يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إحدى نتائج انقلاب تونس هي الكشف الصريح لوهم راج كثيرا وبُنيت عليه مواقف وتحليلات؛ مفاده أن حزب النهضة قد استقوى وتمكن من كل مفاصل الدولة وهو يسيّرها لصالحه، وقد استعار الكثيرون من مصر عبارة "أخونة الدولة" لوصف تغلغل النهضة في الأجهزة. لقد كشف الانقلاب زيف هذا الحديث رغم أن جماعات كبيرة من النهضة صدقت عن نفسها وهْم القوة، وعاشت به سعيدة حتى صفعها الانقلاب فاستفاقت مصدوعة من فشل ذريع.. أن حزبهم الجماهيري لا يزال قشرة خارجية يسهل كشطها عن جسد الدولة وإعادتها إلى حيث كانت دوما؛ جسدا غريبا ومكروها كالجرب.
الوهم/ الإيهام صناعة المنظومة وجهازها الإعلامي
بدأ الإيهام بقوة النهضة منذ أول الثورة، وبخلفية أيديولوجية تُصور الحزب كتيار ديني رجعي قادم من مجاهل التاريخ المظلم ليخرب الحداثة ويحارب التقدمية، ودليل ذلك تحالفه مع التيار السلفي الإرهابي. (وهذا استمرار للدعاية المضادة للتيار الإسلامي منذ ظهوره في تونس في السبعينات، وقد استعمله ابن علي بكل حنكة في حربه ضد حزب النهضة).
مع تقدم العمل السياسي الذي تشارك فيه النهضة تبين لكثيرين أن هذا الخطاب لم يعد يقنع الكثيرين، فالنهضة جسدت المناصفة في المناصب بعد أن كان شرط المناصفة قد أعد كفخ للإيقاع بها بصفتها حزبا دينيا معاديا للمرأة. وقد حكمت النهضة كحزب أول ولم تغير قواعد العمل السياسي، فلم تستول وحدها على السلطة، ثم بدأت تخسر وتقبل خساراتها ولا تنقلب على الديمقراطية، وهي أيضا تهمة كانت معدة لها منذ العام 1981 عندما طلب الاتجاه الإسلامي ترخيصا للعمل السياسي الحزبي. فقيل حينها إن الإسلاميين كالنازيين؛ يستعملون الديمقراطية مطية وصول ثم ينقلبون عليها. وأمثلة كثيرة من سلوك النهضة السياسي جعل وصمها بحركة دينية ظلامية إرهابية لا يقنع إلا مروجيه، فتغيرت مفردات الخطاب من الظلامية إلى الأخونة.
لم يناقش أحد حق النهضة المبدئي كحزب قانوني خارج من رحم الشعب؛ في أن تكون في مواقع متقدمة من الإدارة، بل صار كل ظهور لفرد منها في موقع علامة على الاستيلاء والأخونة ويجب طرده ومنعه. فهي ممنوعة بلا أي نص قانوني من الترقي في وظائف الإدارة وفي التعليم العالي وفي القضاء وفي الأمن. وقد كانت ممنوعة وهي الحزب الأول، خاصة بعد 2019، من وزارات السيادة الأربع، فلا يحق لها إدارة الأمن أو الجيش أو العدل أو الخارجية، ثم توسع المنع فلا حق لها في التربية ولا الثقافة.
وكان قبولها الذليل بهذه الشروط غير القانونية بابا لمنعها من مواقع أخرى كثيرة. ورغم ذلك كانت تواجه تهمة الأخونة، وتشتغل آلة الدعاية المضادة على أن تونس وإدارتها تحولت إلى مقاطعة نهضوية خالصة ليس فيها مكان لأحد غير أولاد النهضة، وكانت النهضة عاجزة عن رد أي تهمة وقد صار هروبها الاستسلامي تسلية لكل عابر.
الانقلاب كشف هشاشة حزب النهضة
توفرت مؤشرات كثيرة قبل الانقلاب على إمكان حدوثه، لذلك فإن كثيرين لم يتفاجأوا بينما ظهرت النهضة غريبة عن المشهد كأنها لم تكن تتابع وتقرأ الوقائع. وقد كانت إحدى العلامات الواضحة على التحضير للانقلاب إعلان تمديد حالة الطوارئ لمدة ستة أشهر بداية من 20 تموز/ يوليو، وهو إجراء خالف فيه الرئيس تقليد التمديد بشهر منذ توليه (وكان قد سبق منه تصريح أول بأنه يمددها مكرها)، فضلا على أن مسار التعفين الذي يشارك فيه الرئيس بدهاء كان واضح الهدف، وهو إيصال البلد إلى حالة عطالة مطلقة، خاصة بتلاعبه بهبات التلاقيح وإخفائها لدى إدارة الصحة العسكرية، ليتحول عدد موتى كورونا إلى وسيلة ضغط على الحكومة، وبالتالي على الحزب الذي يسندها.
لم يبن حزب النهضة أية تحليلات لسلوك الرئيس ليعد خططا لتوقيها أو استباقها، وتجمد موقفه حول دعم حكومة المشيشي المكبلة دون أفق. كان كل عمله إطلاق جمهوره الافتراضي ليسخر من الرئيس ويكرس له صورة الرجل الغبي، وكان هذا العمل كافيا لخلق طمأنينة مزيفة تكشف الهشاشة وغياب الفكرة. في الأثناء كانت كل القوى السياسية الصغيرة تتجمع في أفق إسناد الانقلاب المنتظر. كانت رسائل التهدئة الموجهة للرئيس وإعلانات الرغبة في الحوار التي يرسلها الغنوشي تصطدم بجدار صلد، فترتد عليه فلا يحار جوابا.
في الأثناء كانت آلة الدعاية المضادة للحزب تؤكد على قوته وعلى امتلاكه جهاز مخابرات خطيرا وجهازا سريا للاغتيالات، فتترسخ لدى الجمهور الواسع صورة حزب محيط بالدولة ويخترق أجهزتها الصلبة. ويبدو هذا مثيرا للسخرية؛ أن الحزب قد صدق ما يقال عنه أو رغب في تصديقه ليعيش فترة ما قبل الانقلاب بشعور من يسيطر على الوضع، ولم يكن يرى الماء يجري تحت قدميه حتى غرق. وكان من علامات ذلك انشغاله بصراعات داخلية حول المواقع في الحزب والمواقع المحتملة في الحكم مستقبلا؛ انتهت بانفجار داخلي واستقالات وازنة كشفت خواء كبيرا.
صمت ما بعد الانقلاب علامة عجز أخرى
الصمت والترقب هو الموقف الذي ميّز الحزب بعد الانقلاب، وهو استسلام للوقائع لتقود الحزب وتكيف سياساته من خارجه، حتى أن صفحات أنصار الحزب كانت أكثر الصفحات الافتراضية التي تروج لحل سياسي يأتي من خارج البلد. لقد سارعت القيادة الظاهرة (وأظنها القيادة الوحيدة) إلى التسليم بأن الحزب هو السبب الوحيد للعطالة السياسية قبل الانقلاب، وبدرت منها مواقف اعتذارية مهزومة لا تشير إلى مسار التعفين الذي شارك فيه الرئيس بقوة.
تسعون يوما من الانقلاب والحزب مرابط على نفس الموقف، وينتظر سقوط الانقلاب من تلقاء نفسه أو بقوة خارجية صديقة. لقد شارك بقوة في مظاهرة يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر، ولكنه عاد إلى الصمت دون إعلان خطط بديلة، وبدا كأنه ينتظر حركة الديبلوماسية الدولية المحيطة بالبلد، أي انتظار الحل الخارجي أو الهدية الدولية لتعيده إلى موقعه الذي خسره.
هل كان مطلوبا من الحزب أن يخرج وحده لمواجهة الانقلاب؟ نعتقد أن خروجا مماثلا كان سيوفر ذريعة جيدة لحرب استئصال أخرى تجنب الحزب حدوثها، وقد نجا حتى الآن بالموقف المهادن أو المناور، لكن كنا ننتظر كمراقب أن يتكلم الحزب غير لغة الضحية التي تقبل على نفسها حمل الرزية، كنا ننتظر خطابا صريحا وشجاعا يبرز خطة التعفين وأدواتها، وتبدأ بالكف عن الخطاب المتودد للقوى الانقلابية، وفي مقدمتها النقابة والمجموعات الأيديولوجية الاستئصالية التي احتلتها وجيّرتها لصالح الانقلاب.
ونعتقد أن هذا التودد الذليل هو استمرار لخطة فاشلة منذ انطلاقها تقوم على/ أو تروج للاندماج في النخبة السياسية، وهي خطة ظن أصحابها أن إعلان النوايا الحسنة تجاه قوى الاستئصال سيغير موقفها وخطابها ويجسر الفجوة معها. خطة الاندماج في النخبة منذ انطلاق الثورة كانت بوابة لهزيمتين؛ أولاهما الابتعاد عن القاعدة الشعبية (مليون ونصف مليون ناخب أو أكثر) التي منحت ثقتها للحزب في انتخابات 2011، وثانيهما منح صورة ثورية لجماعات الاستئصال السياسي التي لا وزن لها في الصندوق، بما مكنها من رقبة الحزب وحشره في زاوية العجز المقهور. وقد كان إسقاط حكومة الجملي صفعة مدوية على وجه الحزب لم يقدرها حق قدرها.
وحتى اللحظة لم يبدر من الحزب أي نقد ذاتي علني لهذه الخطة الفاشلة؛ يكون مقدمة لإعادة التموقع وسط الشعب بعيدا عن نخب الاستئصال التي فضحها الانقلاب وكشف زيف خطابها الديمقراطي، حتى أننا نرجح أن رسائل تودد تصدر الآن من الحزب نحو هذه المجموعات على أمل تقارب سياسي ضد الانقلاب، وهو أمل كاذب يكشفه موقف النقابة.
ماذا لو طرح الحزب سؤالا آخر لخطة أخرى: كيف نعود إلى الاندماج في الشعب بدل السعي الذليل للاندماج في نخبة مغلقة على مواقعها ومصالحها، ولم تر في الحزب إلا تهديدا لمغانمها؟
سيفرض هذا السؤال وجهة أخرى هي وجهة إنتاج الأفكار والبرامج التي توجه أساسا لساحة سياسية لا تزال تعيد إنتاج النظام (نظام ابن علي)، بأفكاره وأدواته المستنفدة، وهي خطة تتخلى عن المشاركة السياسية لفترة من الزمن ينكشف فيها عجز الآخرين أولا، وهم الذين وجدوا في تصدر النهضة غطاء جيدا للتوقف عن طرح الأفكار والبدائل، واكتفوا بالبحث عن أخطاء النهضة وعثراتها وألفوا سيرتهم من ذلك، فظهروا كأنهم هم الشعب والنهضة القوية هي السلطة الغاشمة (وهذا سبب إيهامها بقوة لا وجود لها في الواقع).
ليس لخصوم النهضة (ومنافسيها وأعدائها) أفكار حكم ولا خطط غير ما جدوا عليه آباءهم، وقد أنقذتهم النهضة من فشلهم وفقرهم، حتى أنهم وجدوا في أفكار الرئيس المنقلب البائسة خطة يتبعونها. إن انسحابها الآن من مقدمة المشهد ومراجعة فكرة الاندماج في الدولة ونخبها عبر المشاركة السياسية ولو بالحد الأدنى؛ سيغير المشهد برمته.
سيعرف الناس (الشعب/ البؤساء) الوجه الفقير للنخب المستولية على الأجهزة والمواقع، ويعريها فيضعها في مواجهة الشارع دون حجاب النهضة.
ستعطى نخب الحزب القليلة وقتا لالتقاط الأنفاس والانكباب على بناء خطة حكم بعيدة المدى؛ تُصنع فيها نخب جديدة لا يستهلكها الجري اليومي لنفي التهم والتبرؤ من الخطايا التي تنسب إليها.
سيعود الحزب إلى حجمه الواقعي ويعيد تقدير ما لديه ويبني عليه بواقعية، وله في مؤتمره القادم فرصة جيدة لمراجعة جذرية، وربما يجد مضمونا يضعه في صندوق الإسلام الديمقراطي الذي وضعه شيخه على الطاولة ولم تضع فيه نخب الحزب جملة واحدة قابلة للقراءة السياسية.
سيسقط الانقلاب، هذه حتمية، وسيسقط معه كل الخطاب الاستئصالي، فالانقلاب آخر أدواته وحينها سيكون خطاب الضحية الذي عاش منه الحزب خطابا منافقا يعيش من عجزه وكسله. سيحتاج الأمر إلى قائد شاب مثل خالد بن الوليد يحسن المناورة ويسحب جيشه من معركة خاسرة.. إنه درس غزوة مؤتة، وقد تأخرت قراءته طويلا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: