تأمل معي قول الله سبحانه: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا* لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا * ).
وصف إلهي بليغ يبين مدى بشاعة وجرم ادعاء الولد لله.. أليس كذلك؟.. حسنا.. ما رأيك أن هذا الادعاء الأثيم هو (وجهة نظر)؟ نعم.. هذه هي الحقيقة.. التثليث ليس فقط مجرد (وجهة نظر) بل عقيدة وراءها جيش من المفكرين الفلاسفة كل منهم أخرجها من زاوية مختلفة عن الآخر، أو غطى بنظرياته مساحة مختلفة عن الآخر. جيش مهمته وضع عقيدة التثليث في قالب نظري معقول، حتى لو به ثغرات.. المهم أن يبدو في النهاية كـ (وجهة نظر).
ومع ذلك.. فربنا سبحانه وتعالى لم ينظر لها كـ (وجهة نظر) سواء كانت خاطئة أم صائبة، لأنه سبحانه يعلم أن عقيدة التثليث سياقها الحقيقي ليس (نظريا) في الأصل، ولكنه (سياق نفسي) وهو رغبة الإنسان في ادعاء الألوهية عن طريق غير مباشر، وأن الإنسان من عادته وضع رغباته في سياقات مبررة نظريا، حتى لو بها ثغرات، المهم أن تبدو كـ (وجهة نظر)، فهذا أفضل من أن تبدو على حقيقتها كـ (رغبة شريرة).
ويمكن أن يقاس على المسيحية سائر الأديان والمعتقدات والمذاهب.
***
المشهد الثاني: مشهد الانحرافات داخل الحضارة الإسلامية.
يسجل لنا التاريخ نوعا من الانحرافات هو أقل حدة من انحرافات الأديان، وهو الرغبات الشريرة داخل كيان الحضارة الإسلامية، مثل الرغبة في تملق السلطة.. الرغبة في انتزاع السلطة.. الرغبة في الاستعلاء على عموم الأمة.. الرغبة في التمايز عن الأمة.. الرغبة في تحقيق مكاسب سياسية معينة.
هل تعلم أن كل من هذه الرغبات الشريرة لم تكن تبدو هكذا سافرة.. بل كانت توضع في قالب من (وجهات النظر)، وهو ما أطلق عليه الشرع لفظ (بدعة)؟ فكانت بدعة الإرجاء والجبرية لتغطي الرغبة في تملق السلطة.. وكانت بدعة الخوارج لتغطي الرغبة في الاستقلال عن الأمة واحتكار رسالتها، وكانت بدعة المعتزلة لتغطي الرغبة في تضييق مساحة الوحي لحساب العقل.. وبدعة التشيع لتغطي حقدا على الواضع القائم كله.. وهكذا.. وفوق ذلك.. لقد كان لكل بدعة جيش من العلماء الذين أخذوا على عاتقهم ستر هذه الرغبات وجعلها في شكل (وجهة نظر) أيضا.
لذلك فسلفنا الصالح لم يكونوا يتعاملون مع هذه الانحرافات كـ (وجهات نظر) بل كـ (رغبات شريرة) لا بد من حصارها اجتماعيا والعمل على زوالها في أسرع وقت ممكن، وأطلقوا على أصحابها مصطلح (أهل الأهواء) تأكيدا على البعد النفسي للبدعة وأنها ليست مجرد وجهة نظر خاطئة، وإليكم نموذج من مقولاتهم بهذا الشأن:
الأوزاعي اعتبر توقيرهم أشد على الدين من تصديقهم واتباعهم ذاته: (فكونوا لهم - أي لأصحاب البدع- حذرين متهمين رافضين مجانبين، فإن علماءكم الأولين ومن صلح من المتأخرين كذلك كانوا يفعلون ويأمرون، واحذروا أن تكونوا على الله مظاهرين، ولدينه هادمين، ولعراه ناقضين موهنين بتوقير لهم أو تعظيم أشد من أن تأخذوا عنهم الدين وتكونوا بهم مقتدين ولهم مصدّقين موادعين مؤالفين)
قال الفضيل بن عياض: (من عظّم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن تبسم في وجه مبتدع فقد استخف بما أنزل الله - عز وجل - على محمد - صلى الله عليه و سلم -، ومن زوّج كريمته من مبتدع فقد قطـع رحمهـا، ومن تبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله حتى يرجع).
***
المشهد الثالث: العبيد
هل يكتفي العبيد في مصر، أو في أي مجتمع، بالظهور كعبيد، أم أنهم يحاولون دائما صناعة (وجهة نظر) لعبوديتهم؟ صحيح أنها وجهات نظر مهترئة، لكن أنا أتحدث عن (وجهة النظر) كهدف ثابت تحاول (الرغبات الشريرة) تحقيقة والوصول إليه.. سواء نجحت أم لا.
***
بيت القصيد: مشهد الانحرافات داخل الحركة الإسلامية المعاصرة.
الانحطاط داخل التيار الإسلامي هو مظهر نفسي، قوامه هو الكف عن محاولة تغيير الواقع، وأصحابه غير مدركين له شأنهم في ذلك شأن المسيحيين الذين لا يدركون، كأفراد واعين، كونهم معادين لله بعقيدة التثليث، ويحاولون وضع هذا الانحطاط في قالب نظري شأنهم في ذلك شأن المسيحية التي وضعت مشاعر العداء مع الله في قالب لاهوتي نظري أيضا.
وكما أن المسيحي لا يتصور نفسه كشخص معادِ لله، فالمنحطين داخل الصف الإسلامي لا يتصورون أنفسهم كمنحطين.. وكما أن المسيحية صاغت لنفسها قوالب نظرية، فالانحطاط داخل الصف الإسلامي صاغ لنفسه قوالبه.. وكما أن المسيحية لها سياقها النفسي الحقيقي وهو الرغبة في ادعاء الألوهية، فالانحطاط داخل الصف الإسلامي له سياقه النفسي الحقيقي وهو الرغبة في الكف عن مواجهة المجتمع.
لكن حجة الله قائمة على المسيحية وعلى المنحطين الإسلاميين.. لأن الشرع والعقل والفطرة هم حجج الله على الإنسان.
أنت تدعم الانحطاط داخل الحركة الإسلامية حين تعتبره.. (وجهة نظر)! بدلا من أن تحاصره كـ (جريمة).
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: