إذا كان لكل عصر من العصور سماته وقضاياه، فإن الكثير من قضايا العصر الحديث مرتبطة بالمرأة؛ فالحديث لا يتوقف ولا يهدأ عن تحرر النساء وحقوقهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعن إزالة كافة أشكال التمييز عنهن، وكثر الحديث عن المرأة في التاريخ وعند الفلاسفة، والمرأة بين علم النفس وعلم الاجتماع.
بل ظهرت فلسفة حديثة أُطلق عليها الفلسفة النسوية أو الأنثوية، أخذت على عاتقها أن ترى الوجود كله بعيون الأنثى، حتى العلوم الطبيعية أخذت نصيبها من هذه الفلسفة، حتى القرآن الكريم وجدنا من تتبجح وتخضعه لتلك الفلسفة كما فعلت آمنة ودود مثلًا في كتابها المعنون بـ"القرآن والمرأة .. إعادة قراءة النص القرآني من منظور نسائي".
ومن هنا، لا نبالغ إذ نقول: إن العبء الذي يثقل كاهل المرأة أصبح مضاعفًا، وأخص بالذكر: المرأة الداعية، التي أصبحت في مواجهة مفتوحة مع تيارات متنوعة الاتجاهات والمشارب، لكنها جميعًا تقف في خندق واحد ضد المرأة ذات التوجه الإسلامي.
"
الصمت لم يعد ممكنًا"، هذا ما ينبغي أن يكون شعار المرأة الداعية، أو تلك المؤهلة للدعوة في الفترة القادمة؛ فلقد تعين عليها أن تخوض هذه المعركة بنفسها، فلم يبق غيرها على هذا الثغر، ولتتذكر قول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ...} [التوبة: 71].
فإذا كانت المرأة المسلمة على مدار التاريخ الإسلامي كله مكلفة بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أن المستجدات التي حدثت مؤخرًا على ساحة الفكر العالمي ـ بصورة غير مسبوقة ـ جعلت المرأة المسلمة المعاصرة في سابقة تاريخية ليس لها نظير، فقبل بزوغ عهد النبوة لم تكن المرأة في شبه الجزيرة العربية ولا في بلاد فارس أو بلاد الروم أو مصر ذات حضور وأهمية من أي نوع، فكانت القناعة لدى الجميع ـ والمرأة في مقدمتهم ـ أن النساء لا يتساوين من الناحية الإنسانية مع الرجال.
ويعلم جميع دارسي الحضارات القديمة أن ألوانًا بشعة من الظلم والانتهاكات وقعت بحق النساء، دون أن يحركن ساكنًا لرفع هذا الظلم والجبروت الواقع عليهن حتى نزل الوحي الإلهي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ليبدأ عهد جديد للنساء، {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
ويستشعر النساء ما لهن من قيمة، حتى نجد من ترفض الزوج الذي يفرضه عليها أبوها، وعندما يترك لها الرسول صلى الله عليه وسلم الخيار في إتمام هذا الزواج أو رفضه تفصح عن السبب الحقيقي؛ وهو إعلام النساء بحقوقهن الأصيلة في اختيار الزوج وعدم إجبارهن على ما يكرهن.
ونجد النساء وقد انتبهن عندما يصعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنبر ويقول: (يا أيها الناس ...)، فهن من الناس؛ أي إن جميع الخطاب القرآني والنبوي يخصهن عدا ما جاءت القرينة لتشير أنه خاص بالرجال فحسب.
وبينما كان ذلك الرقي صبغة للحضارة الإسلامية، كانت أوضاع النساء في باقي الحضارات كما هي في دياجير الظلام، وظلت الأوضاع هكذا، حتى تذبذبت مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي نفسه وفقًا لموجات من الصعود والهبوط الحضاري التي مر بها.
ومع بداية العصر الحديث ـ الأوروبي بالطبع ـ ومع قيام الثورة الصناعية والحاجة للمزيد من الأيدي العاملة، ومع حروب عالمية استهلكت البشر كما استهلكت البيئة، كان التدشين لعصر جديد للنساء يدخلن فيه آلة العمل بقوانينها الجبارة، وكان لابد من قيام أفكار وفلسفات جديدة لخدمة هذا التوجه؛ فكانت حرية المرأة، وحرية الجسد، والبحث عن دور جديد للنساء، و...إلخ.
ومع دخول النصف الثاني من القرن العشرين؛ دخلت قضايا المرأة في طور جديد هو طور الفلسفة النسوية المتطرفة، فلم يعد البحث عن حقوق المرأة المهدرة وعن صيغة أكثر عدالة في علاقتها بالرجل، ولكن أصبح العالم كله يتم النظر إليه من منظور أنثوي ضيق، كبديل للمنظور الإنساني الرحب، وأصبح الحديث: أنه آن الأوان أن تحل الأفكار النسوية محل الأفكار الذكورية والأبوية التقليدية النمطية، لأن الأنثى هي الأصل، وغير ذلك من ترهات النسوة اللاتي يخضن حربًا أو بالأحرى يفتعلن حربًا مع الرجال دون أي اعتبارات للقيم الخلقية الرفيعة، التي يرين أنها قيود وضعها الرجال من أجل تكبيل الإناث.
الكارثة الحقيقية أن هذه الترهات تم تدشينها في وثائق دولية نافذة، وتأخذ طريقها إلى القوانين المعمول بها في الدول الإسلامية، والأسوء من ذلك كله أنها تأخذ طريقها إلى عقول بناتنا ونسائنا من خلال دعاية إعلامية مكثفة وأعمال درامية مؤثرة تخاطب المشاعر والعواطف من جهة، وتلقي الشبهات في العقول من جهة أخرى، وتستغل بعض الوقائع المؤسفة التي تحدث في بيئات منعزلة عن الدين؛ ليكتمل مثلث الحصار الذي تواجهه المسلمة المعاصرة، فأين نساؤنا الداعيات من هذا كله؟ وما هي الخطة المنظمة الدقيقة لمواجهة هذا المد النسوي الذي يحتمي بمظلة النظام العالمي الجديد؟
لابد للداعية المسلمة من طاقة إيجابية تستمدها من دينها العظيم للعمل على العديد من المحاور، فلابد من وجود الداعية المفكرة الملمة بالتيارات الفلسفية والسياسية الموجودة على الساحة، وفي الوقت ذاته المتعمقة في فهم قضايا دينها للرد الفكري على الشبهات المثارة، ولابد من وجود الداعية الحركية المتخصصة في دعوة فئة معينة وطبقة خاصة من النساء، فالخطاب الدعوي لفئة المتعلمات المثقفات يختلف عن لغة الخطاب الموجه للسيدات البسيطات واللاتي لم يحظين بقدر من التعليم، والخطاب للطبقة الثرية يختلف عن الخطاب الموجه للطبقة المهمشة الفقيرة.
ولابد من الداعية المتخصصة في التخطيط والتي تعد البرامج التربوية المختلفة للقطاعات المتنوعة، وتلك التي تمتلك مهارات النقد الذاتي والقدرة على تصحيح المسارات.
لا أعني من كل ما سبق أنني أستبعد جهود الدعاة الرجال ومساندتهم وخططهم، ولكن أعني أنه آن أوان عمل المرأة الداعية لسد ثغرة هي أعلم بخباياها وأقدر على مواجهتها بعون وتوفيق من الله عز وجل.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: