أكثر من 8 سنوات على بدء التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء بحجة محاربة الإرهاب والقضاء على دوامة العنف هناك، لكن نشاط الجماعات المسلحة تزايد، ما طرح تساؤلات عديدة عن كفاءة الجيش الفرنسي وأيضًا عن أهداف باريس الحقيقية في المنطقة.
بداية التدخل العسكري
بداية يناير/كانون الثاني 2013، بدأت فرنسا أكبر عملية عسكرية لها في الخارج منذ عقود عدة، مباشرة إثر سقوط شمال مالي في قبضة مجموعات مسلحة مرتبطة بتنظيم القاعدة (حركتا التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا) وأخرى منشقة عنها (الملثمون بقيادة مختار بلمختار) وأخرى تابعة للطوارق (حركة أنصار الدين والحركة الوطنية لتحرير أزواد).
وشرعت فرنسا تدخلها، بطلب الحكومة المالية استعادة سلطتها في منطقة شبه صحراوية مترامية، كما اتكأت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2085 الصادر في 20 من ديسمبر/كانون الأول 2012، الذي يسمح بإنشاء قوة دولية لدعم مالي في حربها لاستعادة الشمال، هذا فضلًا عن مبررات أخرى من قبيل منع قيام كيان إرهابي في المنطقة يشكل تهديدًا للمنطقة والعالم بأسره.
في بداية عملية "سرفال" العسكرية، قالت باريس إنها ستكتفي بالدعم اللوجستي والاستخباراتي، ولن تنزل قوات برية للمشاركة مباشرة، لكن ثبت فيما بعد أنها دخلت الحرب بحراك عسكري يشمل القوات البرية والدعم الاستخباراتي واللوجستي والإسناد الجوي.
فضلًا عن ذلك، قررت فرنسا المشاركة في عملية "برخان" لمكافحة الإرهاب (حلت محل عملية سرفال) في منطقة الساحل بآلاف الجنود، وتزويدهم بمروحيات عسكرية ومركبات لوجستية وعربات مدرعة وطائرات نقل وطائرات محاربة وطائرات دون طيار.
نتيجة ذلك، اتخذت الحرب بعدًا إقليميًا مع التركيز على مثلت اللهيب (مالي والنيجر وبوركينا فاسو)، بررته مصالح فرنسا الإستراتيجية في الساحل الإفريقي والتهديدات التي تواجهها المنطقة، وعلى رأسها محاربة الإرهاب، ضمت هذه القوة 3500 عسكري فرنسي، موزعين على خمس قواعد متقدمة مؤقتة، وثلاث نقاط دعم دائمة ومواقع أخرى.
تنفق فرنسا ما يقارب 700 مليون يورو سنويًا على أنشطتها العسكرية والأمنية في منطقة الساحل، ودفعت مؤخرًا بنحو 600 جندي إلى المنطقة ليرتفع عدد جنودها إلى 4500 جندي يتمركزون أساسًا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وذلك ضمن إستراتيجية متعددة المعالم تشمل أبعادًا عسكرية وسياسية وأخرى تنموية.
فشل في القضاء على الإرهاب
كما قلنا في البداية فإن هدف فرنسا المعلن وراء تدخلها في مالي هو القضاء على الإرهاب وخطر الجماعات المسلحة على هذه المنطقة الحيوية، لكن مرت 8 سنوات على انتشار القوات الفرنسية في المنطقة، ومع ذلك الوضع الميداني على حاله، فشمال مالي لم يسترجع بعد، ومناطق بكاملها لا تزال خارجة عن سيطرة القوات المالية والأجنبية التي تتعرض بشكل متواصل لهجمات دامية.
انعدام الأمن هذا ينتشر ليس فقط في الشمال الذي أصبح غير خاضع للحكم، لكن أيضًا في وسط البلد المكتظ بالسكان، فالجيش المالي والقوات الفرنسية الداعمة له غير قادر إلى الآن على احتواء انتشار انعدام الأمن.
ليس هذا فحسب بل زادت قوة تلك الجماعات من خلال دفع ملايين الدولارات لها، مقابل الإفراج عن بعض الرهائن لديها، رغم تجريم الأمم المتحدة الفدية وحتى المقايضة بالإرهابيين والتنازلات السياسية وتأمين إطلاق سراح الرهائن.
دفع الفدية إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة، أدى إلى تعزيز مكاسب هذه التنظيمات بينها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، كما أعاد ضبط خريطة توزيع الحركات الإرهابية في إفريقيا بداية من مصر مرورًا بالتشاد والسودان وصولًا إلى مالي والنيجر، ورفع معنوياتهم وعزز قدراتهم، وبدل أن تطرد الإرهابيين والانفصاليين من شمال مالي، انتشرت التنظيمات الإرهابية في بلدان الساحل حتى وصلت إلى حدود كوت ديفوار، المطلة على المحيط الأطلسي.
ما يؤكد فشل باريس في القضاء على الإرهاب في باماكو، تزايد أعداد قتلى الجنود الفرنسيين هناك، حيث فقدت فرنسا أكثر من 40 جنديًا منذ بداية الحرب، وأدى هذا الأمر إلى نفاد صبر الفرنسيين من هذه العملية العسكرية.
وللمرة الأولى منذ بدء عملية سرفال في يناير/كانون الثاني 2013 التي حلت عملية برخان محلها في 2014، لم يعد نصف الفرنسيين (51 %) يدعمون هذا التدخل في مالي، وفق استطلاع لايفوب نشرت نتائجه مؤخرًا، مقابل 73% كانوا يدعمون العملية في فبراير/شباط 2013.
ثروات مالي
من المعروف أنه لا أحد يريد في الواقع أن ينضم إلى معركة تبدو كأنها مستنقع حقيقي، حيث لا يوجد حل حقيقي للخروج منتصرًا منها، لكن فرنسا أرادت ذلك رغم أنه لم يتم تدبير أي اعتداء على الأراضي الفرنسية من منطقة الساحل الصحراوية، فماذا وراء ذلك؟
برر المستعمر القديم، حربه في مالي بمكافحة الإرهاب، لكن الواقع عكس ذلك، ففرنسا حريصة على عدم فك الارتباط الإستراتيجي بمستعمراتها السابقة، خصوصًا أن الوجود العسكري والتحكم الأمني سيظل الوسيلة المثلى بالنسبة لفرنسا لإثبات وترسيخ هذا الإرث والتمكين له.
قدمت فرنسا الحرب في مالي على أنها حصن من المفترض أن يحمي أوروبا ضد الإرهاب، حتى تضمن الدعم الداخلي والخارجي، بغض النظر عن التكاليف والنتائج المترتبة على ذلك، وتسعى فرنسا من خلال بقائها في مالي إلى إثبات مكانتها كقوة عظمى ذات مكانة عالمية، فالتدخل في مالي جاء لحماية مصالح باريس في هذا البلد الإفريقي الغني بالنفط والثروات المعدنية، ومحاولة تعزيز الوجود الفرنسي في منطقة تعتبر تقليديًا مركز نفوذ خاص بفعل سابقة الوجود الاستعماري.
لم يكن دافع فرنسا محاربة الإرهاب كما قالت، بل السعي لاسترجاع نفوذها ومكانتها وهيمنتها السابقة على هذه المنطقة التي تعتبرها باريس منطقة نفوذ حيوي، باعتبارها مستعمرة سابقة لها لا يسمح لأحد غيرها بالسيطرة عليها.
وتعمل فرنسا جاهدة لوضع حد لجهود اللاعبين الجدد في القارة الإفريقية، سواء تعلق الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر شريكًا اقتصاديًا وأمنيًا لدول المنطقة أو الصين ذات الحضور الفعال لإفريقيا أو تركيا أو روسيا وغيرها من القوى الصاعدة التي تحاول ترسيخ أقدامها في إفريقيا.
خلال حضورها في هذا البلد الإفريقي، عملت فرنسا على استنزاف خيراته ونهب ثرواته والتحكم في اقتصاده الهش، خاصة أن باطن مالي يحمل ثروات نفطية وغازية ومعدنية كبيرة (الذهب والبوكسيت واليورانيوم والحديد والنحاس والليثيوم والمنغنيز والفوسفات والملح)، ويعتبر الذهب أهم المصادر المعدنية للاقتصاد المالي، إذ تعد ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا وغانا.
ليس هذا فحسب، ففرنسا تعمل أيضًا على استغلال أرض مالي لحماية استثماراتها الاقتصادية الكبرى في السنغال وبوركينافاسو وعموم دول المنطقة، فضلًا عن السيطرة على مواردها، فهذه الدولة تقع على مقربة من حقول النفط الجزائرية، وعلى مسافة قريبة أيضًا من أماكن التنقيب ذات المؤشرات الإيجابية في موريتانيا، وتجاور النيجر التي تحتل المرتبة الثالثة عالميًا في إنتاج اليورانيوم.
قدمت فرنسا الحرب في مالي على أنها حصن من المفترض أن يحمي أوروبا ضد الإرهاب، حتى تضمن الدعم الداخلي والخارجي، لكن تبين فيما بعد أن هدفها بعيد كل البعد عن محاربة الإرهاب، فهي تسعى إلى إطالة أمد الحرب هناك لتوسعة نفوذها والاستفادة من ثروات هذا البلد الإفريقي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: