د - محمد الحفظاوي - المغرب
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5690 hafdawi@gmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الشورى تعني معرفة حقيقة الأمور من خلال عرضها على أهل الرأي لإظهار واستخراج تلك الحقيقة.فمعنى الاستخراج كنتيجة لتقليب النظر والفحص والاختيار هو المعنى الظاهر من دلالة الشورى اللغوية، وهو ما يتناسب مع الدلالة الاصطلاحية في أصل المفهوم، جاء في كتاب طلبة الطلبة:"والاستشارة طلب الرأي والتدبير.والاسم:المشورة..والمشورة هي النصيحة" .وهذا المعنى يقتضي من النظام الشوري العمل بحق الشعب في اختيار نظام حكمه، وحقه في التشريع لهذا النظام.تشريع ابتناء لا تشريع ابتداء ؛ لأن المقصود في التصور الإسلامي بالتشريع؛ الاجتهاد المبني على أصول الشرع ومقاصده العامة، وهذا ما نصطلح عليه التشريع الابتنائي، أما في التصور الغربي فالتشريع يكون على أساس العقل البشري، وهو مانسميه التشريع الابتدائي.فتشريع الأمة هو تشريع ابتناء لا تشريع ابتداء..ذلك أن التشريع ابتداء هو لله وحده، والتشريع ابتناء هو للشعب من خلال مفهوم سيادة الشعب، الذي يعني شرعيا حق الشعب أو نوابه في الاجتهاد حول نظام الحكم الـأصلح له، وذلك بناء على النصوص الشرعية والمقاصد الكلية.لأن"السلطة السياسية سلطة شعبية بمقتضى توكيل الأمة لمؤسسة الرئاسة" المكونة من أولي الأمر، الذين تربطهم بالأمة علاقة نيابة، وذلك أن هؤلاء يمارسون واجبا كفائيا، وفي الواجب الكفائي تتحقق النيابة عن الأمة.فجوهر الحكم الإسلامي هو نيابة الحاكم عن الأمة بناء على مبدإ الشورى، وفي هذا الموضوع يقول ابن تيمية:"لا غنى لولي الأمر عن المشاورة...وأولوا الأمر صنفان:الأمراء والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فعلى كل منهما أن يتحرى ما يقوله ويفعله طاعة لله ورسوله واتباع كتاب الله" .
إن من فرائض الدين وضروريات الحياة، ومن مقومات التصور الحضاري السليم، أن تنظم الأمة نفسها تنظيما محكما يرتكز على فهم شمولي للإسلام يسري في بنيتها العقدية والثقافية، ويتخذ من الشورى معلما أساسيا في كل الجوانب و في كل الأبعاد. وإن مقتضيات المشروعية والمرجعية الشعبية للحاكم أن يكون تصرفه في شؤون الأمة منوطا بمرعاة المصلحة، لذلك وضع الفقهاء القاعدة الفقهية المشهورة: «التصرف على الرعية منوط بالمصلحة».قال الشيخ مصطفى الزرقاء يشرح هذه القاعدة:"هذه القاعدة ترسم حدود الإدارة العامة والسياسة الشرعية في سلطان الولاة وتصرفاتهم على الرعية، فتفيد أن أعمال هؤلاء الولاة وتصرفاتهم النافذة على الرعية الملزمة لها في حقوقها العامة والخاصة، يجب أن تبنى على مصلحة الجماعة، وتهدف إلى خيرها" .
وهذا لا يتأتى إلا باعتبار مبدإ الشورى.وهو مبدأ يستمد أساس مشروعيته في القرآن الكريم من آيتين كريمتين- وتمت الإشارة إليه في آيات أخرى كما في قصة بلقيس مع ملئها- فالآية الأولى وردت في سورة آل عمران.قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )آل عمران/159 ( والآية الثانية في سورة الشورى ); وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) الشورى/38.
ويترتب على الشورى التعددية في الرأي كما أن الشورى مترتبة ومتولدة عن الحرية، التي يقرها الإسلام بنفي الإكراه على إلزام الناس بالمعتقدات التي لايرغبون فيها عن طواعية.وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله " ".
وقد اكتفى التشريع بتقرير الشورى كمبدإ كلي، قد تختلف أشكاله التطبيقية بحسب مقتضيات الأحوال والزمان والمكان.ولابد هاهنا من الإشارة إلى مفهوم الشورى ومعانيه.
ذلك أن الشورى قبل أن تكون أداء لفعل وسلوك ظاهر هي شعور نفسي ابتداء، يتبلور في داخل الذات ليتحدد في صورة موقف اتجاه الذات، وموقف اتجاه الآخرين.إذن فالشورى بهذا المعنى هي قبل كل شيء شرط نفسي سابق على كل الظواهر والأشكال المعبرة عنه، وهذا ما ذهب إليه الأستاذ مالك بن نبي عندما تحدث في مؤلفه"تأملات" عن الديمقراطية، وأحبذ في هذا المقام أن أستعير منهجه مع استبدال مصطلح "الديمقراطية" الذي استعمله، بالمصطلح الشرعي"الشورى".
إن النظر إلى الشورى – في نظر مالك-يتم من ثلاثة وجوه:
1- الشورى بوصفها شعورا نحو ال(أنا).
2- الشورى بوصفها شعورا نحو الآخرين.
3- الشورى بوصفها مجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية الضرورية لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد .
فالشورى تتجلى في صورة استعداد نفسي خال من كل أشكال الاستبداد لدى الأفراد، وحامل لقيم وأخلاقيات إيجابية كالتواضع واللين والعدل والحب، ويرسخ في النفس نظرة تكريمية للآخرين، تعبر عن نفسها من خلال فتح المجال للآخرين ليعبروا عن آرائهم، وتقدير هذه الآراء واعتماد ما انتهى النظر والترجيح إلى صوابيته. وإذا كانت الشورى مطلوبة ابتداء من أولي الأمر حكاما وعلماء، فإن ضمان وجودها وبقائها سارية معمولا بها يحتاج لأمرين:
الأول _ انتشار واسع لخلق الشورى وشروطه في العادات والتقاليد القائمة بأن تتحول المشاورة إلى ثقافة عميقة في خلايا الحياة الاجتماعية كلها، لأن من خصائص الشورى اتساع المفهوم، واستغراق دلالته للحياة الاجتماعية.
الثاني_ توفير ضمانات واقعية وقانونية للعمل بهذا المبدإ في الحياة العامة، والتنظيمية والإدارية.
وبهذه الضوابط يتم اتقاء شر الاستبداد والعدوان على الحقوق الفطرية، لأن غياب الحريات وانتشار الاستبداد، هو أعظم كارثة حلت بالبشرية، وهو أعلى مراتب الفساد والعدوان، ذلك أن الخالق سبحانه خلق الانسان بإرادة وحرية، وعندما يصادر هذا الانسان بحريته وإرادته حرية الآخرين وإرادتهم فإنما يصادر معنى ومبرر وجودهم على هذه الارض، فهو إذن سلوك إجرامي كبير، وكل إنسان على وجه الارض يهمه ضمان حريته الاعتقادية والسياسية والمدنية.من هنا ستبقى الشورى بمفاهيمها السامية لا تطبيقاتها السلبية، حلما مستحيلا بدون التضحية، لـ"أن الشورى لن تصبح نظاما سياسيا عندنا قبل أن تتحول بحق إلى ثورة أخلاقية؛ يشعر من خلالها كل فرد أنه عضو مؤسس لها، مقصود ومسؤول وليس تابعا أو مقلدا" .
إن المبادئ والنصوص التشريعية تحمل من القيم السامية والمثل العليا ما يغري كل متعطش للحياة الكريمة، ولكن المشكلة ترجع إلى تطبيقات الأفراد التي تنزع نحو خدمة الذات على حساب الآخر، وحب الغلبة والانتصار.
وينطلق الحل من ضرورة الحضور القوي للقيم الإيجابية في كل تفاصيل الحياة، فقد أثبتت تجارب المجتمعات تاريخيا؛ أنه كلما ارتفع مستوى التطبيق للقيم، كلما استقامت الحياة وتوازنت العلاقات، وحصل الاستقرار السياسي والاجتماعي وانتعش الفعل الثقافي والعلمي، وكلما غابت وضعفت القيم في الواقع، كلما انحرف الأداء السياسي والإداري وانتشرت الانحرافات وبلغت الأزمات ذروتها.
وأخيرا نقول بأن أي مجتمع يطمح في نظامه العام إلى تحقيق مصالح أفراده وعلى رأسها الأمن بكل أبعاده والاستقرار في كل مستوياته، لابد من شرط الحرية، ليتسنى للأفراد الذين يكونون ذلك المجتمع من التواصل و التفاعل فيما بينهم ليخلصوا إلى الاتفاق الجماعي على الغايات الكبرى والضرورية للحياة، والتي بدونها وبدون الاتفاق عليها لا يمكن أن تقوم للكيان الاجتماعي قائمة.وهي بالمصطلح الأصولي:المقاصد الكلية، أو الكليات الخمس، التي قال فيها حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة» ثم قال: «وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح» .وهي:حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: