عامان فقط يفصلان بين دخول قوات الاحتلال الإثيوبي إلى الصومال أواخر ديسمبر 2006، وخروجها مُشَيَّعَةً بلعنات الصوماليين مطلع يناير الجاري، إلا أن هذين العامين شهدا تحولاتٍ دراماتيكية غَيَّرَتْ ملامح المشهد الصومالي بشكل شبه كامل، فحين دفع الإثيوبيون بجيشهم لأراضي جارتهم التي تعاني من الفوضى، وغياب حكومة مركزية منذ 1991، كان الصوماليون يتنسمون للمرة الأولى منذ زمن طويل أجواءَ الأمن والاستقرار، بعدما نجح تحالف المحاكم الإسلامية في فرض النظام والهدوء على القطاع الأكبر من البلاد.
وأما الآن، فقد تحول الهدوء إلى فوضى عارمة، وأصبح الاستقرار أَبْعَدَ ما يكون عن متناول أيادي الصوماليين.
دخول الإثيوبيين للصومال، والذي حظي بموافقةٍ ودَعْمٍ شبه علني من الولايات المتحدة، جاء بدعوى مساندة حكومة الرئيس عبد الله يوسف، الضعيفةِ والمنعزلة في مدينة بيدوا، في مواجهةِ قوات تحالف المحاكم الإسلامية، التي كانت قد نجحت لتوها في نزع أسلحة الميليشيات التابعة لأمراء الحرب في معظم المدن، بخاصة العاصمة مقديشو، مما أَنْعَشَ آمال الصوماليين في إنهاء سنوات الفوضى والفلتان، والعودة لممارسة حياتهم بشكل طبيعي كبقية شعوب العالم.
وبالفعل لم تَصْمُدْ قوات المحاكم طويلًا أمام جيش الاحتلال الإثيوبي، في ظل الفارق الكبير في موازين القوى، لكن هذه القوة لم تنجح في تمكين الإثيوبيين من فَرْضِ سيطرتها على العاصمة مقديشو؛ فسرعان ما اندلعت مقاومة مسلحة، انخرط فيها طيفٌ واسع من الصوماليين، ضَمَّ مقاتلي المحاكم، ومقاتلين عشائريين، وآخرين يمثلون قوى إسلامية لم تنضوِ تحت لواء المحاكم، فضلًا عن قوى جديدة تشكلتْ خِصِّيصًا لمقاتلة الإثيوبيين، وهو ما يَنْطَبِقُ إلى حَدٍّ كبيرٍ على جماعة "شباب المجاهدين"، والتي باتت تُشَكِّلُ الآن رقمًا صعبًا في المعادلة الصومالية.
مكاسب إثيوبية
ولعل السؤال الذي يُحَيِّرُ الكثيرين بعد خروج الإثيوبيين بهذه الصورة، وفي ظل الفوضى التي تسيطر على المشهد الصومالي بكافة تفاصيله هو: ماذا جنى الإثيوبيون من مكاسب خلال هذين العامين، ولماذا خرجوا بهذه الكيفية وفي هذا التوقيت؟
الإجابة على هذا السؤال تكمن بين سطوره، فالفوضى الحالية تُعَدُّ مكسبًا مقبولًا للإثيوبيين، خاصةً إذا كان البديل هو وجود نظام قوي مناهض للتغلغل الإثيوبي في الشأن الصومالي، كما كان الحال بالنسبة للمحاكم الإسلامية.
فالإثيوبيون رأوا في سيطرة المحاكم على الصومال خطرًا، لا يُهَدِّدُ فقط نفوذَهُم داخل الصومال، وإنما كذلك يثير مخاوف وتهديداتٍ تتعلق بالداخل الإثيوبي من جهة دعم جماعاتٍ إسلاميَّةٍ إثيوبيةٍ مناهضةٍ لنظام أديس أبابا، كما أنّ وجود حكومة قوية في مقديشو قد يقود لفتح كثيرٍ من الملفات الشائكة بين البلدين، خاصةً فيما يتعلق بالخلافات الحدودية، وإقليم أوجادين الصومالي الذي تحتله إثيوبيا.
ولذا جاء قرار التدخل، الذي حَظِيَ بمظلة دعم أمريكية، وصمتٍ إقليميٍّ وعربي، لكن الإثيوبيين فوجئوا بسقوطهم في الوحل الصومالي بمفردهم، فلا الولايات المتحدة قدمتْ لهم الدعم والمساندة الموعودة، ولا الاتحاد الإفريقي نجح في تعزيز قوات حفظ السلام، التي كان من المفترض أنْ تَحُلَّ محل الإثيوبيين، مما يتيح لهم انسحابًا هادئًا ومُبَرْمَجًا، فضلًا عن ذلك، فإن حكومة الرئيس يوسف شهدتْ عدة انشقاقات أضعفتْ كثيرًا من قُوَّتِها، وهو ما تَزَامَنَ مع ضراوة المقاومة التي أبداها الصوماليون، بحكم العداوة التاريخية المستحكمة بين البلدين.
الوحل الصومالي
هكذا وجد الإثيوبيون أنفسهم بمفردهم في الوحل الصومالي، مع ما يتكبدونه من خسائر بشرية ومادية، ودون وضوح أَيِّ أُفُقٍ لظهور قوى بديلة موالية لهم تَحُلُّ مكانهم، ولذا فإنهم تعاملوا مع اتفاق السلام الذي وَقَّعَتْه المحاكم الإسلامية (جناح جيبوتي) مع الحكومة الانتقالية، باعتبارهَ "طوقَ نجاة" يمكنهم التَعَلُّق به، للخروج من الصومال بطريقة تحفظ لهم ماء الوجه، خاصةً وأن الاتفاق نَصَّ على وقف عمليات المقاومة؛ لإفساح الطريق أمام الإثيوبيين لسحب قواتهم.
ويُلَاحَظُ هنا أن قوى المقاومة التي أعلنت رفضها لاتفاق السلام، بخاصة جماعة "شباب المجاهدين" والمحاكم الإسلامية "جناح أسمرة"، صعَّدَت من عملياتها ضد الإثيوبيين؛ للتدليل بشكل عملي على رفضها للاتفاق، كما نجحتْ في إحكام قبضتها على العديد من المدن الصومالية، مما جعل النفوذ الإثيوبيَّ يقتصر على العاصمة مقديشو، والتي شهدتْ بدورها تصعيدًا في وتيرة هجمات المقاومة، الأمر الذي دفع الإثيوبيين للتعجيل بِسَحْب قواتهم، وعدم الانتظار لحين اكتمال الخطوات التي نَصَّ عليها اتفاق السلام.
وفي هذا الجانب، يراهن الإثيوبيون على أن الانقسامات والخلافات بين فصائل المقاومة الإسلامية، سوف تعوق إمكانية تحالفهم من جديد لاستلام زمام السلطة، وهو ما لا تحبذه أديس أبابا، التي تتوقع كذلك تفاقُمَ حالة الانقسام التي دَبَّتْ بين أطراف الحكومة الانتقالية؛ حيث اضطر الرئيس عبد الله يوسف لتقديم استقالته، بعدما رفض البرلمان تمرير قراره بإقالة رئيس الوزراء نور عدي، وقد تَوَلَّى رئيس البرلمان عدن مادوبي صلاحياتِ الرئيس مُؤَقَّتًا لحين انتخاب رئيس جديد، فيما أعلن عدي عَزْمَهُ الترشح للرئاسة، مستندًا على دعم إقليمي وأمريكي، يُحَبِّذُ وجود داعم قوي لاتفاق السلام في سُدَّةِ الرئاسة، عِوَضًا عن يوسف الذي أبدى معارضةً غير معلنة للاتفاق.
تحالف رفقاء السلاح
وفي مقابل هذا السيناريو الإثيوبي، فإنّ الكثيرين داخل الصومال وخارجه يُعَوِّلُون على نجاح الفصائل الإسلامية في جَسْرِ هوة الخلافات بينها، وتشكيل كيان مُوَحَّد يعيد الأمن والاستقرار للبلاد، خاصةً أن المحتل، الذي شكلتْ طريقة التعامل معه نقطةَ الخلاف الرئيسة بين رفقاء السلاح، قد خرج بالفعل من البلاد.
ويُلَاحَظُ هنا أن الخلافات بين جناحَيِ المحاكم الإسلامية؛ جناح أسمرة وجناح جيبوتي، من الممكن احتواؤها بيسر، في ضوء عدم وجود تباينات جوهرية بين الطرفين، فضلًا عن خبرة التحالف السابقة بينهما.
أما فيما يتعلق بحركة "شباب المجاهدين"، فيبدو أن الأمر سيكون أكثرَ صعوبةً، فالحركة أكثرُ تَشَدُّدًا في مطالبها وتوجهاتها، فدائرة القتال لديها تتَّسِعُ لتشمل الإثيوبيين وقوات حفظ السلام الإفريقية، وأي قوى أخرى تشعر أنها متحالفة أو قريبة من الولايات المتحدة وإثيوبيا.
هذا التصور لا يحظى بأي إجماع، لا بين الفصائل الإسلامية ولا حتى بين وجهاء العشائر ذوي النفوذ التقليدي النافذ في الصومال، الأمر الذي يُنْذِرُ بقوى تصادُمٍ عنيف بين هذه الأطراف، وهو ما بدأتْ نُذُرُه تلوح خلال الأيام القليلة الماضية؛ حيث خاضت بعض الفصائل الإسلامية معارك ضاريةً مع بعضها البعض، للسيطرة على المدن والقرى التي غادرها الإثيوبيون، كما أن بعض العشائر النافذة أبدت رفضها لهجمات مقاتلي "شباب المجاهدين" على القوات الإفريقية.
تجربة مريرة
ويذهب مُحَلِّلُون إلى أن التجربة المريرة للإثيوبيين في الصومال، رسَّخَتْ قناعةً لدى الوسطاء الإفريقيين والمجتمع الدولي، وإلى حد ما لدى الأمريكيين، باستحالة استبعاد الفصائل الإسلامية من المعادلة الصومالية، وهو الأمر الذي انعكس في التأييد غيرِ الْمُعْلَنِ من جانب الولايات المتحدة لاتفاق السلام بين المحاكم الإسلامية (جناح جيبوتي) والحكومة الانتقالية، كما لم يعد خافيًا أن الشيخ شريف بات يمتلك قناة اتصال مفتوحةً مع الأمريكيين، لعرض مطالب المحاكم، والتقليل من مُعَارَضَتِهم لمشاركة الإسلاميين في الحكم.
ويتوقع البعض أن يكون تسهيل الأمريكيين لاتفاق مصالحةٍ في الصومال، جُزْءًا من تَحَرُّكَاتهم للحَدِّ من عمليات القرصنة التي تفَشَّتْ في الأشهر الأخيرة أمام السواحل الصومالية، وباتتْ تُشَكِّلُ خطرًا متصاعدًا على حركة التجارة العالمية؛ حيث يدرك الكثيرون أنه لا مجال لإنهاء القرصنة في البحر، ما لم تنتهِ الفوضى على الأرض.
يُضَاف إلى ذلك أن الأمريكيين باتوا غيرَ راغبين في الزَّجِّ بأي قوات لهم إلى أدغال الصومال، وهو ما ينطبق أيضًا على كافة الدول التي تملك القدرة على ممارسة هذا الخيار، فالقوة التابعة للاتحاد الإفريقي، والتي كان من المفترض أن يصل عددها إلى 8 آلاف جندي، لم تتجاوز حتى الآن 3 آلاف جندي من أوغندا ورواندا، مُزَوَّدِين بتسليح ضعيف واستعدادات بائسة، ولذا لم يعد أمام الأطراف الراغبة في إنهاء الفوضى المتفشية هناك، إلا دعم تسوية سياسية بين الفُرَقَاء الصوماليين تقود لذلك.
ومع أن الانتخابات الرئاسية، المتوقع إجراءها نهاية يناير الجاري، كان من الممكن أنْ تُشَكِّلَ فرصة جيدة للمحاكم الإسلامية كي تتولى زمام الأمر بشكل دستوري، إلا أنّ إصرار رئيس البرلمان على إجراء الانتخابات في موعدها وعدم تأجيلها، كما يطالب الشيخ شريف شيخ أحمد زعيم المحاكم الإسلامية (جناح جيبوتي) لحين توسيع عضوية البرلمان لِضِعْف العدد الحالي، وَفْقًا لما نص عليه اتفاق السلام، يُعَوِّقُ أي فرصة لفوز المحاكم أو أحد الْمُقَرَّبِين منها بهذا المنصب في ظل التركيبة الحالية للبرلمان.
وفي ضوء ذلك، فإنّ الرِّهَان في الأيام المقبلة سوف يكون على قُدْرَةِ الصوماليين أَنْفُسِهِم على تجاوُزِ خلافاتهم، والتَّوَصُّل على تسوياتٍ تُنْهِي حالة الفوضى، وتُرِيحُ الشعبَ من سنواتِ التِّيهِ الطويلة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: