ولم أر في عيوب الناس نقصا ... كنقص القادرين على التمام
هاني عرب - السودان
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4642
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إنّه قدر السودان ... أن يكون دائماً في قلب البدايات الناقصة. رغم الموقع المتميّز والثروات الهائلة والإمكانات التي لو توفر ربعها لدولة أخرى منذ خمسين سنة فقط لأصبحت اليوم دولة عظمى تنافس في مساقاتها ومساراتها أعتى الأمم. ولكن قدر شعبه وبعد ما يقرب من ستين عاماً منذ نيل الاستقلال أن يكون مجرّد أضحوكة بين الأمم. لماذا؟
فلنترك نظريات المؤامرة جانباً ولنبحث في قلب المأساة. فلنبدأ من أنفسنا .... نحن شعب السودان.
استقل السودان وانفصل عن الاحتلال البريطاني عام 1956 وبدأ باقتصاد واعد وخدمة مدنية متينة ونظام تعليمي سليم؛ لكن كانت هناك ملفات ناقصة في موضوع الاستقلال؛ مثل ملف الحدود مع مصر وملف جنوب السودان.
استلم السودانيون التركة البريطانية وواصلوا إدارتها بأسوأ طريقة ممكنة بداية بمشكلة الجنوب وانتهاء بإدارة هيئة سكك حديد السودان وبدأت الأمور في التدهور عاماً بعد عام. وكلّما ضعف السودان والسودانيون وجدت الجارة مصر مدخلاً لمزيد من التدخل والتلاعب في شئون السودان، ولم يكن تدخل مصر أبداً لخير.
راوغ الساسة السودانيون شعب الجنوب وحرموه من كل حق وعدوه به ونظروا إليه نظرة استعلائية عنصرية قميئة لا يفيد إنكارها في شيء؛ ونظروا إلى الجنوب بعين محمد علي باشا وجندوا له الجيش الذي استمر – بكل إخلاص - في تنفيذ برنامج غزو السودان الذي ألفه الباشا. واحتقر الساسة المسيطرون كل ثقافات وموروثات الشعب السوداني الأصيل، بل ووصل الأمر إلى مساهمة سياسيين مستلبين يحتقرون أنفسهم وأهليهم ويهربون من ذواتهم في تخريب الموروث التاريخي للبلاد.
انفصلت النخبة السودانية عن الشعب واستمروا في النظر إليه كمجرد أداة للوصول إلى مطامعهم الشخصية جداً وطموحاتهم التي لا تتجاوز إسعاد أنفسهم ودائرة مقربة من المحظيين؛ ونظروا إلى باقي الشعب كمجرد مجموعة من السذج الذين يتم استغلالهم بكل الطرق وأبشع الصور. وغاب عن السودان طوال الستين عاماً الماضية السياسي الذي يقدّم مصالح الوطن والشعب. وزادت حالة الانفصال النخبوي لتختلط بالعنصرية (التي تمارسها مختلف فئات الشعب تجاه كل من يظنون أنه أقل منهم). وامتد التهميش جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً.
بدلاً من استغلال الإمكانيات الهائلة التي يذخر بها الوطن بشكل صحيح؛ عملت الحكومات المتعاقبة على جعل السودان طارداً لكل إنسان وطني غيور وعملت في استنزاف خيرات الوطن وبيعها لقوى أجنبية بأبخس الأسعار. وامتدت قائمة المنتجات المعروضة للبيع الرخيص لتشمل الأرض والإنسان والمستقبل والمصالح الوطنية بكافة أنواعها وأشكالها.
واصلت نفس النخبة السياسية المحدودة العبث بالوطن وتبادلوا الوطن ككرة يتلاعبون بها بينهم ووزعوا أدوارهم لاعبين وحكاماً واحتياطيين ومتفرجين وموالين ومعارضين.
بعد إزاحة المرحوم جعفر نميري - جرت انتخابات ديموقراطية حرة شاركت فيها نفس الوجوه المألوفة التي تنتمي إلى النخبة المتحكمة، ولم تحقق الجبهة الإسلامية النتائج التي كانت ترجوها فبيتت أمراً. وفي عهد الديموقراطية الثالثة الأخيرة التي لم تجد الفرصة الكافية لتنفيذ أي شيء، واصل الوطن انهياره الشامل ووصلت الأحوال حدّاً لا يطاق؛ وساهم تجّار ينتمون إلى الاتجاه الإسلامي في تأزيم الأمور أكثر أمام المواطنين. مما شجع مجموعة من أبناء الجبهة الإسلامية القومية لأن يتقدموا لاستلام الحكم بانقلاب عسكري مدني منسق مستغلين سخط المواطنين على الأوضاع السارية. وقدّموا مجموعة من الوعود ودغدغوا مطامع وعواطف فئات كثيرة من الشعب.
بدأ العهد الجديد بمرحلة التخفي وإنكار التوجه الإسلامي؛ ثم واصل بمرحلة جديدة ابتدأت بتخريب العلاقات السودانية الدولية (الموقف في حرب الخليج واستضافة كل إرهابي فار من بلده) والإسفار عن وجه إسلامي متشدد جداً ورعاية المتشددين (المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي) والتمكين لأنصار الاتجاه الإسلامي والتضييق على من سواهم من السودانيين في الرزق وفي الحياة، كانت الحكومة وقتها شديدة جداً تجاه معارضيها، وســــخّــــرت كل إمكاناتها لحسم كل تمرّد أو معارضة ولم تدخر طريقاً ظنّت أنّه سيخلصها من أحد معارضيها إلا واتبعته. ودغدغت الحكومة المشاعر الإسلامية لدى قطاع واسع من الشعب السوداني وأعلنت الجهاد في الجنوب ووجهت كل إمكانيات الدولة لتسليح الجيش والدفاع الشعبي ومحاولة القضاء على التمرد الجنوبي عسكرياً. في ظل تلك العسكرة التي انتظمت البلاد لم تنتبه الحكومة إلى أنّها تزرع بذور تمردات جديدة وتحشوا بنادق عديدة ببارود سيتوجّه نحوها هي. ولم تنتبه الحكومة إلى أن تنظيماتها (مثل الحركة الإسلامية) وواجهاتها (مثل المؤتمر الوطني) تضم داخلها مجموعة من المتناقضات التي لم يجمعها إلا ما هو أدقّ من شعرة معاوية، وأن التعاركات الداخلية التي تدور في فلك السفينة الحكومية الضخمة ستوقف إبحارها بل ستكاد تغرقها.
تواصلت الصراعات العرقية والجهوية والمالية والاقتصادية والفكرية داخل الحكومة وتواصل استغلال الحكومة للشعب السوداني بصورة بشعة؛ وتواصلت في نفس الوقت المعالجات الاقتصادية الخاطئة وسياسة تمكين الموالين وإبعاد الكفاءات السودانية في كل المجالات؛ فنخر السوس عظام الدولة وبقي هيكلها العضلي يعمل دون أن ينتبه لوهن العظم. حصل الانفصال بين مكونات المؤتمر الوطني، ثم بدأ بعد فترة تمرد دارفور، وتواصل تمرد جبال النوبة ولم تتمكن الحكومة من حسم تمرد الجنوب. وجّهت الدولة قسماً كبيراً من إمكانياتها نحو مشروع استخراج البترول. وعدلت عن كثير من سياساتها الخاطئة التي كانت تقودها تجاه العالم؛ لكن كان على الصعب من العالم الوثوق بحكومة يمحو نهارها كلام ليلها، وتتعدد مصادر اتخاذ القرار فيها؛ وتختلف أقطابها حول المواقف المعلنة والسرية، استغل العالم تخبط هذه الحكومة وأخذ منها كل ما يريد دون أن يعطيها شيئاً مما تريد. وابتلعت الحكومة الطعم بكل سهولة. وفي نفس الوقت؛ استمر سوس السمسرة في نخر عظام الاقتصاد السوداني وتوقف كل إنتاج حقيقي وتحول الاقتصاد السوداني الزراعي البسيط إلى اقتصاد استهلاكي يدمّر نفسه. وانفصل مواطن الخرطوم عن واقع السودان؛ وغاب عن نظره كل الفظائع التي يتعرض لها إخوته المواطنون في كل مكان من مجازر ومآسي وهوائل، وسقط الضحايا بأعداد لا يمكن حصرها في كل ركن من أركان الوطن.
مع استمرار سياسة التمكين وتعيين الموالين وصل إلى مناصب حساسة في كل الأجهزة المدنية والعسكرية والأمنية أشخاص غير أكفاء لا يعرفون أبحديات عملهم وليس لهم من معينات التعيين إلا التزكية؛ وضاعت كفاءات سودانية عديدة، وقد أدى هذا الأمر مباشرة إلى الخراب الذي نشهده الآن في كل نقطة ومفصل وذراع في الوطن.
جاءت اتفاقية السلام؛ ووجدت الحكومة نفسها في شهر عسل بترولي ودفق ملأ جيوب وخزائن بنك السودان وكثير من الخزائن الجانبية والأفقية والرأسية الأخرى؛ وظن أهل الإنقاذ أنهّم ودعوا الفقر بغير رجعة؛ فدخلوا في أدوار تفوق حجمهم وأنفقوا إنفاق من لا يخشى الفاقة؛ صدّقوا أوهامهم بأن الجنوب سيختار الوحدة، وحدثهم بعض من يثقون فيهم بأنّ الجنوب – حتى وإن انفصل – لن يستطيع التخلي عنهم وسيبقى معتمداً على أنابيبهم وموانئهم وبضائعهم وأن شهر العسل البترولي سيدوم إلى الأبد.
في ظل تلك الحسابات الخاطئة فقدت البلاد كل مورد وكل كفاءة؛ وفجأة استيقظوا – بعد فوات الأوان – ولم يجدوا بديلاً من طريقين: أن يتركوا الأمر كله وذلك يعني فقدانهم لكل حصانة تمتعوا بها أو أن يستمروا في المكابرة وهو تماماً ما فعلوه ونعاني منه الآن. واستمرار فترة الجلوس على الكراسي جعل البعض يظنون أنهم السودان وأن السودان هم. وانفصل آخرون عن الواقع حتى ظنّوا أن المهم في هذه الدنيا هو أنفسهم فقط. وفيما تغرق سفينة الوطن يستمر أهلها في صراع بينهم ، لن ينتهي إلا بعد أن يستقر الجميع في القاع.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: