يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
هل سلّمتم معنا اليوم كما قلنا لكم منذ البداية إنه انقلاب، فاتّهمتمونا في عقولنا وضمائرنا ومرّغتم شرفنا بتهم الخيانة الوطنية؟ هل اتضحت لكم الرؤية بعد الآن؟ السؤال جدالي لأننا نعرف أنكم وإن تعلنوا توبة فإنكم تكذبون.
ها قد اكتملت الصورة فلا تتذاكوا، أنتم أسوأ من الانقلاب، لذلك عندما نتحدث عن المستقبل سنعتبركم من الماضي مثل الانقلاب. من نحن؟ نحن من آمن بأنه انقلاب وأننا سنعيد البلد إلى الجادة وأننا مستعدّون للثمن. لقد قدّمَ لنا الانقلاب خدمة جليلة إذ كشفَ جوهركم، لذلك سنسير إلى المستقبل فلا تعرضوا رفقتكم علينا.
إطلاق النار على رأس الدولة
هكذا ألخّصُ محتوى المرسوم 117 الذي علّق الدستور وألغاه فعلًا وأبّدَ سلطة الفرد: إنها عملية إعدام للمؤسسات المنتخبة وغير المنتخبة، وبالتالي إعدام الدولة نفسها. لقد قام صاحب المرسوم بالاستيلاء على كل السُّلط في كل المواقع، ووقفَ فوق كل رقابة قانونية وسياسية على فعله (طبعًا يمكننا حشر جملة اعتراضية هنا: حتى بن علي لم يفعل ذلك).
لم يكن انقلابًا موجَّهًا ضد حزب بعينه كما رغب الكثير من مسانديه في البداية، بل هو انقلاب على كل الإطار القانوني والسياسي الذي سمحَ لكل هؤلاء بالوجود والحركة وبناء الأمل في الحكم والتغيير، وسيستفيقون كل صباح على مرسوم جديد يتدخّل في مجالات الحرّية ومجالات المشاركة.
سيتم حل المجالس البلدية المنتخبة لأول مرة في تاريخ تونس، وستتم السيطرة بمراسيم على وسائل الإعلام، أما النقابات المنفلتة فنظنُّ أنها أصبحت تحسب مكاسبها من سنوات الثورة وتعضّ أصابعها، فهي أيضًا مشمولة بالمرسوم 117 ويمكن إفساد طمأنينتها المرفّهة بمرسوم، وستفاوض على سلامتها بصمتها كما اعتادت أن تفعل مع كل ديكتاتور.
لقد أعدمَ المرسوم الدولة ومؤسَّساتها والمجتمع المدني ومؤسَّساته برصاص كثير من مسافة صفر، لقد أطلق النار بكثافة على وهم تونسي جميل.
هل سيخرج الشارع دفاعًا عن حريته ودولته؟
لا يجب اختلاق أمل كاذب ونشره بين الناس، فحرارة الدعوات إلى التظاهر معلّقة حتى نرى ما يكون يوم الأحد 26 سبتمبر/ أيلول، لكن التجربة علّمتنا أن هذا الشارع مدخول وأن الحماس الافتراضي لا يخرج كله إلى الشارع.
عقدة الشارع الأصلية لا تزال تسكن الخطاب والنوايا، لقد سمعتها في أحاديث كثيرة: "إذا سقط الانقلاب عادت النهضة"، لذلك إن كثيرًا من معارضي الانقلاب ليسوا محل ثقة عندما يتعلق الأمر بالشارع، ويجب البناء على هذه الواقعية المرّة.
يقول البعض بكل وقاحة وغباء: "إذا نزل جمهور النهضة إلى التظاهر، فلنتركه وحده حتى لا يحصّل مكاسب سياسية"، وكاتب الورقة ممّن يؤمنون بأنه لولا هذا التفكير الاستئصالي لما حدث الانقلاب ولما ظهر المنقلب في الساحة أصلًا.
هذا الانقسام العميق خرّب التجربة الديمقراطية التونسية، وسيحكم على كل محاولة لاعتراض الانقلاب، والفائدة تعود طبعًا إلى الانقلاب وهو يعرف ذلك ويستفيد منه منذ ما قبل الانقلاب. فعندما كان المنقلب يمنع الأمن الرئاسي من حماية البرلمان حتى يضمن اشتغاله، كان طيف واسع ممن يقول الآن بالحفاظ على الدستور والمؤسسات يزغرد لتخريب البرلمان.
وحدها الفاشية كانت تعرف ما تريد وتشتغل عليه بهمّة، حيث ستخرج ضد الانقلاب شوارع متناقضة ومشتَّتة وبشعارات متشابهة لكنها عاجزة عن العمل المشترك، هذه الفرقة لن تزول غدًا فبها حكمَ بن علي رُبع قرن.
هل على الشارع أن يصمت؟ ليس هذا هو مغزى القول لكن في غياب مراجعة حقيقية للموقف الاستئصالي، سيجدُ المنقلب وقتًا طويلًا ليفعل بالبلد ما يشاء، وسيطلق النار على من يشاء بكل أريحية، وبالمناسبة دون جمهور حزب النهضة المنظَّم أو شعبها، كما يحلو للبعض تسميته، لن يمكن لأحد تنظيم المليونية التي تُرى من الخارج.
هل ننتظر الأزمة الاقتصادية لتحكم على الانقلاب؟
سيكون حالنا مثل من خرج للصيد بلا صنارة، وظلَّ جالسًا على حافة الماء يتوسّل السمكة أن تخرج إلى سلّته من تلقاء نفسها. إنه عين العجز والتواكل. سيواجه المنقلب أزمة ماحقة، فالخزينة فارغة والمساعدة الخارجية تتأخّر بما في ذلك الرزّ الإماراتي الذي انصبَّ على منقلب مصر مثل مطر خريف عاصف، فأسند به نفسه حتى استقرَّ له الأمر. طبعًا من الخَطَل انتظار تأثير أصدقاء تونس (هذه الجملة تضحكنا ضحكًا كالبكاء) أن يتدخّلوا بالحسنى بين الانقلاب والشعب.
إذًا لم يبقَ إلا الشارع بثمن قاسٍ جدًّا، فالأزمة الاقتصادية ستلتهمُ الجميع بدءًا بموظفي الدولة الذين لا يمكنهم بيع خروف لشراء الخبز مثل فلاحي الأرياف (لمن سيبيعون الخروف إذا عجز الموظفون عن شراء اللحمة).
الشارع يبدأ قليلًا وضعيفًا ثم ستمدّه الأزمة بجمهور جديد كل يوم، ونتوقع أن يسعى المنقلب إلى ضرب الشارع كخطوة استباقية، فمجال الحريات مهدَّد بمراسيم في كل لحظة. سيظل الثوريون المغرمون بغرامشي ينتظرون أن تحوِّل الأجهزة أسلحتها ضد الانقلاب، لكن كاتب الورقة لا يبيع هذا الوهم لأحد لأنه يؤمن بأن أثر بن علي باقٍ في الأجهزة كمخدِّر أزلي.
ها هو المفتاح تحت الباب إلى حين العثور على نقطة بداية سليمة لاستئناف بناء الديمقراطية، التي لا تسمح لشخص مهما كان ذكيًّا وحريصًا أن ينقلب عليها. متى يكون ذلك؟ سنكون مع الشارع حتى تلتحق أفواج الجياع ويسمع العالم صوتها، مع تدقيق ضروري: لن نسير بجانب من بات مع الانقلاب وأصبح ثوريًّا وديمقراطيًّا، فلم يكن ما كتبناه أعلاه تحليلًا بل موقفًا سياسيًّا أملاه الحلم والواجب.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: