على حد علمى فإن الأستاذ مالك بن نبى "المفكر الجزائرى المعروف" هو أول من استخدم مصطلح "الإقلاع الحضارى"، وأزعم أننى أول من صك مصطلح "فقه الإقلاع"، وهذا المصطلح لايعبر عن نوع من الفذلكة اللفظية بقدر مايعبر عن وصف حالة معينة وتحديد أبعادها ومن ثم وضع الحلول الصحيحة والملائمة للخروج منها.. وكان ذلك فى كتاب ـ لم ينشر بعد ـ تحت عنوان مقدمات فى فقه الإقلاع.
من الناحية العلمية ـ ووفقا لعلم أصول الفقه ـ فإن الاجتهادات الإسلامية تستند أساسا إلى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وكذلك الواقع الموضوعى.. وبديهى أن النص الدينى ثابت والواقع الموضوعى متغير. ومن هنا فإن الاجتهاد فى أحد تعريفاته هو التعامل مع الواقع الموضوعى ـ المتغير ـ استنادا إلى النص الثابت، وبديهى أيضا أن هناك الكثير من المدارس الفقهية والفكرية والمنهجية، ولكن كلها تدرك أن الفقه ليس أحكاما فى الفراغ، ولكن هذه الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان، وهذه أصبحت مقولة مقررة فى علم أصول الفقه، والإمام الشافعة مثلا غير اجتهاداته مثلا فى مصر عنها فى العراق ـ تغير المكان ـ وابن عمر رضى الله عنهما أفتى فى عام بغير ما أفتى فى العام الذى سبقه فى نفس المسألة ـ تغير الزمان ـ وهكذا فإنه من الناحية العلمية ــ وفقا لعلم أصول الفقه ــ فإن الفتوى تختلف من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان. كان هذا بالطبع فى إطار ظرف عام حضارى وسياسى وثقافى ثابت وله سمات معينة.
أما الظرف العام الآن ــ الحضارى والسياسى والثقافى فهو مختلف كما ونوعا، وإذا كان الاختلاف الكمى يبرر تغيير الفتوى، فإن الاختلاف النوعى يقتضى اعادة النظر فى الأسس والمبادىء العامة وعلم الأصول ذاته وخاصة أننا الآن فى حالة حضارية وسياسية وثقافية لم يسبق لأمتنا أن مرت بها من قبل ـ لا فى زمن النبوة ولا فى زمن السيادة الحضارية الإسلامية على العالم ــ ومن ثم فإن من الصعب القياس على حالات سابقة. هذا بالطبع يقتضى أولا تحديد الحالة الحضارية والسياسية والثقافية التى نحن بصددها ومن ثم بناء منظومة فقهية واجتهاد مكافىء يضعها فى اعتباره.
نحن الآن فى حالة هزيمة حضارية ... نحن فى حالة خضوع واختراق سياسى وثقافى وعسكرى واقتصادى أمام الغرب. نحن الآن لسنا فى حالة سيادة حضارية أو حتى تعادل حضارى مع الآخرين ومع الغرب بالتحديد، ومنذ عدة قرون فإن التفوق الحضارى الغربى علينا أمر حقيقى يجب الاعتراف به أولا ثم محاولة الإقلاع منه ثانيا.. بكلمة أخرى فإن الخليفة العباس مثلا كان يقول للسحابة فى السماء أمطرى حيث شئت فسوف يأتينى خراجك.. وهذا غير موجود الآن، بل إن الرئيس الأمريكى مثلا هو من يستطيع أن يقول شيئا شبيها بهذا، المنحنى الحضارى الإسلامى صعد ثم ثبت وكان متفوقا على الآخرين أى كانت هناك حالة سيادة حضارية إسلامية ثم حالة تعادل حضارى، ولكن هذا المنحنى بدأ نزوله منذ عدة قرون فى حين صعد المنحنى الحضارى الغربى ومن ثم أصبحنا فى حالة هزيمة حضارية، والفقه الإسلامى المعروف، والذى أنتجه جهد واجتهاد علماء كبار وعظماء تم كله إما فى حالة الصعود الحضارى والسيادة الحضارية الإسلامية، أو فى حالة التعادل الحضارى والاستقلال الحضارى تجاه الآخرين، وكان هذا الفقه عظيما ومناسبا ومستجيبا ومدركا لظرف الاستقلال الحضارى الذى ظهر فى إطاره، ويعد من أروع وأخصب تجارب الفكر عموما والدينى منه خصوصا، ولكن هذه الحالة الحضارية لم تعد موجودة ـ الآن ـ كما وكيفا، نحن الآن فى حالة هزيمة حضارية، وفى حالة اختراق وهيمنة غربية وأمام تحديات استعمارية وصهيونية ونعانى من كثير من الأمراض الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وفى حالة تفكك وتفسخ يخالف حالة الوحدة تحت راية الخلافة التى كنا عليها ، وفى حالة استبداد سياسى وتهميش وسلبية.. إلخ، وعلينا أن نراعى هذا كله فى تقديم منظومة فقهية ـ جديدة ـ مختلفة كما ونوعا، ومستجيبة للطرف الموضوعى، وآخذة فى اعتبارها الحالة التى نحن بصددها، ونحن نطلق على ذلك مصطلح "فقه الاقلاع"، نحن نريد إيقاف المنحنى النازل أو بلغة الرياضيات تقليل عجلة النزول، ثم تقليل سرعة النزول، ثم إيقاف سرعة النزول، ثم عمل انقلاب فى المنحنى ومن ثم الصعود من جديد، وهذه كلها مراحل لايمكن علميا ولا موضوعيا تجاهلها، والاستناد إلى المناهج القديمة والفقه القديم ـ الذى كان عظيما فى زمنه تؤدى إلى كوارث بل تؤدى إلى خسائر وصدامات وقلاقل وإهدار طاقات بلا داعى، وسوف تكرس الحالة ولن تحلها، وفى الحقيقة فإن هذه النقطة هى سبب فشل كل مشروعات النهضة ومحاولات الاصلاح بل وفشل كل الحركات السياسية ــ ومنها الإسلامية - فى تحقيق أى أهداف إلى الأمام ، لأنها جميعا تجاهلت هذا المتغير النوعى، وبديهى أن من المعروف علميا أن تحقيق هذا الانجاز بمعنى تقليل سرعة النزول ثم إيقافه ثم عمل إنقلاب فى المنحنى ومن ثم الصعود تحتاج إلى طاقة عالية جدا، ليست طاقة كمية فقط ولا حسابية فقط، فمن المعروف مثلا أن الوصول من الصفر إلى واحد يحتاج إلى طاقة أكبر من الارتفاع من 1 إلى 2 أو الارتفاع من -5 إلى -4 مثلا وتسمى طاقة الوضع.
نحن إذن نحتاج إلى اجتهادات شديدة المرونة وشديدة التميز وجريئة تكافىء كما ونوعا هذه الحالة اجتهادات تحقق الاقلاع الحضارى المنشود، نحن فى حالة جد مختلفة، حالة الهزيمة الحضارية ـ حالة لم تمر علينا من قبل، نحن فى حالة جديدة تحتاج فقه جديد هو فقه الإقلاع.
ومن ناحيتنا فإن الفقه الجديد يجب أن يعمل على مستويين ، مستوى الخطاب الداخلى للأمة لاخراجها من حالة السلبية ومواجهة الاستبداد ومقاومة الغزو الأجنبى، مع عدم القفز على المراحل أو الدخول فى برامج ومطالب متصورين أننا لا زلنا فى العصر العباسى، والاعتماد هنا ليس على الحكومات بل الشعوب، والحرب الشعبية بدلا من الحرب النظامية وسلاح الاستشهاد.. الخ.
ونحتاج إلى خطاب خارجى يركز على المرونة وتقديم الجانب المضىء للحضارة الإسلامية باعتبارها حضارية غير عنصرية وتحقق المساواة لكل البشر وتصلح أن تكون جذرا ثقافيا للفقراء والمستضعفين فى ثورتهم ضد الرأسمالية والعولمة، وتحويل الإسلام إلى رأس رمح فى مواجهة المشروع الأمريكى الصهيونى.. وكلها أمور طبعا تحتاج إلى جهد أكثر من عالم وأكثر من جهة علمية وسياسية وفكرية، وهذه دعوة يقدمها فقه الاقلاع للجميع لتقديم أطروحاتهم وأفكارهم واجتهاداتهم بهذا الصدد.