تشهد العلاقات التونسية الليبية بعد 25 من يوليو/تموز الماضي، توترات كبرى رغم نفي الجانبين ذلك، توترات من شأنها أن تؤثر سلبًا على مستقبل العلاقات بين البلدين الجارين في وقت يشهد فيه كلا البلدين أزمات عدة شملت جوانب مختلفة.
علاقات متوترة
في زياراته الأخيرة، أبرم رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة اتفاقيات عديدة مع عدة دول على غرار مصر وتركيا ومالطا، خاصة أن هذه البلدان تسعى للحصول على أكبر عدد من الاتفاقيات لإعادة إعمار ليبيا التي دمرتها الحرب.
لكن الاستثناء كان الجارة الغربية لليبيا، أي تونس، فرغم تكرر الزيارات بين مسؤولي البلدين، لم نشهد إبرام أي اتفاقية بين الطرفين، ودائمًا ما يكتفي المسؤولون بإصدار بيانات بلغة خشبية تتحدث عن تاريخ العلاقات بين البلدين والروابط المشتركة بينهما لكن مستقبل العلاقات وحاضرها لا حديث عنهما.
ليس هذا فحسب، فالزيارة الأخيرة لدبيبة لتونس لم تثمر عن شيء، وقد كان الهدف منها بحث المشاكل العالقة بين البلدين من ذلك أسباب استمرار إغلاق المنافذ البرية بين البلدين، منذ 8 من يوليو/تموز الماضي، رغم إعلان الحكومة الليبية في 17 من أغسطس/آب المنصرم، إعادة فتح المنافذ البرية وحركة الملاحة الجوية مع تونس.
بقيت الحدود مغلقة، لكن فتحت معها باب التأويلات، خاصة بعد أن فشل الوفد الحكومي الليبي في رأب الصدع بين البلدين، كأن هناك نيةً مبيتةً في قصر قرطاج للإبقاء على توتر العلاقات بين البلدين، رغم تأكيد القصر أن "التاريخ والجغرافيا وروابط الدم والمصالح المشتركة بين الشعبين، لا يمكن أن تفرقها تصريحات غير مسؤولة أو تعاليق مغرضة أو محاولات يائسة من أطراف أصبحت مكشوفة للجميع".
وكان الدبيبة قد قال في كلمة وجهها إلى الشعب الليبي، إن الإرهاب قادم إلى ليبيا من الخارج، والشعب الليبي حر ولا يقبل اتهامه بالإرهاب، وذلك في رده على تقارير إعلامية تونسية وليبية تتحدث عن استعداد عشرات الإرهابيين في قاعد الوطية غرب ليبيا للهجوم على تونس.
الإعلام ينفخ في الأزمة
هذه الأزمة استثمر فيها الإعلام أيضًا، فقد عمل طيلة الأسابيع الماضي على النفخ فيها ونشر تقارير وأخبار تسيئ للعلاقات بين البلدين دون التثبت من صحتها وتبين فيما بعد عدم صحتها، كما حصل أمس مثلًا، فالعديد من المؤسسات الإعلامية في تونس تحدثت عن منع تونس دخول الليبيين إلى أراضيها.
هذه الأخبار كان مصدرها صفحات فيسبوك ليبية تدعي أنها تتحدث باسم مؤسسات حكومية، لكن تبين فيما بعد أن هذه الصفحات غير رسمية، وامتهنت مؤخرًا نشر الإشاعات التي تمس العلاقات بين تونس وليبيا.
انتشرت الإشاعة وبدأ تبادل الشتائم بين شعبي البلدين في مواقع التواصل الاجتماعي، حتى بعد تكذيب الأمر لم تنته الشتائم، فالتكذيب لم يأخذ صداه كما كان الحال مع بداية الإشاعة، فالفرد يصدق أول الحديث ولا يكترث بالباقي ولا يكلف نفسه عناء التحري عن المعلومة الصحيحة.
حتى في مسألة الإرهاب ووجود عناصر إرهابية في ليبيا تترصد الفرصة لدخول تونس عقب أحداث 25 من يوليو/تموز الماضي، كان مصدر الإشاعة بعض الصفحات على الفيسبوك، لتنقلها بعض وسائل الإعلام وتنصب بعد ذلك البلاتوهات والمنابر الإعلامية لتكيل التهم لليبيا وحكومتها.
رغم تكذيب المسؤولين التونسيين والليبيين لهذه الأخبار، فإن بعض الوسائل الإعلامية ما زالت ترددها باعتبارها حقائق، ناهيك بوسائل التواصل الاجتماعي التي نصبت المحاكم وأصدرت أحكامها ضد الشعب الليبي الذي نعتته بالإرهاب.
نتيجة ذلك، صدرت بعض التصريحات من مسؤولين ليبيين يتهمون تونس بتصدير الإرهاب لبلادهم، وهو ما زاد من تعقيد الوضع أكثر، خاصة أن الماسكين بزمام الأمور في تونس لا يكنون الاحترام الكبير للمسؤولين الليبين وقد اتضح ذلك في العديد من المناسبات.
أطراف أجنبية تستثمر في الأزمة
عملت العديد من الدول الأجنبية منها العربية والغربية على الاستثمار في الأزمة بين ليبيا وتونس - أو لعلها هي من خلقتها وساهمت في تأجيجها - فهذه الدول تسعى منذ فترة لتأزيم العلاقات التونسية الليبية خدمة لأهدافها المشبوهة في المنطقة.
هذه الدول منها مصر والإمارات وفرنسا، تسعى إلى فرض حصار على الحكومة الليبية من جهة الغرب، حتى يتسنى لهم فرض شروطهم على حكومة عبد الحميد الدبيبة والفوز باتفاقيات إعادة الإعمار هناك وتنصيب حلفائهم في مراكز القرار، خاصة أن الغرب الليبي خرج عن طوعهم.
أي أن تونس أصبحت أداةً تؤدي مهمة وظيفية لدول أثبتت عداءها لتجارب الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية، هذه الدول وجدت ضالتها في قيس سعيد وجماعته الماسكين بزمام الأمور في تونس منذ الانقلاب الدستوري نهاية يوليو/تموز الماضي وتجميد نشاط البرلمان وإقالة رئيس الحكومة من منصبه.
هذا الضغط الممارس على تونس لتوتير علاقاتها مع ليبيا، جاء في أعقاب دعم مالي وإعلامي كبير حصل عليه قيس سعيد من بعض هذه الدول، أي أن هناك مصالح مشتركة، فسعيد تمكن من تحقيق مآربه الشخصية، بالتوازي مع فتح الطريق لمحور الشر من أجل الضغط على الحكومة الليبية.
يعلم هؤلاء جيدًا أن الحدود التونسية الليبية تخضع الآن لسيطرة الليبيين الرافضين لوجودهم بمساعدة خبراء أتراك، وأن الجنوب التونسي الذي أظهر منذ ثورة 17 من فبراير/شباط تعاطفًا غير مسبوق مع الغرب الليبي، يرفض هو الآخر أي وجود لمحور الثورة المضادة، ما يعني أن الغرب الليبي من العاصمة إلى زوارة لن يسقط إلا إذا تم التضييق عليه من تونس.
خسائر كبرى للطرفين
في الوقت الذي ستجني فيه هذه الدول أرباح كبرى نتيجة توتر العلاقات بين البلدين الشقيقين، ستتكبد كل من ليبيا وتونس خسائر لا تُحصى ولا تُعد نتيجة الوضع الحاليّ وعدم وجود نية للتراجع وتحسين العلاقات.
جدير بالذكر أن ليبيا تُمثل امتدادًا تاريخيًا واقتصاديًا وحضاريًا لتونس وكذلك العكس، فقد كانت الأسواق الليبية ملاذًا للتجار ولآلاف العمالة، فيما كانت تونس مقصدًا مهمًا للسياحة والترفيه وملجأً لعلاج آلاف الليبيين.
إلى جانب ذلك، يرتبط الغرب الليبي وجنوبه عضويًا بالجنوب التونسي من خلال جملة من العلاقات المتشابكة مثل القرابة والمصاهرة وغيرها من الروابط الاجتماعية المتينة، وقد تبين ذلك بشكل جلي إبان ثورة 17 من فبراير/شباط، حين فتح أهل تونس أبواب منازلهم لاستقبال الليبيين، لكن هناك من ينفخ في الأزمة الحاليّة بين البلدين لقطع أواصل العلاقات بينهما.
في حال استمرت هذه الأزمة ستخسر تونس، خاصة منطقة الجنوب، فرص عمل كثيرة في ليبيا ما سيؤثر على الاقتصاد التونسي وعلى السلم الاجتماعي في الجنوب، فدائمًا ما تؤثر الاضطرابات التي تعرفها ليبيا على تونس، فما بالك إن قُطعت العلاقات بينهما.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: