اليوم الخامس من رمضان (لحظة كتابة المقال)، يبدو كل شيء هادئا من الخارج، الناس يتدبرون أمرهم لكن الأسئلة عن الأسعار في الأسواق تُسمع بكثرة. ساعة واحدة من الملاحظة المدربة تكشف مشاهد الوقوف أمام صناديق الغلال ثم الاكتفاء بشراء الخضر. أما القصابون فيشكون من غلاء سلعتهم كأنهم أبرياء من رفع السعر، يشاهد الناس اللحم من بعيد ويولون. لكن رغم ذلك تفاجئ الملاحظ صور ثراء غير متوقعة تملأ الشارع، كافتتاح محل لبيع الحلويات أو الظهور بسيارة جديدة (لا يزال اقتناء سيارة يشكل علامة ترق اجتماعي) أو مرمة بناء منزل خاص بالمرمر الايطالي.
من أين يتدبر المتدبرون حالهم؟ وأين توقعاتنا الحالمة بأن الأزمة الاقتصادية ستسقط الانقلاب؟ في مراجعاتنا للموقف من الانقلاب ومن معارضيه نقول إن التعويل على الأزمة مثل التعويل على السفارات، كان وهْما كسولا أو جبانا. هل يبدو الانقلاب متقدما على معارضيه؟ وأكثر فهما لطبيعة المجتمع الذي يحكمه؟
المعارضة الطفولية
لا أستصغر الأسماء المعارضة للانقلاب فلي فيها أصدقاء فضلا على أنها تقبع الآن خلف القضبان وهو موقع الشرف الوحيد في اللحظة التونسية الراهنة، لكن الملاحظ أن هناك خيطا فكريا ونضاليا متوارثا من تقاليد معارضة بن علي، هو الاكتفاء بالنضال الحقوقي في الداخل والتعويل على إسناد الأصدقاء الديمقراطيين في الخارج.
لقد تحركت المعارضة في الداخل بشجاعة طعنت في شرعية الانقلاب وأفقدته الكثير من مشروعيته، لكن تحركاتها كانت عبر مسار متقطع لم يربك عمليا خطط الانقلاب فمضى في مشروعه. في تلك التحركات المتناثرة قرأ الانقلاب ضعف المعارضة، وقرأ الناس أيضا هذا الضعف فلم يعوّلوا ومالوا إلى تدبير أمورهم بوسائلهم وحيلهم وقد رسخ في أذهانهم أن الانقلاب باق.
ماذا كان على المعارضة أن تفعل؟ هذا السؤال ليس للمزايدة (على الأقل احتراما لمن خلف القضبان)، لكننا نروم قراءة الأحداث بأقل القليل من العواطف. بعد عشرين شهرا من الانقلاب الصريح نرى أن الوعي بالانقلاب لم يكن كاملا ولذلك تأخرت الاتفاقات على خطة معارضته، ونتيجة لذلك أمكن له توجيه ضربة قوية لمختلف القيادات؛ بانت نتيجتها مباشرة في صمت الشارع.
لنقلها بلا مواربة: الموقف الصريح في معارضته كان موقف حزب النهضة ومن سارع إلى الالتحاق به ودعمه وطوّره خاصة "مواطنون ضد الانقلاب"، أما الذين عارضوا بجوار هذا الموقف دون الانضمام إليه أو بمحاولة تعديله فقد أوهنوا المعارضة وشتتوا عوض أن يجمعوا، وهو ما سهّل ضربهم. هذا وجه من وجوه المعارضة الطفولية وقد جُرب زمن بن علي ولم يُنتج شيئا.
انتظار المعجزات
ليس هذا هو الوجه الوحيد للنضال الطفولي للمعارضة، لقد كان التواصل المستمر مع السفارات تحت عنوان التشاور أو التعبير عن الانشغال إحدى لحظات ضعف المعارضة، ويستوي في هذا الجميع. شواهد التاريخ كانت دوما حاضرة في تونس عن عدم رغبة الدولة الغربية في تغيير النظام القائم بقطع النظر عن الأشخاص. انتظرت معارضة بن علي ربع قرن أن يردع البرلمان الأوروبي سياسات بن علي القمعية، وكانت البيانات الحقوقية تصل تونس أكثر من المطر، ولكن الدعم الحقيقي بالمال والحماية كان لرأس النظام ولسياساته.
معارضة الانقلاب تتغاضى عن خيبة الشعوب من الديمقراطيات الغربية التي لم تتخل عن خططها الاستعمارية، فهي تسند أشد الانظمة قمعا وتجامل معارضيها ببيانات أخوية، ولم تتغير الخطة بعد الربيع العربي. وكان على المعارضة أن تتخلى عن وهم نصرة يأتيها من هناك، لكنها لا تزال تقع في نفس الخطأ أو لعلها تتعمده لأنه يوهمها بدور، ومن يدرينا ما هو شعور معارض صغير مجهول يجلس إلى سفير الولايات المتحدة الذي يظهر له الاهتمام؟ ربما كان هدفه من المعارضة أن يجلس جلسة من تلك الجلسات ويضعها في سيرته الذاتية لطلب الجرين كارت.
الوهم الثاني الكبير هو انتظار ثورة الشارع، وبشكل أكثر دقة التحاق الشارع الاجتماعي بالمعارضة السياسية. هذا الشارع غاب ولم يحضر ولا نراه يلتحق بالمعارضة، وهذه المعارضة تبني وهْما وتنتظر سرابا، والأسباب متعددة.
إن التشويه الذي ألحقه الإعلام بالطبقة السياسة غير قابل للجبر، لقد أقام حاجزا عاليا بين كل متحدث من النخب وبين الشارع الاجتماعي، ولكن لا يمكن تعليق كل القطيعة على الإعلام.
لقد كانت مناورة القصبة (أو الثورة) عملية خداع كبيرة نبهت قطاعات واسعة من الشباب والنشطاء إلى خطورة العمل مع الطبقة السياسية التونسية في العاصمة خاصة. لقد ضحكت تلك النخبة على الشارع الثائر، وقد ترك ذلك جرحا عميقا من عدم الثقة لن يسمح في تقديرنا بخديعة ثانية. لقد كانت هذه القطيعة ظاهرة في مظاهرات المعارضة؛ وحدهم المتحزبون كانوا يستجيبون لنداءات قيادتهم بالتحرك أما الشارع الذي يعاني الأزمة الاجتماعية فيتدبر أمره بحلول فردية ولا يوالي المعارضة.
حركة استبدال تاريخية
لا نعني الاستبدال البشري بالخلفية العنصرية التي تحدث بها المنقلب مؤخرا، لكن هناك مؤشرات قوية على نهاية مرحلة ونشأة أخرى. سبق أن كتبنا أن الانقلاب ينهي دولة بورقيبة، وكان ذلك مبنيا على عملية تحطيم مؤسسات الدولة وتغيير مهامها، لكن بدأنا نعاين استبدالا آخر يتجاوز المؤسسات الشكلية.
النخب السياسية ورغم شرعية المرور عبر السجون تُستبدل بهدوء. استنزف الانقلاب قدرة النخب القديمة (التي ملأت المشهد منذ نصف قرن) على التطور والابتداع بتجاوز فردياتها وميلها إلى الزعامة والظهور الإعلامي بلا مضامين. لقد وضعها أمام حقيقة بسيطة هي عاجزة بذاتها وغير قادرة بغيرها وإن سعت (نقطة قوتها الافتراضية في وحدتها لكنها لم تتوحد ولا تسعى إلى ذلك، لذلك فهي منتهية كأفراد وكأطروحات سياسية). هنا يبدو الانقلاب أو من يفكر له متقدما على المعارضة وعارفا بضعفها الأصلي.
ليس معنى هذا أن الانقلاب يصنع نخبته، فالانقلاب حالة جهل مطلق من منشئه إلى مناصريه، لذلك فهو في حكم المنتهي فكريا وسياسيا. إنه نزوة لا تدخل في سياقات الاستبدال، إنما نرى الاستبدال يتجه إلى إنهاء حالة النخبة التونسية التي سأنعتها بالنخبة المستنفدَة الصلاحية. لكن رغم هذا اليقين فإن رسم معالم النخب الجديدة القادمة من وراء الانقلاب ليس متاحا بسهولة، إننا نرى أدبار المنصرفين ولا نرى وجوه القادمين ربما لأننا نسير مع المنصرفين.
قد نكتب قريبا أن التمسك بدستور 2014 هو نوع من الأصولية الدستورية وأن فيه بعض البكاء على رسم درس. أرى حول دستور 2014 ملامح جماعة سياسية تشبه من بقي مع الشيخ عبد العزيز الثعالبي بعد أن هرب بورقيبة بحزب الدستور إلى منطقة الساحل وأسس نخبته الجديدة. كان ذلك استبدالا تاريخيا بإنهاء نخبة الحضر وإحلال نخبة الأطراف، وقد وصلت المرحلة إلى نهايتها مع الانقلاب النزوة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: