير أن يختار واحدا من إثنين، لا ثالث لهما (2 sans 3)، وهذا الاختيار سوف يقوده بالضّرورة إمّا إلى الاصطفاف مع المنادين بوجوب المرور إلى ‘جمهوريّة ثانية’، ندخل بها العصر، بكلّ ما تبشّر به هذه الأخيرة من قيم جميلة، وبما تنضوي عليه من أمل في تحقيق الحياة الحرّة الكريمة للجميع، وإمّا إلى الانخراط في زمرة الماسكين بأهداب منظومة استوفت حظّها من الحياة.
إلى ذلك سمعت من يلوّح باعتزامه مقاطعة الانتخابات بدعوى أنّه لا خير من هذا ولا من ذاك. قال لي أحدهم يوم أمس في معرض حوار متّصل بـ’حديث السّاعة’ : لقد قرّ قراري على الامتناع عن التّصويت لعدم ثقتي في كلا المترشّحين.
قلت: هب أنّي معك في تحفّظك على الرّجلين، لكن هل يعني ذلك بالضّرورة أنّهما على نفس القدر من السّوء، لا يختلف أحدهما إطلاقا عن الآخر ولو بمقدار مهما يكن حجمه؟
قال : كلاّ، يجوز أن يكون أحدهما أقلّ عيوبا ربّما من الثّاني، والعكس صحيح.
قلت : ما دام الأمر كذلك، ألا يغدو إذن توظيف صوتك في قطع الطّريق على ‘شرّ الشرّين’ أدنى إلى المصلحة من الإمساك عن التّصويت ؟ أليس من الحكمة في غياب من يمكن أن نسلّم له ‘محاذيرنا ومعاذيرنا’ ترجيح كفّة الأقلّ سوءا من غيره ؟ ألست معي، يا صديقي، في أنّ العطشان لا يختار لون الماء ؟ أقول ذلك على الرّغم من أنّي سأظلّ على اعتقادي الجازم أنّ ما بين المتنافسيْن بَوْنًا بائنا. هذا إن استقامت المقارنة أصلا.
أشير كذلك إلى أنّي قد لاحظت في إطار متابعتي للتّصريحات والتعاليق المتعلّقة بـ ‘قضيّة السّاعة’ ما يتردّد على ألسنة البعض من كونه سيّان عندهم فوز زيْد على عمْرو أو العكس، متعلّلين بأنّ الانتخابات تحمل أهميّتها في ذاتها أكثر ممّا تحمله في نواتجها ومخرجاتها. هذا القول بعيد، في الأرجح، عن الجديّة. إنّه من قبيل الكلام الديبلوماسي، يلوذ به أصحابه من حذّاق القول تحسّبا من الوقوع في الحرج. ولمّا كنت ممّن لا يعنيهم تبعات الإصداع بما يرونه الحقّ أقول إنّه مع إقراري بأهميّة الانتخابات في حدّ ذاتها، فإنّ التّقليل من شأن ‘الاختيار’ لا يجوز إطلاقا بما هو ‘شهادة’ سنتحمّل تبعاتها نحن ومن سيأتي بعدنا من الأجيال.
أخيرا إنّ ما يثير خشيتي حقّا هو هذا الانقسام في الصفّ الذي بدأ يشهده مجتمعنا، والذي ما انفكّ، مع الأسف الشّديد، يستفحل يوما بعد يوم، بفعل من لا يتورّعون عن صبّ الزّيت على النّار من سياسيين وصوليين، وإعلاميّين موتورين، ومن ‘طليعة’ (أو هكذا خلناها على الأقل) محسوبة على المثقّفين والأكاديميين والخبراء والمبدعين، ممّن يأبوْن أن يتّقوا الله في شعبنا لكونه فقط لم يعد يرى خيرًا في منظومة عانى من أمرها رهقًا، متغافلين عن ‘أنّ الحرب أوّلها كلام’.
إنّ ما يقضّ مضجعي، بقطع النّظر عمّن سيكون الفائز بقصب السّبق في الدّور الثّاني للإنتخابات الرئاسية، هو ما يمكن أن تغرق فيه بلادنا في القادم القريب، لا قدّر الله، من فوضى يمكن أن تعيدنا إلى أسوأ ممّا كنّا عليه قبل الثورة، على غرار ما هو حاصل في بلدان شقيقة أخرى تشهد مثلنا نفس الصراع بين قديم وجديد، أو إن شئت قل بشيء من التجوّز ربّما، بين الحقّ والباطل. ولا يغرنّكم خطاب التهوين من خطر ذلك ‘الشيطان’ الرابض خلف السّتار بدعوى أنّنا أكثر ذكاء وتسامحا وتجانسا من غيرنا. وليعد من شاء إلى التّاريخ ليقف على ما شهدته بلادنا في فترات عديدة من حالات فوضى واقتتال منكر مريع سالت فيها دماء التونسيّين سواقي.
كلّ ما أتمنّاه، وبقطع النّظر عمّن سيحالفه الحظّ في السّباق نحو القصر الرئاسي، أن ينحني الجميع في الآخر لحكم الصّندوق بما هو إنعكاس لإرادة الشّعب، وأن يقدّموا مصلحة الوطن على كلّ ما سواها من المآرب والمناصب والمكاسب.
وقى الله تونس من كلّ سوء، وهدى شعبها سبيل الرّشاد.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: