عقب إجراءاته الانقلابية الأخيرة التي استهدفت البرلمان والحكومة، تعهد الرئيس التونسي بمكافحة الفساد ووضع حد له، كما أكدت جهات مقربة منه تعهده أيضًا بمحاربة الأحزاب التي وصلت مجلس نواب الشعب في الانتخابات الأخيرة عبر التزوير أو تلقي أموال أجنبية، لكن هل الرئيس سعيد بمنأى عن ذلك؟ وهل وصل قصر قرطاج بسيجارة وكأس من القهوة كما يقول بعض أنصاره؟
معروف بنزاهته لكن..
خلال حملته الانتخابية سنة 2019، لم يكلف قيس سعيد نفسه بتنظيم مؤتمرات شعبية كبيرة ولا حتى مؤتمرات صحفية للتعريف ببرنامجه، حتى إنه لم يفتح مكاتب جهوية ومحلية لترتيب الحملة، واكتفى ببعض المنسقين المتطوعين - كما يُزعم - لحث الناس على انتخابه.
كان قيس سعيد حينها، يتجول بمفرده بين الشباب في المقاهي والشوارع والساحات العامة للحديث مع التونسيين خاصة الشباب منهم، كما قلنا دون تنسيق في الميدان، وهذا الظاهر طبعًا، لكن تبين فيما بعد أن هناك تنسيقًا كبيرًا بين أفراد الحملة.
هذا التنسيق ظهر في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تشكلت مجموعات مغلقة وأخرى مفتوحة للعلن وصفحات تضم مئات الآلاف بشكل فاجأ الجميع، فكيف لشخص حديث العهد على السياسة لا ثقل له على الساحة ولا قوى تدعمه - ظاهريًا - أن يشكل كل تلك الصفحات والمجموعات.
الأمر أثار الريبة، لكن أحدًا لم يتتبعه، فالرئيس قيس سعيد البالغ من العمر 61 عامًا، وعرفه التونسيون بتقاسيم وجهه الثابتة التي لا تنطوي على أي تعبيرات عاطفية ولباقته وفصاحته وأسلوبه الأكاديمي، معروف بنزاهته.
صفحات مشبوهة
بالرجوع إلى فترة الانتخابات الرئاسية، نلاحظ أن قيس سعيد اعتمد على عشرات الصفحات في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، صفحات تضم ملايين التونسيين، أغلبها تدار من دول أجنبية لكن أصحابها مجهولون، وكان معظمها تحت مسمى "الشعب يريد" و"أنصار قيس سعيد".
كان سعيد يشدد على أنه لا يملك أي حساب شخصي على موقع التواصل الاجتماعي، لكن تجمعت حوله عشرات الصفحات تحمل اسمه وصورته وبعض مقولاته، ومقولات أخرى تُنسب إليه تتعلق بالقضايا المهمة في تونس مثل السيادة والثروات والقرار الوطني والعدل الاجتماعي والعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية والحقوق العامة والخاصة.
وفقًا لتقرير محكمة المحاسبات بشأن رقابة الحملات الانتخابية في انتخابات 2019 وبالخصوص الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها، توجد 30 صفحة غير رسمية لفائدة حملة قيس سعيد بها 3.045.566 مشترك، تضم 120 مشرفًا (85 من تونس و24 من فرنسا و2 من الولايات المتحدة).
هذه الصفحات يقول قيس سعيد وجماعته إنها مساعدة جاءت من محبي سعيد لدعمه في الانتخابات حتى يصل لقصر قرطاج في ظل تباين موازين القوى المالية بينه وبين باقي المرشحين، لكن هذا الطرح يبدو مجانبًا للصواب، فكيف تتأسس هذه الصفحات في وقت قياسي وتجمع ذلك العدد المهم من الأنصار دون تنسيق أو تمويل كبير؟
تمويل أجنبي
بعد أشهر من فوز سعيد بالرئاسة، تمت الإجابة عن هذا السؤال، إذ قال المدير التنفيذي لحزب ''الشعب يريد'' نجد الخلفاوي، في تصريح لوسائل إعلام تونسية، إن دولة أجنبية مؤثرة دعمت حملة قيس سعيد في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الماضية.
وأكد الخلفاوي ''لولا هذا الدعم لما كان قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية''، مؤكدًا أن حزبه يملك جميع الأدلة على هذه الاتهامات، وأضاف أن أحد أفراد حملة قيس سعيد اتصل بممثل تلك الدولة وتم تنظيم لقاء بينه وبين قيس سعيد في 19 من أغسطس/آب 2019 بتونس وكان هذا اللقاء موثقًا.
أشار الخلفاوي إلى أن اتصالات عديدة جمعت ممثل هذه الدولة بقيس سعيد والعديد من الأشخاص من الدائرة الضيقة للرئيس، وفق قوله، وأعلنت الهيئة التأسيسية للحزب فيما بعد أن هيئة قانونية تابعة لها قدمت تقريرًا مفصلًا لمحكمة المحاسبات (المحكمة المكلفة بمراقبة حسن التصرف في المال العام) في هذا الشأن.
كما اتهم النائب المستقل في البرلمان التونسي راشد الخياري، في فيديو مباشر على الفيسبوك، الرئيس قيس سعيد بتلقي تمويلات من ضابط مخابرات أمريكية يعمل بسفارة بلاده بباريس خلال الحملة الانتخابية الرئاسية بمبلغ يناهز الـ5 ملايين دولار.
كما سبق أن كشف رئيس كتلة حزب قلب تونس أسامة الخليفي، أن قيمة الصفحات الممولة على مواقع التواصل الاجتماعي التي قامت بالإشهار لفائدة حملة الرئيس قيس سعيد خلال الانتخابات الرئاسية 2019 بلغت 40 مليون دينار.
ماذا يقول القانون التونسي؟
مؤخرًا، فتح القضاء التونسي تحقيقًا في اتهامات عن حصول أحزاب رئيسية على تمويل أجنبي قبل الانتخابات التشريعية التي جرت عام 2019، وفق ما أفاد مكتب المدعي العام لكن التمويلات التي أكدت العديد من الأطراف حصول سعيد عليها لم يفتح حولها أي تحقيق بعد.
ويعتبر القانون الانتخابي التونسي تلقي أو البحث عن دعم أجنبي جريمة انتخابية يعاقب عليها القانون، ويجبر الأحزاب والجمعيات على كشف حساباتها المالية ومصادر تمويلها، ويمكن لهيئة الانتخابات في حال ثبوت التهمة إسقاط المرشح المُدان لخرقه القانون الانتخابي.
ويمنع القانون الانتخابي التونسي أيضًا استخدام الصفحات الفيسبوكية الممولة (أي التي يتم دفع أموال لشركة فيسبوك حتى تمكنهم من الدعاية الانتخابية والوصول إلى أكبر عدد من التونسيين للتأثير عليهم في عملية التصويت)، باعتبار أن هذه الممارسة تدخل في إطار التمويل الأجنبي الذي يمنعه القانون الانتخابي التونسي.
وكانت محكمة المحاسبات قد أعلنت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، رصدها العديد من الإخلالات التي شابت الحسابات المالية للمترشحين وشرعية الموارد ومجالات إنفاقها وعدم الإفصاح عن مصادر التمويل واستعمال مال مشبوه غير مصرح به خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019، وعدم احترام أحكام مرسوم الأحزاب.
بناء على ذلك، تعهدت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس، بالنظر في ملف تمويل الحملات الانتخابية التي من بينها حملة الرئيس سعيد، وكلفت النيابة العمومية في أبريل/نيسان الماضي وحدة أمنية مختصة بالبحث في تمويل الحملات الانتخابية لإمكانية وجود مخالفات انتخابية.
لكن من الواضح أن قيس سعيد أو لنقل داعميه اعتمدوا شراء أو استئجار بعض الصفحات للدعاية لسعيد وسب خصومه، من دون أن تكون له أي علاقة قانونية بهذه الصفحات حتى لا يتم إثبات العلاقة القانونية بينهما ومعاقبته.
يعتبر فيسبوك واحدًا من العوامل المؤثرة في اختيارات الناخبين، إذ تفيد مكاتب مختصة أن عدد الحسابات الفيسبوكية في هذا البلد العربي يتجاوز الـ7 ملايين حساب في بلد يبلغ عدد الناخبين فيه 7.08 ملايين ناخب من مجموع عدد سكان يبلغ 11.5 مليون شخص، لذلك اعتمد عليه قيس سعيد في حملته الانتخابية.
الأمر يتكرر
الغريب أن ما حصل خلال الانتخابات، تكرر مؤخرًا، إذ تم فتح مجموعات مغلقة وأخرى مفتوحة على موقع فيسبوك وأيضًا صفحات فيسبوك للترويج لتحركات 25 من يوليو/تموز الحاليّ، الاحتجاجية والمناهضة للحكومة والبرلمان.
هذه المجموعات والصفحات، تمكنت من جمع أعداد كبيرة من الناشطين على موقع فيسبوك في وقت وجيز يصعب لأي طرف القيام به في الوقت الحاليّ إن لم يكن لديه دعم مادي كبير من الداخل والخارج، فالأمر يتطلب جهدًا خرافيًا لا يستقيم معه العمل التطوعي.
يعمل قيس سعيد، من خلال الفيسبوك، على توجيه الرأي العام لمساندته، فهو يعرف تأثير الفيسبوك على التونسيين، كما أنه يعلم أيضًا صعوبة محاسبته على تلقي أموال لدعم هذه الصفحات، فإن حضرت التهمة فالجواب جاهز "لا صلة لي بهذه الصفحات".
عرف قيس سعيد كيف يصل الرئاسة وينقلب على الدستور وعرف جماعته وداعميه من الخارج والداخل كيف ينظفون وراءه ولا يتركون المسألة للصدفة، فعملهم احترافي وهو ما يثير مخاوف العديد من التونسيين الذين ذاقوا طعم الحرية لسنوات ويخشون خسارتها الآن.
مع ذلك، من الضروري فتح تحقيق جدي في التهم الموجهة ضد قيس سعيد، فالسكوت عنها سيؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الرئيس التونسي طوع أجهزة الدولة التونسية لخدمة مشروعه الفردي الاستبدادي الذي سينهي تجربة الانتقال الديمقراطي في هذا البلد العربي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: