أ.د. علي عثمان شحاته - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1136
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إن تحقيق السعادة غاية يسعى إليها كل الناس، ومع ذلك لا يحصل عليها إلا القليل؛ لأن المكدرات كثيرة، والحياة شديدة التقلب، وحالات الناس فيها مختلفة ومتنوعة بتنوع العطايا والابتلاءات؛ مما يجعل السعادة الحقيقية بعيدة المنال.
وقد سألت نفسي كيف يحقق الإنسان السعادة في الدنيا؟ وهل يمكن أن تكون دائمة أم تمنعها وتقطعها لحظات الحزن والألم؟
ورحت أبحث لهذا السؤال عن جواب، فوجدت أن إجابة كل إنسان ستكون حسب حاله؛ فمن حُرم نعمة يسعد إذا حصَّلها؛ ثم يتطلع إلى غيرها وهكذا، في مسار دائم ومستمر باستمرار الحياة..
إذن وبالمقاييس المادية لا توجد سعادة دائمة ولا حزن دائم. والتجارب والواقع يشهد بذلك، وإذا كُنْتَ غير مقتنع بهذا، فسأعيد عليك السؤال بشكل آخر، فأقول لك: حدد بدقة لحظات السعادة والألم فيما مضى من عمرك. فستجدها محطات معروفة ومحفوظة ومتنوعة. والنتيجة نفسها مرة أخرى أنه لا سعادة دائمة ولا حزن دائم.
ومما يدعم ذلك أيضا اختلاف معايير السعادة من شخص لآخر، وإن تركزت معظمها – عند الكثيرين- في المظاهر المادية ومتع الحياة؛ وهذا أمر واقع؛ فقد طرحت "بوابه الوفد المصرية" سؤالا على المواطنين في الشارع المصري، ما الذي يجعلك سعيدًا؟ وجاءت آراء بعض المواطنين على أن مفهوم السعادة من وجهه نظرهم تكمن في العلاقات الاجتماعية: العائلة، والأصحاب، والأولاد، والابتسامة، والمال، والطعام. انظر موقع بوابة الوفد بتصرف يسير: 20/3 /2013م.
وإذا كانت السعادة في متع الحياة وحدها، فلا شك أن نطاقها إذن ضيق وزمنها محدود، وهذه هي الحقيقة التي أكد عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: "قُلۡ مَتَـٰعُ ٱلدُّنۡیَا قَلِیلࣱ" النساء من الآية: 77.
فهل تتفق معايير السعادة عند كثير من الناس مع المعايير الحقيقية لها؟
إن الميزان الحقيقي لذلك ينبغي أن يحدد من خلال ما أخبر به الله سبحانه وتعالى في كتابه؛ أو أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى هو الأعلم بعبادة، وحين يرشدهم إلى مواطن السعادة الحقيقية فسيكون هذا هو المعيار الحقيقي لها.
وبالبحث في آيات القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن مسببات الفرح والسعادة، وعن الميزان الحقيقي لها وجدتُ في القرآن الكريم ذكرَ الفرح في مواطن ذم كثيرة، منها:
- الإشارة إلى فرح قارون حين آتاه الله المال، فقابل العطاء بالجحود والطغيان والكبر، قال تعالى: "وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَاۤ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوۤأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُو۟لِی ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَرِحِینَ" سورة القصص من الآية: 76.
- وكذلك من عارض الرسل من المكذبين الضالين، فرحوا بما عندهم من العلم الزائف، والباطل الذي خالفوا به ما جاءت به الرسل، قال تعالى: "فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ" سورة غافر من الآية: 83.
- ومن بعدوا عن طريق الهداية ونسوا ما ذكّروا به، فتح الله عليهم أبواب كل شيء من متع الحياة ففرحوا فرح بطر واستكبار فأخذهم الله تعالى بغتة، قال تعالى: "فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِمۡ أَبۡوَ ٰبَ كُلِّ شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ إِذَا فَرِحُوا۟ بِمَاۤ أُوتُوۤا۟ أَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ" سورة الأنعام الآية: 44.
- ثم أشار القرآن الكريم إلى بعض مسببات السعادة الحقيقية، حيث ذكر مثالا للفرح الذي يُحْمَدُ لصاحبه، وذلك عندما يفوز برضا الله تعالى ورحمته، قال تعالى: "قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِ فَبِذَ ٰلِكَ فَلۡیَفۡرَحُوا۟ هُوَ خَیۡرࣱ مِّمَّا یَجۡمَعُونَ" سورة يونس: 58.
- وحين يفوز الشهداء في سبيل الله ويطالعوا منزلتهم عند ربهم، قال تعالى: " وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرۡزَقُونَ فَرِحِینَ بِمَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِ" آل عمران:169، 170.
- وقد كشفت الآيات التالية من سورة هود حال الإنسان وتصرفه حيال مسببات الحزن والفرح معا، وكيفية النجاة في الحالتين وطريق ذلك، قال تعالى: "وَلَىِٕنۡ أَذَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنَّا رَحۡمَةࣰ ثُمَّ نَزَعۡنَـٰهَا مِنۡهُ إِنَّهُۥ لَیَـُٔوسࣱ كَفُورࣱ وَلَىِٕنۡ أَذَقۡنَـٰهُ نَعۡمَاۤءَ بَعۡدَ ضَرَّاۤءَ مَسَّتۡهُ لَیَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّیِّـَٔاتُ عَنِّیۤ إِنَّهُۥ لَفَرِحࣱ فَخُورٌ إِلَّا ٱلَّذِینَ صَبَرُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَأَجۡرࣱ كَبِیرࣱ" هود ٩-١١.
إذن فالسعادة والحزن من طبيعة الحياة، والمهم للإنسان عند تحصيل أسباب السعادة أن يتذكر المنعم سبحانه وتعالى، وألا تبطره النعم؛ أو يدفعه الغرور والكبر إلى استخدام النعمة فيما لا يُرضِي عنه خالقه سبحانه، لأنه عندئذ فقط سيفقد السعادة الحقيقية.
وكذلك عند ساعات الحزن والابتلاء لا يجزع ولا يقنط من رحمة الله، بل عليه أن يأخذ بأسباب النجاة دائما، وأن يسأل الله تعالى تفريج الكرب وإزالة الهم. عندئذ فقط سينجو من إحباط لحظات الحزن والألم.
ولا شك أن لا شيء يعين على ذلك إلا الإيمان والتقوى والعمل الصالح؛ لأن الإيمان بالله تعالى هو الذي يحمل صاحبه على الرضى بقضائه؛ فيحمد عند العطاء، ويصبر عند المنع أو البلاء، ويعلم أن العطاء والمنع من الله، وأن السعادة الكاملة الدائمة ليست في هذه الحياة الدنيا، إلا إذا كانت طريقا للسعادة الحقيقية الموصولة بمعرفة الخالق سبحانه وتعالى واتباع أمره واجتناب نهيه.
فبالإيمان يزداد إحساس الإنسان بالنعم، وتكبر في عينه مهما كانت - في أعين البعض- صغيرة؛ ومن ثم يسعد بأقل القليل، ويقنع بما آتاه الله، ولا يحزن على ما فاته منها؛ لأنه يؤمن بقول رسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم آمِنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" رواه البخاري.
وبالإيمان يعيش الإنسان لغاية أسمى، يسعد بها حتى بعد موته، ويؤجر عليها وهو من أهل القبور، قال صل الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم.
إنها غايات كلها تستحق أن يسعى الإنسان لها، ويسعد إذا وُفق في تحصيلها، ومن هنا فالسعادة بابها معروف، والمؤمن في كل الحالات مأجور؛ وهذا ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له" صحيح مسلم.
وليس معنى أن السعادة عملة نادرة أو كنز مفقود، أن يعيش الإنسان كئيبا حزينا لا يبتسم أو يفرح، فقد قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لحنظلة: " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ إنْ لو تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي، وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" صحيح مسلم، وقال أيضا: ".. إنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا.." صحيح البخاري.
فالنفوس تمل وتحتاج إلى ما يجدد نشاطها مرة بعد مرة، وهذا من رحمة الله بنا، ولكن من الجيد أن تكون لحظات إعادة النشاط هذه في إطار المباح؛ وإلا انقلبت خسارة على صاحبها، وكانت من بين أسباب حرمانه من السعادة الحقيقية، التي اتفقنا أنها لا تكون إلا في الإيمان واليقين والرضا.
جعلنا الله وإياكم من السعداء، الفائزين برضوان الله تعالى، الفرحين بما آتاهم من فضله
والحمد لله رب العالمين
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: