من طقوس الانقلابات العربية أنّ صاحب الانقلاب وجماعته لا يسمونه انقلابا بل إنهم يستميتون في نفي هذه الصفة عنه لأنهم يعلمون أنه لا يمكن أن يكون إلا كذلك وهو الأمر الذي ينسحب على ما حدث في تونس مؤخرا. لن نناقش هنا طبيعة الانقلاب ولا مجموع الإجراءات الانقلابية التي قام بها من انقلاب على الدستور وتجميد للبرلمان وعزل لرئيس الحكومة واحتكار السلطات الثلاث بيده والبدء في ترويع خصومه السياسيين دون أمر قضائي فهذا أمر منتظر. بل إن قائد الانقلاب نفسه قد صرّح مؤخرا بأن ما قام به ليس انقلابا فهو لم ينصب المشانق ولا أطلق الرصاص على شعبه وهذا فضل انقلابي عظيم على تونس وأهلها.
الاستبداد منطق لا يتغيّر
لا يمكن لكل من يخطط لانتزاع السلطة بالقوّة المادية العسكرية أو الأمنية أن يخرج عن النسق الذي تسير عليه الانقلابات، فهي وإن اختلفت في سياقها وحيثياتها وزمانها ومكانها إلا أنها تبقى محكومة بنفس الآليات والقوانين التي تشكل منطقها الخاص بها. لا يمكن إنجاح الانقلاب دون الاستعانة بالقوة المادية للدولة ونقصد بها القوات المسلحة سواء عبر إشراكها في السطو على السلطة أو عبر تحييدها ومنعها من إفشال المحاولة الانقلابية. فدون ضمان ولاء القوات المسلحة العسكرية والأمنية لا يمكن لأي انقلاب أن ينجح.
ثم إن الانقلاب فعلٌ يحدث من داخل النظام نفسه لا من خارجه فيكون المنقلب إلى آخر دقيقة قبل الانقلاب جزءا من النظام الذي يريد الانقلاب عليه. ففي حال الانقلابات العسكرية وهي المنوال الأكثر شيوعا يقوم جنرال أو عقيد أو وزير دفاع عسكري بعزل السلطة القائمة والحلول مكانها. كما يمكن أن يكون الانقلاب مدنيا وذلك بأن يزيح وزير من الوزراء منظومة السلطة القائمة ليقوم مقامها مثلما فعل بن علي حين أزاح الرئيس المريض بورقيبة في 1987 وقد كان يشغل خطة رئيس الوزراء. منوالات أخرى كثيرة للانقلابات في البلاد العربية مثل الانقلاب على الانقلاب وهو المنوال الذي رأيناه في حالة عبد الناصر حين انقلب على الرئيس محمد نجيب أو انقلاب حافظ الأسد على صلاح جديد في سوريا سنة 1970.
إنّ ما حدث في تونس يوم 25 تموز (يوليو) المنقضي لا يخرج عن هذا المنوال فهو انقلاب على الثورة والمسار الديمقراطي من داخل النظام نفسه لكنّه ككل انقلاب يحتفظ بخصائص سياقية تميزه عن بقية الانقلابات. لقد سعى الانقلابيون إلى وصف ما قاموا به بالحركة التصحيحية وهو نفس المعجم الذي استعمله البعثيون لوصف انقلاب حافظ الأسد في سوريا.
شيطنة الخصوم
شيطنة الخصوم وصناعة الأعداء وتشويه الآخر مرحلة أساسية من مراحل تفعيل الانقلاب بل يتطلّب الأمر أحيانا صناعة عدوّ وهمي لإيهام الشعب بأن معركة ما تدور رحاها في مكان ما من الوطن. إن أهمية هذه المرحلة إنما تظهر في قدرتها على تحقيق هدفين أساسيين: أما الأول فيتمثل في جعل الشعب منخرطا في معركة وهمية يقودها الرئيس الانقلابي من أجل التغيير طبعا ومن أجل الإصلاح والقضاء على الخونة والعملاء والفاسدين وأعداء الوطن. أما الهدف الثاني فيتمثل في التمهيد لعمليات الاعتقال والسجن والإيقافات التي ستشمل كل من تسوّل له نفسه الاعتراض على المشروع الانقلابي.
هذا ما أقدم عليه رئيس تونس حتى قبل الانقلاب وحافظ على نفس الخطاب في تصريحاته الأخيرة عندما وصف خصومه السياسيين وكل من يخالفه بأنهم فاسدون وأنهم "جراثيم وفيروسات" يجب التخلص منها في "مكبّ النفايات". فتح الرئيس بذلك جبهة المواجهة الجديدة دون أن يحدد العدوّ بدقّة فكل الخطابات التي ألقاها خطابات غامضة تستهدف عدوّا غامضا وهو أمر مقصود لأنه يخشى أن يتورّط في ذكر الطرف الذي يتهمه بالفساد وبأنه جرثومة أو فيروس.
نجح الرئيس كذلك في تقسيم التونسيين إلى "الصادقين الوطنيين" كما يسميهم هو وهم أنصاره وتنسيقياته و"الخونة والعملاء من أعداء تونس" الذين هم خصومه السياسيون وكل من لا يتفق مع رؤيته للمجتمع والسياسة. هنا تكمن أخطر جرائم الانقلاب لأنها تفتح الباب على الحرب الأهلية وعلى الاقتتال الداخلي خاصة بعد أن ألغى الرئيس كل الأطر القانونية وأسقط النظام القانوني للدولة بعد أن جمّع كل السلطات بين يديه فأصدر أحكامه بالإقامة الجبرية على عدد من النوّاب واقتحمت قوات الشرطة عددا من بيوت آخرين دون تفويض قانوني.
أكذوبة "الشعب يريد"
رفع الرئيس منذ حملته الانتخابية شعار الثورة "الشعب يريد" وهو ما أوهم كثيرين بأنه ابن الثورة ومدافع عن شعاراتها رغم أن ماضيه يخلو من أي نشاط سياسي أو معارضة لمنظومة الاستبداد التي كانت قائمة. بل إن وثائق كثيرة أثبتت أنه كان يسبح في فلك النظام عبر المحاضرات التي كان يُلقيها لتلميع صورة بن علي وتنقيحاته الدستورية.
بل إنّ الأمر صار أخطر من ذلك فمفهوم الشعب مفهوم زئبقي لا يحيل على مرجع ثابت فالشعب هو كل المواطنين بما فيهم الرئيس نفسه وهي الخاصية التي تسمح له بتوظيف المصطلح بشكل واسع. اعتمد الرئيس والمنظومة الدافعة له على نتائج الدور الثاني من الانتخابات، حيث فاز فوزا ساحقا على منافسه نبيل القروي بعد أن دبرت غرفة الانقلاب خطة جهنمية لكي يبلغ الدور الثاني مع أضعف المرشحين وأقلهم حظا في الفوز بالرئاسة.
ظهرت شعبوية الرئيس باكرا في تصرفاته وفي محاولته الظهور بمظهر نصير الفقراء والمساكين خاصة فيما يتعلق بحربه المزعومة على الفساد. لكن الرجل لم ينجح في إيقاف فاسد واحد من بارونات الفساد الذين يعرفهم التونسيون بالاسم، فالجميع في تونس يدرك أنّ الرئيس لا يستطيع ولن يستطيع الاقتراب من أوكار الفساد الحقيقية لأنها قادرة على الإطاحة به إن هي أحست بتهديد مصالحها.
الحرب على الفساد مثل الحرب على الإرهاب ليست سوى شماعة من أجل تبرير الانقلاب وتبرير جرائم الانقلاب، فكيف يُمكن لرئيس أوصله النظام السياسي إلى سدّة السلطة أن يعمل على نسف السُلّم الذي أوصله إلى حيث هو؟ كيف يمكن لرئيس مؤمّن على الوحدة الوطنية أن يزرع بذور الفتنة بين مكونات الشعب؟
لن يستطيع الانقلاب النجاح في مغامرته الخطيرة مهما فعل لأن سياق الانقلابات العربية قد انقضى واستنفد شروط تحقيقه التاريخية. أما ما حدث في تونس فليس سوى تجربة جديدة في مسار البناء الديمقراطي الشائك علّ النخب التونسية تُدرك خطورة صراعاتها العبثية وتستفيق من سكرة السلطة ووهم الزعامة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: