البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

تونس: الطهورية السياسية عدو الديمقراطية

كاتب المقال نور الدين العلوي - تونس   
 المشاهدات: 1445



كُتِبت علينا حرب نحن لها كارهون، فقلوبنا معلقة بحب السلامة للناس ولأنفسنا في بلاد نود لها الخير ويعجزنا المتطهرين، عشر سنوات من الحلم بالسلم الاجتماعي، تحملنا من أجلها ضنكًا شديدًا ودافعنا عن كل من توسمنا فيه بعض خير ولو قدمه بالأسلوب الذي لا يروقنا، لكننا انطلقنا دومًا من التمسك بالحد الأدنى في انتظار الترقي فوق ذلك والتحليق نحو الأحلام الكبيرة التي أعادتها لنا الثورة بعد يأس وقنوط.

بنفس العقل الرصين انتخبنا قيس سعيد لإنقاذ البلد من لص، فإذا نحن نواجه حالة من الطهورية الزائفة التي نراها تفضي بنا إلى الاحتراب ونقول إن هذا التطهر يكمن في جذر كل عمل إرهابي قديمًا وحديثًا، لكن للخميرة الديمقراطية التونسية رأيًا آخر.

لغة التطهير لغة حربية
لم يستعمل الرئيس لفظ التطهير مرة واحدة عابرة في خطاباته، لكنه كرر اللفظ عندما تحدث عن القضاء والفساد وعن الإدارة وعن المشهد السياسي في تنوعه الخصيب، حتى صارت اللفظة لازمة متوقعة في كل خطاب، والإلحاح على اللفظ دفعنا إلى بعض التأمل في فعل كل من قال بالتطهير عبر الأزمة، فإذا نحن أمام خطاب مانوي يضع خيرًا مطلقًا (النور) في مواجهة شر مطلق (الظلام)، وحيث لا بد للنور من نصر مؤزر، فإن عليه تطهير الأرض من الظلام، بأسلوب المحق الجذري (القتل).

هذه المانوية نجدها تتسرب في كل دعوة متطرفة قال بها البعض واتبعها آخرون، ولا غرابة، ففي مهد المانوية نشأ الحشاشون وصفوا خصومهم طيلة قرون ولم يحاوروا إلا بالخناجر تحت جنح الظلام، فكل تاريخ الحركات الدينية المتطرفة في الإسلام والمسيحية واليهودية مارست التطهير بالقتل، في محاولة تنظيف الطاولة (والعبارة لديكارت) من وسخ المتخلف (القديم الرجعي الظلامي الخائن عدو الوطن، إلخ).

كانت آخر حركات التطهير في زمننا هي النازية والفاشية وعلى منوالها نسجت انقلابات عسكرية عربية قالت بالإنقاذ عبر قتل المختلف والمعارض ونفيه أخلاقيًا بالتخوين والسحل حتى الموت الرمزي، وللتذكير فإن أنصار الانقلابات العربية واقفون في صف المنقلب التونسي.

كل حركات التطهير تلاشت بالديمقراطية السياسية القائمة على تنسيب الاختلاف وتحمل كلفة الصراع السياسي (دون أسلوب روبسبيار) أي دون دم، وفرض الخيارات عبر الصندوق الانتخابي، وننظر فنرى قيس سعيد يصرخ بالتطهير بعد أن قطع طريق الصندوق الانتخابي، فنجد أنفسنا أمام خطاب يؤسس للاستئصال والسحل دون قدرة على التعاطي مع المختلف أو تنسيب الطموح الذاتي في حقل سياسي سمته التعدد والتنوع.

لم يكتب الرجل في الديمقراطية رغم أنه جامعي ومن أهل القانون بل القانون الدستوري، لم يشارك في نشاط سياسي سمته التعدد، ولم ينشط في مؤسسات مجتمع مدني حتى غيبه التقاعد، لم يكتب أدبًا ولم يفكر ولم يترك أثرًا في أي شعبة من شعب الفكر يعاد إليه، حتى ظهر فجأة يتطهر على شعب خاض معاركه الديمقراطية دون قيس سعيد.

وكما لو أن أنصاره شربوا من معين خطابه التطهري والتطهيري، فلم يسانده إلا كل قائل بالتطهير والاستئصال من شبيحة القوميين ومتطرفي اليسار المتعبد حتى الآن في محراب ستالين، فنحن نواجه منذ الانقلاب عملية قتل رمزي تمارسها فرق تطهير لم تدخر أشخاصنا ولا أمهاتنا ولا تاريخنا (أفرادًا وجماعات) على تواضعه وسلميته، لقد بث خطاب التطهير روحًا شريرةً جعلتنا نعود إلى تأمل تاريخ الحشاشين وفرسان الهيكل وجنود يهوه، فنجد خيطًا رابطًا نحن بعد الانقلاب نواجه فرقة حشاشين بعض عناصرها ليسوا إلا ضباط بن علي.

الديمقراطية في مواجهة التطهير
هذا خيار ومصير ووسيلة ليس لنا غيرها، فالرد على التطهير بمثله (خطاب وممارسة) هي الحرب الأهلية التي يمكن أن يبدأها تطهيري من أحد الصفين لو تحدث نفس اللغة وفكر بنفس الخلفية، لكن لا يمكن لأحد أن يتنبأ بمسارها ولا بعواقبها ولم نقرأ في كتب التاريخ أن حربًا أهلية نشبت في شعب فجلبت خيرًا لمن خاضها أو تجاهلها وطمر رأسه في التراب حتى تمر.

إن خطاب الرئيس التطهيري (التطهري) المالك للحكمة المطلقة وللحلول المطلقة للمشكلات الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية لا يرد عليه بمثله بل بالديمقراطية بصفتها الأسلوب الوحيد القادر على تحمل الاختلاف في الآراء والقادر على كشف التنوع بين الأفكار والإرادات، إنها سبيل التنسيب المتاح فيما حولنا من تجارب الحكم منذ قرون، وقد رأيناها تقضي على النازية والفاشية والستالينية والماوية أيضًا وتصنع رفاه الشعوب في جوارنا.

لقد استذكر أصدقاء لنا وهم يتأملون مثلنا أسلوب قيس سعيد طريقة الخمير الحمر في قيادة بلدهم حتى ملأوا الحقول بالجماجم، لكننا بجوارهم ننتبه إلى أن المجتمع التونسي عصي على التطهير وأسلوب التطهريين الذين يمسحون الطاولة من أعدائهم.

لقد تخمرت فكرة الديمقراطية فيه منذ زمن طويل فلم ينتج التطرف إلا في السلطة، بينما واجه المجتمع دومًا بعقل تنسيبي، وكان للسنوات العشرة للثورة (التي وصفها اليسار النقابي الستاليني بالعشرية السوداء) دور فعال في بلورة هذا السلوك الديمقراطي وترسيخ قيم الصبر على الاختلاف وتطوير الحوار رغم ضعف النتائج المادية (إذ لم يشعر الفقراء بنتيجة الثورة على مائدة طعامهم بعد وهم الذين كانوا مرجلها ووقودها).

إننا بعد مئة يوم من الانقلاب نعاين استفاقة ديمقراطية تظهر في مواقف الشخصيات الاعتبارية وأقوالها وفي مواقف الأحزاب وبعض المنظمات التي لا يقودها اليسار الستاليني التطهيري ولا تقودها أحزاب البعث القومي التي لها تجربتها في التطهير على طول الخريطة العربية.

يواجه خطابَ التطهير الآن وسيواجه في قادم الأيام خطابُ الديمقراطية وأنصار التعدد والاختلاف، ونستشعر أن تحالفًا يقوم الآن في الشارع ضد الانقلاب وأنصاره وسيفصح قريبًا عن وجهه في الشارع متسلحًا بلغة غير تطهيرية، وبكثير من التفاؤل المشوب بالحذر نقول إن خطاب التطهير سيرتد على صاحبه وسيطهر منه لكن بالديمقراطية بلدًا غنيًا بتنوعه.

لقد قامت في البلد قواعد ثابتة للديمقراطية جسدها دستور تعددي غير إقصائي أي غير تطهيري (كان بالحق خلاصة لسنوات طويلة من الجدال الديمقراطي) وعلى هدي منه سيكون للشارع الديمقراطي قول فصل نرى إرهاصاته في المواقف الحاسمة ضد الانقلاب.

لا أملك المعلومة الدقيقة عن عودة الشارع الديمقراطي لكنني من موقع الملاحظ أرى أن الإجماع حاصل على نبذ خطاب التطهر والتطهير السياسي الذي يستعمله الرئيس وفريقه، ونتوقع أن يدفع ثمنًا قاسيًا لذلك، لكن ثمن الديمقراطية مهما ارتفع سيكون أهون على الناس من ثمن مشروع حشاشين جدد يخفون خناجرهم بعد تحت ربطات عنق فاخرة.

بل نذهب إلى حد القول إن هذه الردة القصيرة في الزمن ستكون آخر محاولات الحشاشين في تونس لوأد الديمقراطية وستكرس روح الدستور التعددي، فلا يجرؤ عليه أحد من المتفقهين بالتطهير، لقد كان ضروريًا أن تظهر هذه البثرة على جلد الديمقراطية ليتم علاجها في مرحلة التأسيس التام للتعايش الديمقراطي، ثم نذهب واثقين إلى المستقبل.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

إنقلاب قيس سعيد، تونس، الإنقلاب في تونس،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 30-10-2021   المصدر: نون بوست

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
محمود فاروق سيد شعبان، كريم فارق، ماهر عدنان قنديل، صفاء العراقي، د - شاكر الحوكي ، ضحى عبد الرحمن، مجدى داود، عراق المطيري، منجي باكير، صلاح المختار، د. خالد الطراولي ، رافع القارصي، مصطفى منيغ، محمود طرشوبي، عزيز العرباوي، محمد اسعد بيوض التميمي، عبد العزيز كحيل، محمد شمام ، عبد الله زيدان، الناصر الرقيق، د - المنجي الكعبي، أبو سمية، جاسم الرصيف، د.محمد فتحي عبد العال، إياد محمود حسين ، سلام الشماع، د- جابر قميحة، محمد الياسين، بيلسان قيصر، د - محمد بن موسى الشريف ، يحيي البوليني، نادية سعد، أحمد بن عبد المحسن العساف ، أحمد بوادي، علي عبد العال، محمد يحي، عبد الله الفقير، محمد علي العقربي، مراد قميزة، حميدة الطيلوش، سعود السبعاني، عبد الغني مزوز، حسني إبراهيم عبد العظيم، محمد العيادي، حسن عثمان، محمد أحمد عزوز، رمضان حينوني، عمار غيلوفي، إيمى الأشقر، صلاح الحريري، د. طارق عبد الحليم، د- هاني ابوالفتوح، د. كاظم عبد الحسين عباس ، د. ضرغام عبد الله الدباغ، رشيد السيد أحمد، أحمد ملحم، محمود سلطان، طارق خفاجي، خبَّاب بن مروان الحمد، رضا الدبّابي، صالح النعامي ، يزيد بن الحسين، عبد الرزاق قيراط ، د. أحمد محمد سليمان، محمد الطرابلسي، د - محمد بنيعيش، د - مصطفى فهمي، المولدي اليوسفي، سامر أبو رمان ، سلوى المغربي، فتحي العابد، المولدي الفرجاني، د. صلاح عودة الله ، فتحي الزغل، الهادي المثلوثي، محرر "بوابتي"، د. عادل محمد عايش الأسطل، د- محمود علي عريقات، سيد السباعي، أ.د. مصطفى رجب، حاتم الصولي، فتحـي قاره بيبـان، عمر غازي، د - الضاوي خوالدية، د- محمد رحال، رافد العزاوي، العادل السمعلي، د - صالح المازقي، طلال قسومي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، وائل بنجدو، أشرف إبراهيم حجاج، سفيان عبد الكافي، مصطفي زهران، د. عبد الآله المالكي، صفاء العربي، د. مصطفى يوسف اللداوي، سامح لطف الله، ياسين أحمد، خالد الجاف ، د - عادل رضا، كريم السليتي، أحمد الحباسي، عواطف منصور، فهمي شراب، رحاب اسعد بيوض التميمي، إسراء أبو رمان، فوزي مسعود ، محمد عمر غرس الله، أحمد النعيمي، تونسي، سليمان أحمد أبو ستة، أنس الشابي، حسن الطرابلسي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، علي الكاش، د. أحمد بشير، الهيثم زعفان، صباح الموسوي ،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة