عدنان المنصر - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8507
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لا تزال إيران تثير حيرة العالم، فحتى عندما لا يتعلق الأمر بالعراق أو بالمسائل النووية أو بمؤتمرات أممية، تتجه عيون الملاحظين إليها بكثير من التركيز وهو أمر يدل على أن هذا البلد يبقى، منذ أكثر من ثلاثة عقود، نواة تناقضات ومصالح كثيرة في عالم اليوم. بالنسبة لكثير من الملاحظين غير المحايدين يتعلق الأمر بتلقف عثرات نظام لم يسعد كثيرون برؤيته يمسك بمقاليد السلطة في 1979، وبالنسبة لآخرين فإن الأمر يتمظهر في عناية بكل ما يمس الشان الديمقراطي ومسائل الحرية الفردية والعامة.
عندما اقترب موعد الإنتخابات الأخيرة وبعد الإعلان عن نتائجها المخيبة لآمال الكثيرين فتح الباب أمام الكثير من التحليلات وانتعشت آمال لم يكن هناك في المنطلق ما يبررها. ينسى كثير من الملاحظين أنه قبل تلك الإنتخابات لم تكن أية استطلاعات جدية ترجح فوز خصوم الرئيس المتخلي أحمدي نجاد، بل إن الأمر كان يسير دوما في اتجاه توقع فوز كاسح "لمرشح الفقراء" كما يحلو للكثيرين أن يسموه، افتخارا أو انتقاصا. تهمل وسائل الإعلام اليوم ذلك الإستطلاع الذي أنجزه خبيران أمريكيان قبل الإنتخابات بثلاث أسابيع والذي تم على مستوى إيران كلها والذي رجح فوز نجاد من الدورة الأولى وحصوله على مجموع أصوات يفوق بكثير ما أعلن عنه غداة عملية الفرز. ومما يعطي لتلك الإستطلاعات الكثير من المصداقية أن الإصلاحيين أو من يفترض أن يكونوا إصلاحيين، كانوا يعيشون إنقساما حادا حول طبيعة مرشحهم، بل إنهم لم يتقدموا إلى هذه الإنتخابات كجبهة إصلاحية وإنما كأطراف متنافرة في أدنى الحالات. كما أن موسوي، الذي ينبغي الإعتراف بأن النظام هو من اختاره فعليا لتزعم الإصلاحيين بتنقية أشواك بقية المرشحين من طريقه، لم يكن له أي حضور في الساحة السياسية منذ نهاية مهامه كرئيس للوزراء إبان الحرب العراقية الإيرانية، وأنه بالتالي غير قادر، واقعيا، على أن يجمع حوله كل تلك الشعبية في هذا الوقت القياسي دون أن يكون هناك شيء وراء الأكمة. من جهة أخرى، كان أحمدي نجاد يتقدم في أرض مفتوحة. فقد أصبح الرجل، رغم بعض الغوغائية والضجيج غير المبررين في كثير من الأحيان، رمزا لتوق الأمة الإيرانية لامتلاك السلاح النووي وللإرتقاء بالتالي إلى مرتبة القوة الإقليمية الكبرى مع ما يفترض أن يضمنه ذلك لها من أمن إستراتيجي على المدى الطويل. في الإطار نفسه يعجز كثير من الديمقراطيين الرومنطيقيين عن تبرير المنطق الذي يستندون إليه في ترجيح فوز موسوي في الوقت الذي أسفرت فيه الإنتخابات الإسرائيلية عن فوز الثنائي الدموي نتنياهو- ليبرمان، وفي ضوء الأجندة الواضحة التي ما فتئت الحكومة الجديدة في تل أبيب تعلنها على الملأ، وبخاصة ضرورة وقف المشروع النووي الإيراني بالقوة إن لزم الأمر، وكثافة المناورات والإستعدادات التي تمت وتتم في إطار الإستعداد للضربة المحتملة. من جهة أخرى، ومن منطلق قومي بحت، فإن نجاد يمثل أيضا رمز المرحلة، ففي خصوص سياسة التسلح والبرنامج النووي والسيطرة بالنارعلى المحيط المباشر لحدود البلاد، لا يقدم منافسوه سوى عدد من المبادئ الرخوة التي لا ترقى لتقديم أية استراتيجيا قادرة على لجم نوايا الأعداء المتربصين بالقوة الصاعدة.
لعله من المفيد العودة إلى بعض التسميات والمفاهيم التي يبدو أن الدعاية الإعلامية المكثفة قد نجحت في غرسها في لاوعينا حتى أصبحنا نأخذها كمسلمات لا يرقى إليها التشكيك. فعندما يقدم كل من موسوي ورفسنجاني، وقبلهما خاتمي وربما منتظري، كرموز للتيار الإصلاحي، يصبح الأمر مدعاة للتفكر. بهذا المنطق تصبح "الجبهة الإصلاحية" خليطا غريبا وغير متجانس على الإطلاق، إلا في ولائها للأسس التي يقوم عليها نظام ما يسمى بجمهورية إيران الإسلامية. هنا، لا شيء يمنع أحمدي نجاد أيضا من إدعاء الإنتماء إلى هذه الجبهة، فالرجل رغم تشدده الديني الظاهر قد جاء إلى الحكم بمشروع إصلاحي حقق، على الأقل بالنسبة لتجربة خاتمي الفاشلة، شعبية أكبر لدى طيف واسع من الأمة الإيرانية. هناك شيء واحد يجمع هؤلاء المرشحين في الحقيقة، وهو عداؤهم لنجاد، إلى الحد الذي بدا أن ترشحهم كان ضده بالأساس وليس من أجل الرئاسة والإصلاح. من جانب كثير من الإيرانيين يبدو أن نفس الرسالة قد وقع تمريرها، ولكن في الإتجاه المعاكس تماما: من أجل أن لا يصل أمثال موسوي، ممثل البازار، ورفسنجاني، رمز الفساد، إلى الحكم وقع التصويت مجددا لنجاد.
يهمل كثير من الرومنطيقيين الذين يرون في كل خطاف ربيعا أن تجربة "الإصلاحيين" قد أصابها أكبر فشل ممكن عندما لم يحقق خاتمي أي شيء تقريبا مما وعد به، سواء لقصور في التصور، أو لقلة واقعية في الأداء، أو لمحاصرة المحافظين له. ينبغي العودة إلى التحليلات التي ظهرت بعد فوز نجاد في الإنتخابات السابقة للتأكد من خيبة الأمل الكبيرة التي حققها الإصلاحيون حتى لدى أنصارهم المباشرين، النساء والطلبة. من منطلق استقراء الظروف الداخلية والخارجية وتنسيب الأحكام ومراجعة الكثير من المسلمات، لا شيء يبرر عقليا أن ينجح الإصلاحيون وهم بدون مخالب، في حين أنهم انهزموا بطريقة مدوية عندما كانت لهم كل مخالبهم. كما لا أحد يستطيع أن يبرر أن نجاد الذي انتصر عندما كان سعر برميل النفط في أدنى مستوياته أن لا يستثمر ارتفاع الأسعار القياسي في التحضير لإعادة انتخابه.
في خضم كل الفوضي التى يسبح فيها الوضع الإيراني يمكن ملاحظة أن التحديات الحقيقية لا تقع داخل إيران وإنما خارجها. يكفي في هذا السياق تتبع الإشاعات الكثيرة التي يلقي بها في أوساط المحتجين على فوز نجاد والخدمات التي خصصتها الدول الغربية وأجهزتها السرية لمساندة وتنظيم الاحتجاجات في طهران. مع ذلك، فإن اتهام المحتجين بالعمالة للغرب واحتقار الدماء التي تسيل من أجسادهم في شوارع طهران لا يمكن إلا أن يزيد الأزمة تعميقا.
يغض المتعاطفون مع نجاد، الذين تهملهم وسائل الإعلام ولا تغطي تحركاتهم رغم ضخامتها، النظرعن المشاكل الحقيقية التي تعيشها إيران سواء تعلق الأمر بارتفاع نسب التضخم الإقتصادي والإنتشار المخيف للبطالة، أوبوضع الحريات الذي يبدو، في أدنى الحالات، بائسا. غير أنه لا شيء يعد بأن يتغير كل ذلك بمجرد خروج نجاد من الحكم، ذلك أن الصلاحيات الحقيقية التي يمكن أن تغير الوضع نحو ما يريده المحتجون لا تقع لدى مؤسسة الرئاسة. هناك حاجة حقيقية إلى إعادة التفكير في بعض الأسس التي قام عليها نظام الجمهورية الإسلامية بما يحقق فصلا واضحا، كم سيكون صحيا، بين الملالي وشؤون الحكم المدنية، ولكن هل هذا ما يرغب فيه الإيرانيون فعلا؟ حتى تتحول الأمور في الإتجاه الذي يرغب فيه المحتجون، ينبغي أن يكون رموز الحركة من خارج النسق، ومستقلين عن مجموعات المصالح وقوى الفساد التي رباها ذلك النسق، وأنقياء السريرة السياسية، وهو أمر لا يبدو أن واحدا فقط من المرشحين الخاسرين مستعد لتحمل تبعاته.
في السياق ذاته يمكن التساؤل عن جدوى المنطق الذي لا يرى في الوضع الراهن في إيران إلا ما يريد أن يراه، مع ما يعنيه ذلك من غض النظر عن كل تعقيدات المشهد الممكنة. يسوء هؤلاء أن يروا في نجاد مرشحا للفقراء ورجل الشعب البسيط الذي لا تشوب سيرته، على العكس من منافسيه جميعا، أية شكوك بالفساد، ويرون عوضا عن ذلك كله في مظاهرات أبناء شمال العاصمة، المنحدرين من العائلات البورجوازية بالخصوص، أمل التغيير في إيران. كم يبدو الوضع شبيها بما حصل في فنزويلا أو في بوليفيا: انتفاضة أبناء الموسرين المسندة من الغرب لا يمكن أن تحقق، في حضور الممارسة الإنتخابية المباشرة وفي مواجهة أمواج المعدمين، أية نجاحات ممكنة أو بعيدة المدى.
على العكس مما يريده أن يراه كثير من الناس، فإن نجاد هو الذي يعبر عن القوى الصاعدة في إيران وليس خصومه الذي لا يجمع بينهم سوى العداء الشخصي له، والوفاء العام لقيم الثورة ومؤسساتها. ففي حين أن "ابن الحداد" لا يستند إلا إلى أصوات الفقراء من معدمي المدن والأرياف، يبدو على منافسيه من علامات النعمة ما يجعل منهم وجوها لمراحل خلت فضلا عن افتقادهم لأية رؤية قادرة على إقناع الكم الأكبر من الشعب بانه يمكن الوثوق بهم. يشعر كثير من الإيرانيين أزيد من أي وقت مضى بوطأة الأزمة الإقتصادية التي انعكست تدهورا في أسعار النفط، وهم أو أغلبهم لا يريدون حتما أن يروا ليبراليين وممثلين للبازار في دفة الحكم لأن ذلك سيكون معناه مزيدا من التفقير ونهاية مؤلمة للسياسة الإجتماعية للدولة التي دشنها نجاد رغم عدم جدواها على المدى البعيد. ومن ناحية البازار ذاته، فإن دفع الأمور من طرف خفي إلى الفوضى سيكون أمرا وخيم العواقب على المصالح التي أبقت عليها الثورة ورعتها، ونهاية لنظام عريق من التحالف بين النسق والطبقات الموسرة، وهو من نوع المخاطر التي لم تجرؤ تلك الطبقات على ركوبها تقليديا، داخل إيران وخارجها.
لا أفق ممكنا لتحركات اليوم يخرج عن سياق ما توقعه واضعوا النظام والممسكون به، فعباءة الثورة السوداء تظلل الجميع ولا أحد، ما عدا بعض الشباب المتحمس، يبدو مستعجلا في الخروج من تحتها. يكفي أن ينظر الفاهمون في الألوان إلى الأخضر الذي يرفعه أنصار موسوي المفترضون، وسيرون أن الأمر، حتى وإن نجح، لا يعد بكثير مما يتوقعونه.
------------- عدنان المنصر
مؤرخ من تونس
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
29-06-2009 / 18:15:23 tounsi
أخيرا وجد شن طبقة يوافقها !!!!
27-06-2009 / 21:56:05 فينيق
هذا قلم المؤرخين
يسلم قلمك .. و حفظ الله فكرك .. و ادامك
في الواقع هذا حديث المؤرخين الذين يتكلمون بنبض المواطن المثقف المطلع الذي يفهم الأمور ببساطتها بعيدا عن كل فذلكات المحللين ، و الموتورين .. لنا شرف قراءة مقالك .. و لك الشكر
29-06-2009 / 18:15:23 tounsi