تماشيًا مع تعاطي المنظمات الدولية المَعْنِيَّة بقضايا النساء في تفكيك وتجزيء وحدة الأسرة، والتفاعل مع إشكالاتها بالقطعة، إن جاز التعبير، وفي ظل فلسفة متطرفة لنيل الحقوق، أو ما تم التعارف والترويج له بأنه الحقوق النسائية الغائبة ظهر مصطلح التمكين .. أو تمكين المرأة، والذي اتضح جليًّا في مؤتمر بكين +5 ومؤتمر بكين +10.. الذي سرعان ما تلقفته منظمات المجتمع المدني ذات الصلة بالشأن النسوي، وصار واحدًا من أهم مصطلحاتها وأهدافها.
والحديث عن التمكين -بحسب هذه المؤتمرات- له ثلاثة جوانب أساسية.. الأول التمكين الاجتماعي، والثاني التمكين السياسي، أما الثالث فهو التمكين الاقتصادي.. فما هو المقصد الحقيقي لهذه الجوانب الثلاثة، وكيف تتفاعل وتشتبك مع واقع وثقافة الأسرة المسلمة.
التمكين إسلاميًّا:
أعطت الشريعة الإسلامية النساء العديد من الحقوق على كافة المستويات اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وعلميًّا، متفوقة بذلك على جميع الفلسفات قديمًا وحديثًا، وبصورة متوازنة بين جميع أَوْجُه النشاط الإنساني، وبين الكينونة الخاصة بالأنثى، والتي تتكون من نفس المدارات العقلية والنفسية والعاطفية والجسدية التي تكون شقيقها الإنساني (الرجل) مع اختلاف نسبي في آلية تفاعل هذه المدارات.. وهذا الاختلاف هو الذي جعل المنظومة الإسلامية تعتمد التكاملية المنصفة كفلسفة حيال تقسيم الأدوار الحياتية بين الرجال والنساء.
ولا شك أن تمكين النساء من الحصول على هذه الحقوق التي كفلتها الشريعة يعد واجبًا شرعيًّا، أو كما يقول علماء الأصول: «إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، فإذا منعت المرأة في بعض الأماكن من أخذ نصيبها من الميراث أو جرت العادة أن يستحوذ الزوج على نصيب زوجته بغير رضاها، ولو بصورة ضمنية؛ فإنه يجب التكاتف لتمكين هذه المرأة من أخذ حقها، والصور التي تُمْنَع فيها المرأة من الوصول لحقها في مجتماعتنا كثيرة، ككثرة القضايا التي ابتعدنا فيها عن الشريعة، بداية من إساءة العِشْرَة قولاً وعملاً، مرورًا بأكل مالها بالباطل بصور متعددة، انتهاء بتحقيرها والحطّ من شأنها، واستخدام أحاديث موضوعة لتوثيق هذه النظرة الدونية، كتلك الأحاديث التي تنهى عن تعليم المرأة، أو تلك التي تُصَوِّر المرأة على أنها مخلوق شهواني، لا يفكر إلا بغريزته.. ولكن هل هذا هو التمكين كما تدعو إليه المنظمات الدولية والناشطات النسويات؟
التمكين والتحلل:
ثمة فارق ضخم بين أن يعطي الإسلام المرأة ذمة مالية خاصة بها، سواء عن طريق الإرث أو المهر أو عن طريق عملها، سواء داخل المنزل أو خارجه إذا تم ذلك بالتراضي مع الزوج، وبما لا يتعارض مع مصلحة الأسرة التي هي ميدان المرأة الأول، وبين أن يكون عملها المادي المأجور هو السبيل الوحيد لتمكينها لتكون مواطنة في المجتمع.
إن التمكين الاقتصادي للمرأة -كما تريد النسويات- لا يتحقق إلا إذا كان للمرأة دخل خاص منتظم، ويستخدم في ذلك كافة وسائل الضغط المعنوي من صحافة وإعلام، وأعمال درامية ومناهج دراسية، ففي منهج الصف الأول الابتدائي درس بعنوان أسرتي، وهو الدرس الأول الذي يتلقاه الطفل الصغير، وفيه يقوم طفل بالتعريف بأسرته، ويقول أبي معلم، وأمي طبيبة، ويبحث كل طفل ماذا يقول عن أمه، وإلا فإنه يشعر أن أمه أقل من باقي الأمهات، وهو ما تشعر به الأم المتفرغة لشئون بيتها، فهي مجرد ربة بيت أي بلا عمل، وهو ما يمثل ضغطًا نفسيًّا رهيبًا عليها، وإن كان بشكل غير مباشر، وكأن كل الجهود الضخمة التي تحملها على عاتقها لا تعني شيئًا (واستخدام المناهج التعليمية لخدمة القضايا النسوية أمر مقرر في جميع الاتفاقيات الدولية، ومنصوص عليه في وثيقة إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة).
المضحك في الأمر بعض الحلول التي تطرحها بعض النسويات لغياب المرأة عن البيت لعدد طويل من الساعات، فمثلاً تقترح فريدة النقاش (كاتبة مصرية يسارية) إقامة مغاسل جماعية كبيرة لحل مشكلة غسيل الثياب، وإقامة مطاعم شعبية رخيصة الثمن لحل مشكلة طهي الطعام، وكأن المرأة لا تكون مسئولة في البيت إلا عن طهي الطعام وغسيل الثياب.. أما المثير للمرارة حقًّا فهو أن العديد من الأعمال الخارجية المطلوب أداؤها من المرأة هي من عينة الأعمال الخدمية التي يتم تحقيرها والحطّ من شأنها؛ حيث تعمل أكبر نسبة من النساء في قطاع الخدمات 47%، وتتراوح أعمار حوالي 86% من إجمالي العاملات في الفئة العمرية ما بين العشرين والتاسعة والثلاثين، أي أن الغالبية في سن الإنجاب وأمهات لأطفال، وذلك وفقًا لتقارير وزارة القوى العاملة والجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وهذه الإحصائيات أقل بكثير من طموح النسويات اللاتي يأملن أن تقترب نسبة المشاركة من المائة بالمائة.
فهل هذا تمكين اقتصادي وقوة للمرأة، أم أنه تحلل للأسرة بتحويل البيوت إلى مجرد ملجأ أو مأوى بعد أن اعتبر عمل المرأة داخل البيت مجرد عمل خدمي بلا أجر تستبدله بعمل خدمي آخر مقابل أجر؟ ليمكنها ذلك من أن يصبح لها نفس السلطة التي يتمتع بها الرجل داخل نطاق الأسرة، وهكذا تتمتع المرأة بالتمكين الاجتماعي أيضًا، وهو المحور الثاني المنشود في مثلث تمكين المرأة.
الحب والمسئولية:
تعتمد النظرية الإسلامية لنظام الأسرة على ركنيين أساسيين، وهما الحب والمسئولية، فالحب بدرجاته المتنوعة هو المبرر الوحيد لقيام الأسرة والمقصود بالطبع الحب الحقيقي المسئول والمشروع { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
فالمودة والرحمة هي الصورة المقابلة للصراع على السلطة الذي تدشنه نظرية التمكين، ومكانة المرأة داخل الأسرة في النظرية الإسلامية ليست مقابل ما تنفقه من مال في نفقات الأسرة، وإنما مقابل ما تمنحه من دفء وحب وحنان، وما يشيعه وجودها من استقرار وهدوء وأمان، وما تتحمله من مسئولية لا رقيب عليها إلا المولى عز وجل، «وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» [رواه البخاري (5188)، ومسلم (1829)]، فهي راعية ومسئولة تمامًا كما الرجل، مع اختلاف في تفاصيل المسئوليات، وهذا هو الركن الثاني في النظرية الإسلامية أي المسئولية، وهي المقابل الموضوعي للركن الثاني في نظرية التمكين أي الحقوق.. من البدهي أن كل مسئولية سيقابلها حق مكفول، أو كما يقولون فكل حق يقابله واجب وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك بونًا شاسعًا بين النظرتين الحق .. المسئولية.
فالنظرة أولاًَ إلى الحقوق تقوم على نزعة فردية أنانية تسود روحها الفكر الغربي كله بمدارسه وفلسفاته المتنوعة، وهي نظرة تصادمية مع مفهوم التسامح والإيثار والتضحية، وتقوم بتسطيح هذه المفاهيم والحط منها؛ باعتبارها مفاهيم ساذجة وغير واقعية، وتنُمّ عن ضعف وقلة حيلة.. وهو المطلوب من المرأة تمامًا أن تتمكن من حقوقها، أو ما يقال إنه كذلك، بغض النظر عن أي اعتبارات أو أية ملابسات أسرية أو مجتمعية أو ثقافية.
أما النظرة الإسلامية التي تُعْلِي من شأن المسئولية، فلها شأن آخر فالمرأة تقوم بالمسئولية التي عليها قبل أن تطالب بحقوقها، بل وحتى إن انتقصت من حقوقها شيئًا؛ لأنها كشأن المسلمين جميعًا تتعامل مع الله أولاً، ولأن ثقافة الإيثار والصبر هي جزء رفيع من حضارتنا، وهي تحتذي بتلك المرأة المجادلة التي سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات؛ لأنها شكوى تعبر عن أرقى معاني الإيثار والتضحية؛ فهذه المرأة عندما ظاهر منها زوجها لم تفكر في نفسها، ولكن كأم حقيقية فكَّرت في الأطفال الصغار ومصيرهم؛ حيث الجوع المادي معها، والجوع العاطفي مع والدهم.. هذه هي المرأة النموذج الذي تأمل النسويات أن ينقرض بمشاعره الفياضة وتضحياته التي لا تعرف الحدود.
وأخيرًا فإن إهمال المسئوليات حتى الحصول على كامل الحقوق، سيعني ببساطة اتساع دائرة الفوضى داخل المجتمع، والمرأة وفقًا للنظرية الإسلامية مطالبة أن تكون جزءًا أصيلاً من الحل، لا إضافة جديدة لسجل المشكلات.