(إن الشهداء ليسوا خسارة، الخسارة أن يدخل عدونا المعسكر، ولذلك أقسمنا نحن المجاهدين أن نصد عدونا عن المعسكر مهما كلفنا ذلك، لهذا كثرت فينا الجراحات، وتحديثًا بنعمة ربي سبحانه، فإن أُسر الشهداء معنوياتهم عالية، ونفسية أهليهم عالية، والحمد لله تعالى، لا نرى الدموع، وإنما نرى الصبر والصابرين، الخسارة أن يقتحم المخيم لا قدر الله، ولن يكون بإذن الله، لأن تفقدي للمجاهدين أعطاني ثقة كبيرة بأن قدرتنا على صدهم ممكنة بحمد المولى سبحانه، جمعنا الله وإياكم في خنادق العز والكرامة).
هكذا كان يردد دائمًا نزار ريان، الشهيد والد الشهيد – نحسبهما كذلك والله حسيبهما ولا نزكي على الله أحدًا ـ الذي اغتالته قوى الغدر الغاشمة وعشرة من أفراد عائلته بينهم زوجاته وبعض أولاده في قصف طائرات إف 16 لمنزله، المكون من أربعة طوابق في مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة، عصر يوم الخميس الرابع من شهر المحرم 1430هـ الأول من يناير 2009م، في تلك الهجمة البربرية التي يشنها العدو الغاصب على غزة تلك البقعة الطاهرة من أرض فلسطين.
نزار ريان عالم في الحديث النبوي الشريف، كان يعمل أستاذًا لعلوم الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية، وأحد كبار علماء حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ولم يثنه مرضه ـ حيث أجرى عملية قلب مفتوح في العاصمة السورية دمشق قبل عامين تقريبًا ـ عن الانضمام لكتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، يشاركها في صد اجتياحات الاحتلال لقطاع غزة.
عرف عنه الورع والتقوى، علاوة على ذلك كان في مقدمة صفوف المقاتلين يحثهم على الجهاد ضد الكيان الصهيوني، وكان يحلو لكثير من أنصاره تلقيبه بأسد فلسطين، قدم ابنيه إبراهيم وبلال من قبل شهداء، فداءً للدين ولتحرير تراب فلسطين.
عندما جاءه نبأ استشهاد إبراهيم وقفت والدته بباب البيت ورفضت تلقي العزاء في نجلها، وطالبت بإقامة عرس للشهيد افتتح بالزغاريد.
وقال الشهيد نزار في لقاء أثناء تلقي التهاني في استشهاد نجله: (إن اليوم عرس إبراهيم؛ فهو أول المجموعة المجاهدة من أسرتي، وأنا فخور به وبعمله؛ لأن الوطن ما زال يحتاج منا لمزيد، وسنبذل أرواحنا حتى نعود إلى قرانا ومدننا التي هُجِّرنا منها، ثم أضاف قائلًا: إن إبراهيم برغم صغر سنه فإنه رجل، وكنت أتوقع من شاب مثله أن يقدم مثل هذا وأكثر للوطن؛ فهو نشأ على حب الجهاد والاستشهاد).
كما كان نجله الأصغر وهو لم يتعدَّ السنوات الست يدخر من مصروفه الشخصي في حملة تجهيز جهادي لكي ينال الأجر، فقد كان بيت الشيخ الشهيد قبلة لكتائب القسام وشهدائها.
ويكمل الشهيد ريان أنه جلس يستمع لنشرة الأخبار وتفاصيل العملية الجهادية وجرأة المجاهدين على اقتحام المستوطنة،(وأنا لا أدري أن ولدي من بينهما، فقمت وتوضأت وأخذت أصلي لله عز وجل وأدعو ربي أن يثبِّت رميتهم، حتى جاءني المبشِّرون يزفون لي خبر استشهاد ولدي؛ فحمدت الله أن رزقه الشهادة، ورجوته أن يحتسبه عنده شهيدًا).
لم ينصت للتحذيرات التي طالبته بمغادرة المنزل، فكان الموعد الذي لم يخطئه مع الشهادة التي دائمًا ما تمنَّاها، كان لسان حاله في كل مرة يقود العشرات من محبيه ليحموا أحد المنازل التي تهددها قوات الاحتلال:(لن نسمح للاحتلال بأن يشردنا، مضى العهد الذي نفر فيه، اليوم نفضل أن نستشهد متجذرين بحقنا على أن نهرب ونستسلم).
كان أمينًا مؤتمنًا حيث أوصى الشيخ صلاح شحادة مؤسس وقائد كتائب القسام في وصيته أن يتولَّى غسله ولحده في قبره الشيخ نزار ريان؛ حيث كتب شحادة بالنص:
(رابعًا: أوصي أن يتولى غسلي ـ إن غُسِّلت ـ الأخ نزار ريان؛ فإن لم يكن فالأخ عبد العزيز الكجك، على أن يسترا عورتي، ويحفظا سري حفظهما الله، وأن يتولَّى لحدي في قبري أحد الأخوين المذكورين).
كان قائدًا ميدانيًّا فهو الذي قاد معركة جباليا، وعندما سئل كيف ذلك وهو القائد السياسي، فقال: (حين تُغتصب الأرض وتُقتحم البلد، هناك حكم شرعي ينطبق على السياسي والعسكري، بل على الرجل والمرأة، وهو وجوب دفع العدو عن الأرض بالنفس، ولذلك لا يمكن إلا أن أخرج على الهيئة التي تذكرون؛ لأدافع بنفسي عن بلدنا وأهلنا، ولأرفع معنويات المجاهدين والسكان، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس؛ ومن هنا تكون الأسوة الحسنة).
ثم يضيف: (نعم، إن حركة المقاومة الإسلامية حماس تفصل بين الجهازين: العسكري والسياسي، لكن الجيش الصهيوني لا يفرِّق بين السياسي والعسكري، وهو قادمٌ للقتل، قادم للحرب، فهل أقف مكتوف الأيدي أقول لعدوي: أنا سياسي، لا علاقة لي بالعسكر؟! هذه بلدنا، وقادة الدول ووزراؤها عند تعرض دولهم لمحنة الاجتياح وغيره، تلبس البزة العسكرية، وتظهر في الميادين العامة، ولسنا بدعًا من الأمم).
كما كان القائد الذي يجمع ولا يفرِّق فيقول: (لست حزبيًّا في حال السلم والأمن والهدوء؛ فهل أكون حزبيًّا والسيف يحتزُّ الرقاب جميعها؟! إنني أزور كل المجاهدين، بلا استثناء، وأتقدَّم للخطوط الأمامية فأجد المجاهدين من كافة الفصائل، وفي هذه الأجواء الجهادية تذوب الفروق الفصائلية كلها؛ إذ ليس ثمة غير الهمس بصوت منخفض، وانحناء الظهر حتى لا يرصدك عدوُّك، والعناق الهادئ، لرفع المعنويات، والمصافحة لا على الهيئة العادية، كأنك تعانق الكف بالكف، وتسأل: كيف المعنويات؟ والجواب: عالية والحمد لله).
وكان يطوف مرة على المجاهدين يتفقَّدهم، فقالت له إحدى المجموعات المجاهدة: (نحن فتح يا أبو بلال قال لهم: وأنا أيضًا فتح، نحن هنا لردِّ الاجتياح والعدوان).
من هو؟
هو نزار بن عبد القادر بن محمد بن عبد اللطيف بن حسن بن إبراهيم بن ريَّان الذي ولد فجر الجمعة 26من شعبان 1378للهجرة الموافق 6من مارس 1959م في معسكر جباليا، وأصله من بلدة نِعِلْيَا من قرى عسقلان بفلسطين، التي اغتصبها اليهود سنة 1367 للهجرة عام 1948 ميلادية.
تلقى الدكتور نزار ريان تعليمه الأكاديمي في السعودية والأردن والسودان؛ فقد حصل ريان على شهادة البكالوريوس في أصول الدين من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عام 1982م، وتلقى العلم الشرعي على علماء الحجاز ونجد، ثم حصل الشهيد على شهادة الماجستير من كلية الشريعة بالجامعة الأردنية بعمَّان، عام 1990م بتقدير ممتاز، ثم نال درجة الدكتوراة من جامعة القرآن الكريم بالسودان عام 1994م.
كما تلقى تعليمه أيضًا على كبار العلماء من شتى أقطار العالم الإسلامي أمثال الشيخ محمد الراوي من مصر، والشيخ فضل حسن عباس من أهل صفورية بفلسطين المقيم بعمان في الأردن، والشيخ زاهر الألمعي من السعودية، والشيخ سليمان أتش من تركيا، والشيخ عبد الفتاح أبي غدة من أهل حلب الشهباء، والشيخ همام سعيد من أهل فلسطين ومقيم بالأردن.
وقد عمل الشيخ نزار ريان، إمامًا وخطيبًا متطوعًا لمسجد الخلفاء بمعسكر جباليا خلال الأعوام من 1985م وحتى 1996م، وهو من القياديين البارزين في حركة "حماس"، وقد اعتقلته سلطات الاحتلال مرارًا ليمكث في سجونها نحو أربع سنوات، كما اعتقلته أجهزة الأمن السابقة التابعة للسلطة الفلسطينية وأخضع فيها للتنكيل والتعذيب.
كتب مقالات عدة في الصحف الفلسطينية، وكان عضوًا مؤسسًا لحزب الخلاص الإسلامي بفلسطين، وشارك قيادة حركة حماس في مفاوضات داخل فلسطين مع الفصائل، وخارجها مع قيادة الحركة، كما شارك في القيادة السياسية لحركة المقاومة الإسلامية حماس.
وعلاوة على بحوثه العلمية المنشورة مثل كتاب دراسات في السيرة، والتي تناول فيه السيرة النبوية الشريفة بصورة جلية ليسهل تأسي واقتداء الأمة بها، والاعتبار من مجاهدة النبي صلي الله عليه وسلم ودفع الأعداء ـ كان للشيخ نزار ريان مساهمات اجتماعية بارزة، بخاصة في تمكين عشرات الأكاديميين الفلسطينيين من الحصول على منح لدراسات الماجستير والدكتوراة في الجامعات العربية والإسلامية في شتى التخصصات، كما يعدُّ أحد رجالات الإصلاح الاجتماعي في قطاع غزة، من خلال ترؤسه لجنة إصلاح ذات البين ولم الشمل.
كما كان الشهيد قد أوشك على أن ينتهي من شرح لصحيح مسلم من عدة مجلدات، وسلسلة عن أنساب عائلات فلسطين.
تقبلك الله أبا إبراهيم أيها العالم المقدام، يا من بذلت الروح والولد والأهل فداء لربك ودينك ومن ثم وطنك، وتأكيدًا على تمسكك بمبادئك ومنهجك "الموت ولا المذلة"، فقد سرت على درب إخوانك أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، وعياش، وأبي شنب، وغيرهم من شهداء المقاومة الفلسطينية الباسلة، جمعك الله بهم جميعًا في مستقر رحمته ...
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: