من أعظم المسئوليات التي ألقاها المولى عز وجل علينا مسئولية تربية وإعداد النشء؛ لأنه السبيل الوحيد لعمارة الأرض، وهو الضمان الأكيد لتغيير واقعنا لنحتل موقعًا أفضل.. موقعًا جديرًا بخير أمة أُخرجت للناس.. كانت الرؤية الاستشرافية واضحة عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتطلع إلى هذا الجيل الناشئ، ويأمل أن يُخرِج الله من أصلاب المشركين من يعبد الله وحده، وهو ما كان, وذلك بعد مرور جيل واحد منذ بدء الدعوة الإسلامية، فكان من خِيرة الصحابة من كان أبوه من عتاة الكفر والشرك.. ومن هنا نستطيع القول: إن الاستثمار في تنشئة الأطفال، وفقًا للشريعة الإلهية التي هي على توافق تام مع الفطرة السوية، يعدّ أفضل أنواع الاستثمار، كما أنها خطوة حقيقية فاعلة على طريق التمكين.
كما أن قليلاً من الجهود من أجل طفولة سوية على الفطرة تحقق نتائج أفضل كثيرًا من النتائج المتحققة لعلاج انحراف الشباب وتصحيح مساره، وهو ما نعاني منه في اللحظة الراهنة.
طفولة سوية
ووفقًا لهذه الرؤية فإن إعادة قراءة لطفولة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بادية بني سعد قد تساعدنا على فهم الإستراتيجية الإسلامية في التعامل مع الطفل في سنوات عمره الأولى؛ حيث يستطيع الطفل الذي سيصبح فيما بعد خاتم الأنبياء ونموذج الإنسان الكامل، أن يمارس النشاط الحركي بحرية كاملة، باعتبار أن النشاط الحركي نشاط مركزي في مرحلة الطفولة، ومن خلال هذا النشاط الحركي وفي بيئة طبيعية مفتوحة يقوى النشاط العقلي الذهني، وفي جو نظيف غير ملوث يقوى البناء الجسماني؛ حيث العلاقة التفاعلية بين الجسد والعقل، فالقاعدة الجسدية الصحية لا بد أن تبدأ بداية قوية، وكذلك القاعدة العقلية لا بد أن تبدأ هي الأخرى بداية نشطة.
وعندما يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سن الرابعة أو الخامسة يقع حادث شق الصدر، وهذه السن هي بداية سن الإدراك والتعلم للطفل، والمرحلة الأخيرة من مراحل الطفولة المبكرة – مرحلة الحضانة - والقلب هو مستودع الذكريات، وأول ذكرى تترسب في نفس محمد الطفل - صلى الله عليه وسلم - هي أن يتم استخراج حظ الشيطان من قلبه.. إنه رفض الشر ليبقى القلب خالصًا للخير.. هذه ببساطة الإستراتيجية الإسلامية والفطرية للتعامل مع الطفل.. مكان مفتوح.. حرية حركة.. طبيعة حية.. تعليمه مبادئ الخير والشر؛ لتترسب في قلبه الصغير، وذلك عن طريق آلية مناسبة لعمره العقلي.
ارتداد للوثنية
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ما هي الذكرى الأولى التي تترسب في قلوب أطفالنا.. أطفال القرن الخامس عشر الهجري.. أطفال الفضائيات والسماوات المفتوحة!!
إن نظرة أولية إلى ما يشاهده الأطفال في أفلام الكارتون المدبلجة، والتي تطل علينا من هذه الشاشات؛ حيث يجلس الأطفال مشدوهين في حالة من السكون التام تنافي طبيعة الطفل النشطة – وهي حالة تسعد العديد من الأسر التي لا تتحمل حركة الأطفال الطبيعية - والكارثة الأكبر طبيعة القصص الكرتونية المشاهدة.
فبينما كان النقد التقليدي الموجه لهذه النوعية من القصص أنها تحوي كمًّا ضخمًا من العنف الحادّ؛ حيث طلقات الرصاص والدماء والقتلى، وما يترتب على ذلك من استبدال حركة الطفل الطبيعية بحركة مدمرة غير عادية يشاهدها على الشاشة، ويختزنها داخل بنائه النفسي الرقيق، الذي يتغير بكثرة المشاهدة، فيحدث تحول وتحور مشوّه له، فيصبح الطفل عنيفًا وعدوانيًّا، وإن كان غير نشيط جسمانيًّا.. ولكن الأدهى من ذلك والأشد مرارة هو ذلك العبث بعقيدة الطفل وأخلاقياته؛ فهاهي الدعوة إلى الوثنية تطل برأسها مرة أخرى من خلال القصص الكرتونية بعد أن حطّمها النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة منتصرًا، وبعد أن يئس الشيطان أن يُعبَد في أرضنا..
ففي أحد المسلسلات الكارتونية يطلب الحكيم الإفريقي من البنات أن يرسمن «ألوهة» بعد أن يستشعرن روح «ألوهة»، وتتساءل البنات عن ماهية «ألوهة» وروحها المزعومة, هل هي مثلاً قلعة تحمي الإنسان أم ماذا؟!! ثم يتضح الأمر من خلال الفتاة الفائزة بالمركز الأول والتي صنعت تمثالاً (صنمًا كبيرًا بالحجر) لسيدة ضخمة عارية, ويعلق الحكيم الإفريقي على هذا الصنم بقوله: نعم هذه «ألوهة» التي نشعر بروحها معنا.. فالتمثال هو الإله، ولكنه مؤنث «ألوهة»، ولعل ذلك يتماشى مع أن الموجَّه إليه الخطاب هن مجموعة من الفتيات، كما أنه يتماشى مع آخر دعاوى الفكر النسوي المتطرف؛ حيث المطالبة بتأنيث الإله, كأنه سبحانه وتعالى ذكر - تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا- أو كما يقول الدكتور المسيري عن هذا الفكر: «يجب الابتعاد عن الإشارة إلى الإله باعتباره ذكرًا؛ إذ يجب أن يُشَار إليه باعتباره ذكرًا وأنثى في ذات الوقت، فيقال على سبيل المثال: إن الخالق هو الذي - التي.. وضع – وضعت.. بل ويشار إليه أحيانًا بالمؤنث وحسب, فهو ملكة الدنيا وسيدة الكون».
كل هذه الأفكار المعقدة والمركبة والزائفة تعرض في فيلم قصير جذّاب قد لا يفهمه الطفل ويدرك أبعاده المشوهة للفطرة، ولكن ثمة شيئًا ما يترسب داخله ويغوص في أعماق النفس الطاهرة.
رموز الماسونية
أما معركة الرموز فهي المعركة الحاضرة دائمًا في هذه المسلسلات المشوقة التي يعشقها الأطفال، والتي لا يكاد يخلو منها مسلسل، حتى إن قناة فضائية إسلامية شهيرة تخصص جزءًا لا بأس به من إرسالها للبث للصغار، تعرض فيلمًا يتحدث عن أهمية الذهاب لطبيب الأسنان عند الشعور بالألم، وهي فكرة طيبة, والفيلم أجنبي ومدبلج باللغة العربية، ولكن عيادة طبيب الأسنان الذي يساعد الناس تملؤها لوحة كبيرة مرسوم عليها صليب ضخم.
والصليب حاضر أيضًا في المسلسل الشهير «يوغي»؛ حيث يرتديه البطل دائمًا، وعندما يلمسه فإنه يستطيع الخروج من أي مأزق؛ لأنه يمنحه طاقه هائلة، وفي هذا المسلسل أيضًا يرتدي البطل أيضًا قبعة عليها النجمة السداسية، أما مقدمة المسلسل نفسه فالشعار الدائم هو الهرم الذهبي رمز الماسونية الشهير، وهكذا يبدو الصغير في غابة من الرموز التي يجهل دلالتها الأصلية، ولكنها تصبّ في نهاية المطاف في بوتقة اللاوعي، وهو المحرك العميق للسلوك البشري.
دعاوى الانحلال
وإذا كانت الرموز لغة غامضة بالنسبة للطفل، فإن دعوات الانحلال التي يتلقاها واضحة جلية، فالكثير من هذه المسلسلات يتشارك فيها البطولة رجل وامرأة، ولكن بصورة كارتونية، والكثير منها كذلك يتحدث عن علاقة عاطفية ما بين الأبطال، وذلك كمسلسل الرجل العنكبوت، حيث يجد الطفل نفسه أمام علاقات حبّ وغيرة، وأشياء أخرى من هذا القبيل.
ولعل مسلسل الجاسوسات نموذج حي يمثل هذه المأساة، فالجاسوسات الثلاث ثلاث نساء يرتدين ملابس شديدة الانحلال، والمفترض أنهن يحاربن قوى الشر في العالم.
وعلى سبيل المثال تجد الجاسوسات أن النساء في المدينة يهجرهن أصدقاءهن! وتبحث الجاسوسات عن السبب حتى يكتشفن عطرًا يباع في المدينة عندما يشمه الرجال فإنهم يتركون صديقاتهم، ويبحثن عن الحب في مكان آخر!
هذه القصة وأمثالها كثير ومتكرر، وثمة إلحاح شديد في عرضه، والقصة واضحة سهلة، والنتيجة المنطقية أن الطفل والطفلة منذ الصغر سيشعرون أن هذه العلاقات بين الرجال والنساء هي شيء عادي، والشرير من يحاول التفريق بينهم, وأن ارتداء النساء لهذه الملابس العارية لا يحمل أي معنى سلبي، بل هو شيء مقبول ومعقول، وهو أجمل مما يراه في بيئته على أرض الواقع؛ لأن عالم الكرتون الخيالي هو العالم المثالي في عيون الطفل، وبالتالي فإن هذه النوعية من الأفلام تجعل الطفل ينمو في حالة من الميوعة، والأخطر أنها تنحرف بتفكير الصغير والصغيرة إلى موضوعات لم تزل بعدُ بعيدة عن أفكارهم وخيالهم بحكم النمو النفسي، فكأنها تحرق مراحل مهمة وبريئة في حياتهما، فهو إجبار على النضج قبل الوقت المناسب، ولكنه نضج يملؤه الخواء.
هل نمنعه؟!
ما هو الحل إذن؟! هل نمنع الطفل من مشاهدة الكارتون؟!! يبدو أن قرار المنع المطلق قرار غير حكيم، فالطفل الممنوع من المشاهدة يشعر بالنقص، خاصة عندما يجد الأطفال الآخرين يتحدثون عن الأفلام التي يشاهدونها، وقد يدفعهم ذلك لاختلاس المشاهدة، ولو كان في مرحلة عمرية أكبر، وقد يذهب للمشاهدة عند أحد الأصدقاء مثلاً.
كما أن ثمة إيجابيات قد يحصلها الطفل لو شاهد عددًا معقولاً من الساعات الموجهة التي ربما تساعد على تنمية خياله، بالإضافة إلى تعلم اللغة العربية السليمة؛ لأن الأفلام التي يتم دبلجتها يكون النطق فيها باللغة العربية الفصحى لا بلهجة عامية محلية معينة.
لذلك أرى أن التعامل الإيجابي مع مسلسلات الكارتون لا بد له من أمرين:
الأول: هو عدد الساعات التي يقضيها الطفل أمام التلفاز، ومن الممكن أن يتم تخفيض عدد ساعات المشاهدة تدريجيًّا؛ بحيث يكون الحد الأقصى للمشاهدة لا يتجاوز الساعتين يوميًّا، وحبذا لو وصل عدد ساعات المشاهدة لساعة واحدة فقط.
واستبدال هذه الساعات بأنشطة أخرى مفيدة للطفل، كحفظ القرآن وقراءة القصص الهادفة، أو ممارسة الرياضة، أو اللعب مع الأصدقاء، أو ممارسة هواية الرسم والتلوين، أو ممارسة ألعاب تنمي الذكاء كلعبة المكعبات والبازل، ومحاولة تقديم البديل عن طريق تشجيع الطفل على مشاهدة الأعمال المخصصة للأطفال التي تنتجها المؤسسات الإسلامية، حتى لو كانت أقل جاذبية، كما لا بد من قضاء وقت خاص مع الطفل للاستماع إليه، ومبادلته الحديث مهما كانت الضغوط والمسئوليات.
الأمر الثاني: متابعة ما يشاهده الطفل في هذه الأوقات؛ بحيث نشجع الطفل على تكوين رأي نقدي فيما يشاهد، ورفض المسلسلات التي تتعارض مع قيمنا؛ بحيث تتم عملية اختيار واعي لطبيعة القصص الكارتونية المشاهدة، والمهم هو إفهام الطفل بطريقة مناسبة لسنه لماذا نوافق على هذا المسلسل، بينما نرفض الآخر؟ بحيث لو شاهد الطفل المسلسل المرفوض، ونحن بعيدون عنه، فإنه يرفض مشاهدته أو على الأقل يكون مدركًا للأخطاء الواقعة فيه، وهكذا تتكون لديه حاسة ناقدة هي أساسية لنجاته من أخطار القصص الكارتوني..
أما الطفل الذي يتركه أبواه فريسة لهذه القصص ـ سواء في عدد الساعات المفتوحة أو المشاهدة الحرة غير المقيدة ـ فإنهما قد تخليا عن المسئولية الملقاة على عاتقهما في التربية لصالح آلة إعلامية جبارة ومدمرة للنبت الأخضر البريء وللقلوب الصغيرة الطاهرة.. وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته..