نكتب واثقين من قدرة الديمقراطية على الصمود في وجه الفاشية والانقلابية، حتى أننا نسمع قائد الانقلاب ينوح طربا "دلن دلن دلوني يا خلق الله دلوني"، لكن لن نغادر مواقع الحذر المتوجس، فالانقلابات في تاريخ العرب تتناسل من بعضها وهناك دوما انقلاب يخفي آخر خلفه. وغالبا يكون الانقلاب الأول سخيفا وتافها مثل عدلي منصور.
ونرى هشاشة انقلاب 25 تموز/ يوليو (ها نحن لم نسمه انقلاب الرئيس المنتخب على المسار الذي جعل منه رئيسا)، لقد تحرك المجتمع المدني بوسائل الديمقراطية ليعلن وقوفه ضد المساس بالحريات وبالقانون، وظهرت المحاماة التونسية يوم الثاني من آب/ غسطس معافاة في مواقعها التاريخية لتحمي المحكمة والقضاء، ونتوقع مزيدا من الانتباه بقدر ما نلاحظ تردد الانقلاب في حسم المسائل التي أعلن التصدي لها وبنى عليها شرعيته المهزوزة حتى اللحظة.
المعركة ليست بين قيس والغنوشي
ظاهر القول الذي تشتغل عليه ماكينة إعلام الرئيس هو حصر الخلاف السياسي في المرحلة بين رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية، وهذا للإيهام بأن أزمة ما قبل 25 تموز/ يوليو قد خلقها حزب النهضة الذي سيطر على الدولة. لكن انسحاب رئيس البرلمان من اعتصام البرلمان في اليوم الثاني للانقلاب كشف أن المعركة في مكان آخر، وليست معركة بين شخصين مختلفين حول إدارة الدولة.
هذا التصحيح للصورة حدث بسرعة، فانكشف أن معارضي الانقلاب ليسوا أنصار رئيس البرلمان أو حزب النهضة وحده، بل هي معركة حرية ضد دكتاتورية تطل برأسها من وراء خطاب تصحيح المسار أو معالجة أزمة اقتصادية وصحية لا يمكن إنكارها، ولكن لم يمكن قبول رؤية الرئيس في إصلاحها ولم يسلم له بصواب الرؤية ولا بالأسلوب.
هنا وجدنا المجتمع المدني ومنظماته وشخصياته تفتح الطريق لنفسها ضد الانقلاب، وتعلن تموقعها في صف الديمقراطية. في الأيام الخمسة الأولى أطلت النخبة الاستئصالية القديمة تزغرد لتصفية حزب النهضة ولو دون برنامج حكم بديل، لكن انكشف بسرعة أن هناك نخبة أخرى غير مشغولة بهذه المعركة الاستئصالية، بل تضع كل همها في حماية الحريات والمؤسسات المنتخبة، وتعلن بقوة إيمانها بأن وجود الأزمة الاقتصادية لا يؤدي بالضرورة إلى إلغاء المؤسسات. بل إن الحل يأتي من هذه المؤسسات نفسها وبواساطتها، مثل ما يجري في كل الديمقراطيات العريقة. نخبتان وموقفان نرى الاستئصالي منهما يتراجع ويخفت صوته؛ لأن الرئيس لم يذهب بسرعة إلى تحقيق رغبتهم من انقلابه.
هو فرز يجري وبسرعة تفوق سرعة الانقلاب في تحقيق شعاراته. ونعتقد أنه بقدر تردده ستتقدم النخبة الديمقراطية في اتجاه حماية المكتسبات الديمقراطية وإلزام الاستئصاليين بالوقوف عن حدود أحلامهم التي لم يغيروها منذ نصف قرن، وقد ركبوا إليها كل مركب فلم تكن إلا أضغاثا.
لتتضح الصورة إذن أن المعركة ليست بين الرئيس وحزب النهضة، فهي في الأصل وفي النهاية معركة الانقلابية الاستئصالية المشبعة بالفاشية ضد الديمقراطية، ولنحلل على هذا الأساس.
حيرة الانقلاب تتأكد
تواريخ الانقلابات في البلدان العربية علمتنا أن الساعات والأيام الأولى تكون حاسمة لتمكين المنقلبين من مفاصل السلطة عبر الصدمة والترويع. في اليوم التاسع للانقلاب لم يظهر للناس المتوجسين والآملين جميعهم أن للانقلاب خطة عمل تنفيذية يمر بها إلى السيطرة والتوجيه السياسي. فباستثناء آلة إعلامية نشطة ووقحة تجيش للرئيس وتهين خصومه بلا شرف صحفي، لم نر رئيس حكومة يكلف للخروج بحكومة في أجل الشهر المتاح، بل لم تبلغنا إلا أخبار الهاربين من تحمل المسؤولية المرمية على قارعة الطريق. تأجيل الحلول لا يخدم الانقلاب بل يخدم معارضيه، وكل يوم يمر يجعل الانقلاب أقرب إلى الرغبة المرضية لقائده وينتهي به في زاوية الفشل.
لقد كان عنوان الانقلاب إصلاح سريع للأزمة الاقتصادية والصحية، والضرب على يد الفساد بيد من حديد. وعلامة النجاعة والفعالية هي الإعلان عن المسؤول الأول ولو تأخر في الإنجاز أياما. لم نعرف هذا المكلف بعد، ولكن بدأ الضرب في مكان آخر، ولم يضار الفاسدون أو يشوش على عملهم، واتجه الرئيس إلى خصوم سياسيين هم الأفقر ماديا على الساحة والأبعد عن الفساد لأنهم ببساطة يعيشون خارج الدوائر الاقتصادية التي يمكنها أن تفسد وتنشر الفساد.
ولأن الضربة غير مسنودة بحجة من قانون، فقد كشفت أنها تغطية على المعركة المستحيلة على الرئيس. يمكننا القول حتى الآن أن الفساد الذي كان أقوى من كل الحكومات السابقة؛ سيكون أقوى من الرئيس ومن رغباته الغريزية في الإصلاح.
الفشل في هذا الباب سيجعل المتحمسين للانقلاب من غير الاستئصاليين ينفضّون من حوله، وستنتشر تلك الجملة اليائسة "حتى الرئيس لم يقدر على الفساد". وهذا محبط في ظاهره، لكنه كاشف لأمر هام ستبنى عليه المواقف السياسية لاحقا. الفساد لا يقاوم برغبة شخص ولا بيد حزب؛ مقاومة الفساد معركة وطنية إذا لم تجيّش لها كل القوى فإن الفساد ينتصر. لقد كانت هذه الحقيقة واضحة منذ اليوم الأول للثورة، ولكن الفساد أفلح في تمويه المعركة والانقلاب يكشفها من جديد وهذه هي الحسنة الوحيدة. إن فشله نجاح في مسار سيحتاج العودة إلى سكته.. الفشل المبشر بضرورة العودة ورقة بيد معارضي الانقلاب الذين يحتاجون إلى التكاتف والعمل المشترك.
ضرورة بناء جبهة سياسية ضد الانقلاب
المؤمنون بالمؤسسات وبالديمقراطية يقفون موضوعيا في صف واحد مع حزب النهضة، ويختلفون معه في غير هذا الأمر، وهذه وقائع لا تزال تحجب الحاجة إلى الوقوف صفا واحدا ضد الانقلابية. يفترض أن هناك درسا قدمته تجربة مواجهة دكتاتورية ابن علي عندما حاربه الناس فرادى، فانتصر. وهناك تطابق في رغبات الانقلابيين عامة في أن يجدوا خصومهم شتاتا، فينتصرون. وهذا الدرس ماثل للعيان الآن، وإذا لم يفلح معارضو الانقلاب في تجاوز خلافاتهم فإن ثغرة دفرسوار ستفتح ليمر منها الانقلابي الاستئصالي إلى تنفيذ الأجندة الاستئصالية التي تقف خلفه، ويظهر براءته منها نفاقا لا حقيقة.
هل يتوافق الديمقراطيون مع الإسلاميين على أجندة سريعة لاستعادة المسار السياسي والدستوري؟ هذه ليست أُمنية، بل ضرورة للمرحلة. والسرعة كفيلة بتحقيق نتائج ميدانية على غرار حركة المحامين يوم الثاني من آب/ أغسطس، التي انتهت بإطلاق سراح نواب ائتلاف الكرامة في الوقت والساعة.
هناك مؤشرات على أن كل هؤلاء ينظرون في اتجاه واحد، وان لم تكن مناكبهم متراصة، وهم يعطون أملا لكل ديمقراطي في أن مسار الانقلاب سيقطع سريعا ويعود قطار الديمقراطية إلى سكته.
هل يغلق قوس سعيد قريبا؟ لم يقدم الانقلاب حتى الآن مكاسب سريعة تؤسس لخطاب أنصاره. ما زال الوقت مبكرا للخروج بخلاصات ثابتة، ولكن يبدو أن حيرة الانقلاب أمام المعضلات لا تسمح له بالاستباق.. إنه يلاحق عجزه كأنه مصاب بكورونا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: