منذ اندلاع حرب طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ما زالت صورة الوضع العام، تتشكل في ميدان المواجهة، من جبهتين: جبهة قطاع غزة، شعباً ومقاومة من جهة، وجبهة الكيان الصهيوني وأمريكا والغرب، من جهة أخرى. طبعاً يمكن أن يضاف في جبهة قطاع غزة محور المقاومة، والشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم، ولكنهم غير منخرطين مباشرة في المواجهة الميدانية، عدا حزب الله في حدود الجبهة اللبنانية ضمن معادلتها المتصاعدة مع ضبطها عموماً.
أما وضع أمريكا والغرب، ضمن جبهة الكيان الصهيوني، فيتسّم بتدخلهم المباشر، لا سياسياً وموقفاً، فحسب، وإنما أيضاً، في الدعم المباشر عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً، حتى حسب البعض أنهم تخلوا عن أوكرانيا، أو جعلوها في المرتبة الثانية من حيث الأولوية.
تشكل هذا المشهد، أو المعادلة، في الوضع العام، بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر الحالي عام 2023. وهو المشهد الذي اتسّم بهجوم عسكري مفاجئ على الجيش الصهيوني، والمستوطنات فوق الأرض الفلسطينية منذ 1948/1949. أي انتقلت المعركة إلى الأرض الفلسطينية المغتصبة والمحتلة منذ 75 عاماً. ويمثل هذا البُعد رمزاً يضع تحرير فلسطين على الأجندة الراهنة، وليس تحرير الأراضي المحتلة في الخامس من حزيران/يونيو 1967 فقط. وهذا ما شكل صدمة جنونية للقيادتين السياسية والعسكرية الصهيونية. وشكل في الآن نفسه، وبالقدر نفسه، صدمة جنونية للقيادة الأمريكية والقيادات الأوروبية. الأمر الذي كشف عن عمق العلاقة بين الغرب ووجود الكيان الصهيوني الذي زرعه في فلسطين.
على أن البُعد الأخطر كان مشهد المعركة والجيش الصهيوني وهو يُهزم ويًؤسر ويولي الأدبار، تاركاً المستوطنين في غلاف غزة دون حماية.
يا لهول المنظر بالنسبة إلى قادة الكيان، وإلى قادة الغرب. لأنه منظر يوحي كأن النهاية دنت لمشروع الكيان الصهيوني. الأمر الذي يفسّر السياسات الصهيونية والأمريكية اللاحقة بعد أن بدأ تنفيذ استراتيجية القصف على الأحياء المدنية في قطاع غزة. وهي استراتيجية موجهة ضد الأهالي أساساً، تقتيلاً وهدْماً للبيوت والأحياء، وبصورة متواصلة ليل نهار. وتراهم غير مبالين بارتكاب جرائم حرب، تشكل لطخة عار في جبين القيادات الغربية- الأمريكية، وهي تدعم هدم الأحياء، وقصف المساجد والمشافي، وحتى كنيسة تجمع فيها المسيحيون الغزيون. ويا للعجب إن تحدثوا بعد ذلك عن ديمقراطية أو حقوق إنسان.
بكلمة: أصبح الجنون وفقدان الأعصاب والتخبط، والضرب عرض الحائط بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، وبكل القيم الأخلاقية، يشكل سمة العقلية التي يتسّم بها نتنياهو وبايدن، والقادة الأوروبيون. والهدف كما أعلن تصفية حماس، وتهجير الغزيين، وتغيير خريطة قطاع غزة. وبالفعل عاش قطاع غزة من العاشر من أكتوبر حتى اليوم (عشرة أيام) تحت قصف لا يتوقف. وقد أخذ في طريقه آلاف الجرحى والقتلى، وحوالى مليون فقدوا منازلهم. وبالرغم من جريمة قصف المستشفى المعمداني (500 شهيد و500 جريح في 17/10/2023. والتي يفترض بها أن تشكل الفضيحة الأكبر لوقف استراتيجية التهجير والتقتيل، إلاّ أن نتنياهو وبايدن، ومن لف لفهما، أنكروا مسؤوليتهم عن هذه الجريمة الثابتة عليهم مائة بالمائة. وذلك ليواصلوا هذه الاستراتيجية الإجرامية.
والآن ما الوضع العام، وإلى أين؟
إذا كان المطلوب تحقيق هدف القضاء على حماس والجهاد وفصائل المقاومة في قطاع غزة، فلن يتحقق ذلك إلاّ باقتحام غزة، والمواجهة القتالية من مسافة صفر. وهذا لا يمكن أن يتحقق من خلال تقتيل آلاف المدنيين، وتدمير أحياء بكاملها، والقضاء على المشافي والمساجد والكنائس.
من هنا شدد الجيش الصهيوني بأنه أعدّ للهجوم البري وسينفذه. ولكن، عملياً، كان حكمه التردد والإحجام، والخوف من الهزيمة، في معركة فاصلة، ستجعل نصر المقاومة، بقيادة محمد ضيف وإخوانه، والغرفة المشتركة، أكبر من نصر السابع من أكتوبر الإستثنائي. ومن ثم لا بد من ملاحقة الجيش المهزوم، ليس إلى "حدود" عشرة كيلومترات من الخليل، كالنصر الأول، وإنما إلى ما بعد الخليل، وصولاً إلى القدس لتحرير المسجد الأقصى، الهدف الأول لحرب طوفان الأقصى.
بالمناسبة، إن كل المعارك الفاصلة في التاريخ، يتبع هزيمة الجيش المهزوم تراجع من مناطق شاسعة، وهو يولي الأدبار.
فيا للهول حين يُهزم الجيش الذي كان مسيطراً على إمبراطورية. فكيف بالذي كان مسيطراً على فلسطين.
هذا يعني أن القيادة الصهيونية، ومعها بايدن، معلقان على رأس شجرة لا تنزلهما عنها، كما يريدان، إلاّ الحرب البرية، والانتصار فيها. ولهذا فإن كل ما يفعلانه بعيداً من خوض الحرب البرية المخوفة بالنسبة إليهما، سيعني أنهما سيظلان على رأس الشجرة. وسيستمر الوضع الراهن على ما عشناه خلال العشرة أيام الأخيرة، وبكل سماته، مع ما يمكن أن يحدث من تغيير كمي هنا وهناك. ولكن ضمن خيمة المعادلة الراهنة، وهي:
1-معركة برية على الأجندة بالنسبة إلى الجيش الصهيوني، يحكمها الإحجام والتردد والخوف. ولكن يبقى احتمال الهجوم قائماً مع قيادة فاقدة لصوابها.
2-اللجوء إلى قصف المدنيين والتدمير لتغطية ذلك الإحجام والتردد مع إشباع الغليل المريض المهزوم من خلال الإمعان في القتل، ولا سيما الأطفال. علماً أن هذه الاستراتيجية بدأت عدّها العكسي بعد فضيحة جريمة قصف المستشفى المعمداني.
3-قوات المقاومة في قطاع غزة ستواصل الدفاع الإيجابي المتسّم بإطلاق الصواريخ، والتسلل وراء الخطوط بحساب منضبط، وذلك مع التحرّق، لخوض المعركة الفاصلة، التي تحسم الصراع، خلال هذه المرحلة.
4-التوسّع في التحرك الجماهيري العربي والإسلامي وأحرار العالم، إلى مستويات أعلى فأعلى، مع تعاظم الفضيحة لسمعة الكيان الصهيوني، وللديمقراطية الغربية، في ما يرتكبان من جرائم الحرب المدانة من القانون الدولي، ومن كل صاحب ضمير في العالم.
5-الاشتباك في جنوب لبنان يتواصل، مع تصعيد تحت السيطرة، إلى أن يحدث تغيير نوعي في جبهة غزة، فأصابع محور المقاومة على الزناد.
خلاصة:
ما لم تقع الحرب البرية سيستمر الوضع العام بخطوطه العريضة القائمة حتى الآن، وبتغييرات كمية، وليس نوعية. أي من دون حسم فارق عما قبله. ولكن مع ازدياد الضغوط على بايدن ونتنياهو في موضوع الأسرى.
نقطة منهجية:
هنا يجب التنبيه عند تقدير موقف لوضع متشابك معقد ومتعدد الأوجه في تطوره. وذلك من حيث ضرورة أن يحتمل العقل فكرة العيش ضمن استمرار الوضع لأمد طويل، أو متوسط من دون أن يحدث فيه، ما يغيّره. وذلك، لا على مستوى إيجاد حلّ، أو توافق، أو هدنة، ولا على مستوى الحسم عسكرياً. فهنالك عدة أوضاع وبلدان عربية عاشت، وتعيش، في منطقتنا وفي العالم، شهوراً وسنوات من دون حلّ أو تغيير. ولهذا ثمة أوضاع، يجب أن تقرأ على أساس التسليم، بلا حل ولا تغيير في المدى المنظور.
على أن الوضع في قطاع غزة من النوع القابل للتغيير، كما أثبت السابع من أكتوبر الذي قلب الطاولة، وجعل قوّة صغيرة، بشروط محددة تقف نداً لقوى عالمية، فيما الأخيرة واقفة حائرة مرتبكة متخبطة، قبالتها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: