أمل الهاني - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2376
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تندرج أطروحات فلسفة الجسد في إطار المستوى الحضاري والفكري والاجتماعي الحاضن لأسباب نشأته، ويعتبر التحديد الفلسفي لمفهوم الجسد مرآة للثقافة الاجتماعية والدينية المعاصرة له، وهو ما يؤكد على تطوّر هذا المفهوم بتطوّر الزمن وبمرور عجلة التاريخ، حيث رافقت هذه الإشكالية الحقبات التاريخية المتواترة بداية من الفلسفة اليونانية وحتى الفلسفة المعاصرة. ولربّما أوّل ما يعترض تساؤل الانسان هو ماهيّة الفرق بين الجسد والجسم باعتبار أن المفردتين تؤولان لنفس الشكل المرئي الذي عليه يكون المخلوق البشري، في هذا الصدد يقول رسول محمد رسول: "يمكن تعريف الجسم بأنّه شيء له شكل وثقل ولون وطعم وطول وعرض. أمّا الجسد فيمكن تعريفه بأنّه كينونة رمزية وإيحائية وإشارية وأيقونية تضاف إلى الأجسام من خلال تمثيل الإنسان لها، لتحقق وجودها المرئي الذي يمكن أن يكون هنا أو هناك، ما يعني أنّ الجسد لا يعدو أن يكون إلا قيمة مضافة إلى واقع الأجسام، وبالتالي إلى الواقع برمته، وبحسب قوة حضور الجسد فيه. لكن هذه الكينونة لم تأت وتضاف من العدم، ففي كل الأجسام ثمة شبكة متخفية من القوى التي تحث على ظهور الجسد، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يخرجها، وعلى نحو رائق، من دياجير الأجسام وظلماتها إلى أضواء وأصوات وأطياف الأجساد الرمزية والإيحائية والاشارية والأيقونية من خلال تمثيلات الإنسان لمثويات وكوامن ومحجوبات ومتواريات تلك الشبكة"(1).
إن هذا الجسد، مكمن التساؤل وحيرة الفلاسفة، قد أثبت على مرّ التاريخ أنّه سيّد الكون ومصدر الحياة وينبوع الاستمرار البشري، ومهما كانت الطروحات المختلفة والمتضاربة والمتشابهة في إتيان تعريف محدّد لمفهوم الجسد، يبقى هذا الأخير، اللغز الأبدي والحقيقي الملموس، ذو الأبعاد المادية والميتافيزيقية، مواكبا لكل عصر، مقتحما الفلسفي والسياسي والبيولوجي والديني.
منذ بدائيّته وحفره في الجبال والكهوف واصطياده فرائس البريّة، وحتى صعوده كواكب من الكون وخضوعه لسلطة التفوّق العلمي ومخابر التشريح وفرضيّات الاستنساخ والتجارة به عضويا وجنسيا، واستغلاله في الحروب واستعباده وانتهاكه وتعذيبه وإعدامه وسجنه وتحريره وتسويقه، وإخضاعه لأرقام القياسات العالميّة المقنّنة لاقتصاديات الرأسماليّة المتوحشة، وزجّه في سياسات قيادة القطيع وتدجينه في منظومة الطبقات العاملة المسحوقة. نتساءل عن سببيّة هذا الموجود الغامض – الواضح، هل هو نعمة الانسان أم نقمته؟ وهل يقودنا الجسد يوما إلى حتميّة الإجابة الشافية لكل تساؤلات ونظريّات الفلاسفة في حقيقة واحدة موحّدة تُنهي كل الفرضيّات السابقة واللاحقة؟
سنتطرّق في هذا البحث على ضروب من التعاريف والنظريّات المعالجة لمفهوم الجسد، في صفات مختلفة ومتباينة ومتشابهة بين التدنيس والتقديس والتحديد الموضوعي لماهيّة الجسد، من خلال تنظيرات بعض الفلاسفة ابتداءً من الحضارة اليونانية وحتى الفترة المعاصرة.
1. الجسد المدنّس في المفهوم الكلاسيكي
لقد كان لفلاسفة القرون الوسطى نظرة سلبية لمفهوم الجسد، حيث يعتبره سقراط مصدر عفن تسكنه روح طاهرة وأنّ هذه الروح خالدة لا تزول بزوال الجسد، بل تغادره بفنائه وموته، وهو ما جعله يكره جسده ويزدريه، بل لقد حاول التخلّص منه عن طريق تجنّب كل الشهوات والأهواء المرتبطة بالجسد وانعزل كليا عن ملذات الأكل والشرب واللبس، لقد كان يرنو إلى الموت هربا من الجسد ورغبة منه في إدراك جوهر الروح الخالصة ويعتقد بذلك أنّ الحياة مرتبطة بالجسد وهو الرذيلة، وأن الروح هي من روح الله، فهي لا نهائيّة وهي التي تبشّر بكل معاني الفضيلة والرقي حيث يقول أنّ: "الروح سيّد يأمر، لأنّها جوهر إلهي غير قابل للتحلل والفساد، والفساد عبد مطيع ومرصود للفناء"(2) ويقصد هنا بالفساد، الجسد الفاني.
ويقول سقراط أنّ: "الروح التي تحلُّ في الجسد تجلب له الحياة، ولا يمكن أن تحصل على نقيض صنيعها الذي هو الموت"(3). ويفسّر بذلك تحقيره لشيئيّة الجسد بأنّه فاني بدون الروح، بينما الروح مكان ما حلّت فإنّها تبثّ الحياة والوجود سواء في الجسد أو بعد فناءه. واتّبع أفلاطون أطروحات مُعلّمه سقراط فحقّر بدوره الجسد وحطّ من قيمته واعتبره أيضا حاملا للشهوات والحواس، أمّا الروح فهي التي تسمو إلى عالم المثل لبناء المعرفة والابتعاد عن كل ما هو حسّي: "ويؤكد أفلاطون على لسان سقراط "إنّ قضيتي الوحيدة هي أن أجوب الشوارع لإقناعكم جميعا شبابا كنتم أم شيوخا بألاّ تولعوا بالجسم ولعلّكم بالنفس سعيا إلى جعلها خيرا ما استطعتم"، فالاهتمام المفرط بالجسد أفلاطونيا يكدّر صفو التفكير إلى حد قول سقراط، ولكن النفس تفكّر أحسن ما يكون التفكير عندما لا يعكّر صفوها السمع ولا البصر ولا الألم ولا اللذة بل فقط لما تعتكف أشد ما يكون الاعتكاف متخلّصة من الجسد وقاطعة معه بحسب الإمكان كل معاشرة وكل اتّصال سعيا إلى إدراك الواقع..."(4) ويقول أيضا: "الجسم قبر النفس لأنّها مدفونة فيه."(5) ، بينما اعتبر أرسطو على عكس سقراط وعلى نهجه أفلاطون، أنّ الجسد والروح هما جوهرا الإنسان وأنّ وجوده لا يتحقّق إلا بوجود ثنائية الروح والجسد وليس الفصل بينهما على أساس التقديس الخالص للروح والتدنيس الكلّي للجسد.
لقد فضّل أفلاطون الروح التي ترمز للعقل على الجسد الذي يرمز للحسِّ، بينما ذهب أرسطو، وهو تلميذ لأفلاطون، إلى نظريّة مغايرة عن معلّمه، وهو الذي لم يقارن ثنائية الروح والجسد على أساس التدنيس والتقديس أو على أساس الترتيب العلوي والسفلي، بل إنّ الروح والجسد هما جوهرا الانسان ولا يعلو واحد عن آخر وأنّ الوجود الإنساني يتحقق بوجود هذا الثنائي معا بدون فصل أو إقصاء لأي منهما، لأنّ الانسان هو جمع من الروح والجسد: "أرى أنّ النفس والجسد يؤثر كل منهما في صاحبه: فأيّما تغيّر يعتري حالة النفس يفضي إلى تغيّر في شكل الجسد، والعكس صحيح – فأي تغير في شكل الجسد يفضي إلى تغيّر في حالة النفس"(6). اهتم أرسطو بالروح والجسد اهتماما متساويا واعتبرهما جوهرين أساسيين للذات الإنسانية ويشكلان وحدة باعتبار أنّ الانفعالات والمحسوسات تصدر عن النفس والجسم معا كالغضب والفرح على سبيل المثال فيما يخص الانفعالات أو كالبصر أو التذوّق فيما يخص المحسوسات. يقول أرسطو: " يحسن تجنب القول أن النفس تتعلم أو تفكر بل قل أن الإنسان يفعل ذلك بفضل ما به من نفس"(7). إنّ إقامة المساواة بين ثنائية النفس والجسد، تُلغي من وجهة نظر أرسطية نظرية المدرسة الأفلاطونية باعتبار أن الروح وحدها جوهر الانسان.
اعتبرت الفلسفة اليونانيّة عموما أنّ النفس متعالية عن الجسد الذي لا يعدو أن يكون إلا مصدرا للدنس باعتباره جامعا للحواس التي تعيق ملكة الفكر المسؤولة عن البحث والمعرفة، ولئن اختلف أرسطو في نظريّته عن سابقيه من الفلاسفة وأولى اهتماما بالجسد، تبقى النظرة الدونيّة للجسد هي الفكرة الطاغية في المنظور الفلسفي القديم. فكيف تبنّت الفلسفة الحديثة هذا المفهوم؟
2.الفلسفة الحديثة: تبنّي الجسد في مفاهيم متباينة
سار ديكارت على نهج أفلاطون في تحقيره للجسد وتهميشه له رغم انتمائه لمدرسة الفلسفة الحديثة في القرن السابع عشر، واعتبر أنّ النفس هي المصدر المفكّر، بينما الجسد هو مجرّد شيء ممتد: "هو ليس إلا جوهرا ممتدا مادي مقارنة بالآلة التي تعمل بطريقة ميكانيكية ويفهمه ديكارت عن طريق الفيزياء وبالميكانيكا، التأمل السادس: كتب ديكارت" بناء عليه وحتى ولو عملت بيقيني أني موجود وأني مع ذلك لا ألاحظ فقط أنه يخص بالضرورة أي شيء آخر بطبيعتي أو جوهري إلا أني شيء يفكّر فإني أستنتج بقوّة إن جوهري يكمن في هذا فقط"(8).
فصل ديكارت الجسد عن الروح واعتبرهما مادّتين مختلفين، وأنّ الروح لا تكون إلاّ تابعة لملكوت الله، أمّا العقل عند هذا الفيلسوف فلا ينتمي إلى الجسد بل إلى الروح، فالفكر عند ديكارت يتميّز بالاستقلال التام عن الجسد الذي شبّهه بالآلة ذات الحركات والوظائف والأعضاء المنتظمة والتي تعمل بمعزل كلّي عن الذات المفكّرة وقد اعتبره مجرّد امتداد لا يعيق ملكة التفكير والتأمّل المنفصلة كلّيا عن الجسد: "الجسم بمثابة آلة صنعتها يد الله فكانت من حيث التنظيم تعلو على كل مقارنة ولها في ذاتها من الحركات ما يفوق روعة كل ما في الآلات التي يمكن أن يخترعها البشر"(9). طوّر ديكارت من مفهوم الجسد خلافا لما سبقه من فلسفات القرون الوسطى، فاجتهد في فهم جهازه الوظيفي ومركّبات أعضائه واعتبره جوهرا ملموسا ومخلوقا في غاية من الدقة والنظام. لم يغيّب ديكارت الجسد ولم يسحقه كلّيا مثلما فعل سقراط وأفلاطون اللذان أرذلا وحقّرا الجسد وامتنعا عن الاعتراف به لأنّه كان بمثابة العائق للروح والفكر ومحطّه الأرض لأنّه يتبع العالم السفلي، بينما الروح، هي من الله، تابعة للعالم العلوي، وقد وضعه ديكارت في خانة الوظيفة الآليّة باعتباره امتداد للذات الانسانيّة، لكنّ ذلك لا ينفي تحقيره له، واعتماد ثنائية الفصل بينه وبين الروح ماهي إلا رغبة في إزاحته وإبعاده عن الروح التي عظّمها واعتبرها قيمة أساسيّة وأولّية، بل هي أساس الوجود الإنساني ومركزه.
لقد قدّمت كل من الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة وجهات نظر متشابهة في اعتبار المكانة المتدنيّة للجسد، في المقابل، تميّزت بالانزياح الكلي لتعظيم ملكة الفكر. لقد حافظ ديكارت على علويّة النفس والفصل بينها وبين الجسد، بل اُعتبر كل تقدّم وتطوّر وكل اكتشاف وإنتاج وكل ما من شأنه أن يُسهم في تسيير الحياة وشؤونها هو راجع فقط للعقل وأنّ الجسد مجرّد كتلة ممتدّة يمكن الاستغناء عنها أمام عظمة الروح.
ورغم أنّ سبينوزا ينتمي إلى روّاد الفلسفة الحديثة، إلاّ أنّه اختلف في مسألة تناول اشكاليّة الروح والجسد، فقد حاول إيجاد علاقة ترابط وتلاحم بينهما كصفتين مختلفتين ولكن لجوهر واحد هو الله، بمنطلق أنّ الإنسان هو جوهر واحد يحمل في ذاته صفتين وهما صفتي الفكر والامتداد، يقول سبينوزا: "إنّ الروح والجسد هما نفس الشيء الذي يتم تصوره أحيانا تحت صفة الفكر، وأحيانا تحت صفة الامتداد"(10).
إنّ الفكر هو من الروح والامتداد هو امتداد الجسد، وأنّ كل إنسان يحمل عقلا مختلفا عن الإنسان الآخر، أي أنّ كل عقل هو حالة خاصة لجسد إنساني معيّن، فكلّ حادثة جسديّة توازيها حادثة أخرى مماثلة لها على مستوى العقل، بمعنى أنّ كل ما يشعر به الجسد باعتباره إحساسا يشعر به العقل باعتباره شعورًا أو فكرة، ويضرب سبينوزا مثلا عن الطعام والرغبة في الطعام، فالجوع مثلا هو إحساس جسدي، أمّا الرغبة في تناول الطعام فهي شعور عقلي، ومثلما يشعر الجسد بالجوع يشعر العقل بالرغبة في الطعام، إنّ كل ما هو نفسي هو جسدي أيضا والعكس صحيح، فكل ما هو جسدي هو نفسي. إنّ أحكام العقل ورغبات الجسم ليست إلاّ شيئا واحدا لا يمكن فصل الأول عن الثاني أو عكس ذلك، وهذه الثنائيّة إنّما تُفسّر كعمليّة ازدواجيّة موحّدة يضع فيها سبينوزا الجسد والنفس في مرتبة واحدة.
إلى هذا الحد، يعتبر سبينوزا من الفلاسفة الثوريين اللذين أحدثوا الفارق في هدم الثنائيّة الديكارتيّة للعقل والجسد ومهّدوا الطريق لفلاسفة الفكر المعاصر في بناء وتطوير النظريّات السابقة. فكيف نظرت الفلسفة المعاصرة إلى مفهوم الجسد؟
3. مركزيّة الجسد في الفكر الفلسفي المعاصر
اتخذ مفهوم الجسد في الفكر الفلسفي المعاصر بنية أساسيّة وسلطة مركزيّة تمحورت عليها الذات الانسانية، حيث قام نيتشه بقلب المفاهيم والتنظيرات الكلاسيكيّة والحديثة واتخذ من الجسد القاعدة الأساسيّة لوجوديّة الإنسان وعلى عكس سقراط وأفلاطون وديكارت، فقد رفّع من قيمته وفضّله على العقل في ترتيب تفاضلي يرجّح الكفّة لسلطة الجسد، لقد اعتبره مصدرا للطاقة والفاعلية والقدرات الكامنة، فهو جمع من الأعضاء المتناسقة والمتكاملة والمتآلفة، البيولوجية والغريزية، وهو ما يجعلنا نتواجد ونتكاثر ونحافظ على استمراريّتنا واحساسنا بإنسانيتنا ووجودنا في هذه الحياة.
لقد اعتبر نيتشه أن الفلسفات القديمة قد حاكت بمثابة المؤامرة على الجسد، إذ نال من الاحتقار والتعتيم ما يجعله صورة للشر ومصدرا للهلاك، بل سعت إلى كبت العواطف والغرائز وكأنّها لعنة الانسان وجحيم النفس، يقول نيتشه: "للمستهينين بالجسد أريد أن أقول كلمتي: ليس عليهم أن يتعلّموا من جديد ولا أن يعيدوا تعليم الآخرين بل فقط أن يقولوا وداعا لجسدهم – وأن يصيروا بكما إذا" (11). لقد وجد نيتشه في الجسد سببا للحياة ومبرّرا للوجود البشري، اعترف بالجزء اللامادّي للإنسان وهو الفكر أو الوعي الذي نرمز إليه بالعقل، لكنّ الوعي بالنسبة له لا يعدو أن يكون مُجرّد وسيلة في سلطة الجسد وأداة لخدمته، إذ يرى أنّ: "الجسد عقلك الكبير وهذا العقل الصغير الذي نسميه وعيا ليس سوى أداة صغيرة ولعبة في يد عقلك الكبير، يمكن خلق أفكارك وأحاسيسك كائن أكثر نفوذا، حكيم مجهول يسكنك، إنه جسدك"(12). إنّ الفكر بالنسبة لنيتشه مستسلم للغريزة وهي أقوى من الفكر وهي المتحكّمة فيه. هذا الموقف يبيّن بأنّ فلسفته تقابل جذريا الإرث الفلسفي اليوناني الذي آمن بالعقل إيمانا وثنيا واستحضر الوعي كمصدر أعظم بينما استخفّ بالجسد وامتنع عن اكتشاف مكنوناته وأسراره. قطع نيتشه كذلك مع الفلسفة الديكارتيّة الحديثة التي حقّرت بدورها الجسد وحافظت على المنظور الفلسفي اليوناني القائم على الفصل والإقصاء. يقول نيتشه: " فيما مضى كانت الروح تنظر إلى الجسد باحتقار لا نظير له كانت تريده نحيفا وجائعا، وكانت تظن أنها بذلك ستتخلص منه ومن الأرض"(13). عزلت الفلسفة اليونانية فكرة اعتبار الجسد مادّة للدرس والبحث وظلّ بمثابة الوحدة المغلقة والمهمّشة، بينما يراه نيتشه وحدة حيّة، متحرّكة، مفكّرة ومنتجة وهو مجموعة الإحساسات التي تسري فيه وتصيّره إلى وحدة قابلة للانفعال والتأويل والتطوير.
لقد تباحث في مفهوم الجسد عديد الفلاسفة على مرّ العصور واختلفت وجهات النظر حسب المنطلقات المادية والميتافيزيقية، كما قدّمت العلوم الإنسانية تصوّرا لإشكالية الجسد، فنظّر له فرويد في دراسات التحليل النفسي واعتبره مصدرا حيّا للطاقة المغذية للدوافع والنزوات رابطا بين البيولوجي والنفسي، بينما قدّم جيل دولوز تصوّرا فيه الكثير من التعبيرية واللغة النابعة من جسد يضجّ بالحركة والاحساسات، وهو يقول في وصفه للحركات التي يومئ بها الجسد أنّها في الحقيقة نابعة من الداخل، من إحساساتنا: "إن كانت الحركات تتكلّم، فذلك راجع قبل كل شيء إلى كون الكلمات تحاكي الحركات، إنّه يوجد تمثيل إيمائي داخل اللغة، كما يوجد حديث ورواية داخل الجسد."(14) حيث بدأنا نفكّر بانفعالاتنا، أي أن المحسوس هو الذي يفكّر وأنّ الحواس التابعة للجسد هي التي تفكّر والمحسوس هنا يجمع الانفعالات، الإحساسات، المشاعر، الأحزان، الآلام، الأحلام، الآمال أي كل الأشياء التي تخترقنا من الداخل بوصفنا كتلة من الإحساسات التي هي الجسد. في حين، أبرزه ميشال فوكو في سياسات الأنظمة الدولية والاقتصادية كأنموذج مثالي للتسويق والاستثمار وتطويعه حسب الحاجة المادية والأغراض السلطوية وقدّره مرلوبونتي على أنّه الكيان الحسّي الفاعل بوصفه حاملا للحواس القادرة على إدراك الطبيعة والأشياء، وهو يرى أنّ حقيقة العالم ومستوى ادراكنا له لا يمكن أن يكون إلاّ عن طريق الادراك الحسّي، ليضرب عرض الحائط أطروحات الفلسفة اليونانية والديكارتية على حدّ سواء.
لقد بقي هذا المخلوق الحيوي، المتناسل والمتكاثر، المحافظ على استمرار النوع البشري، مادة متحرّكة مفكّرة، تطرح وتجيب على عديد تساؤلات الفلاسفة والعلماء، وباستمرار الانسان على الأرض، يستمر البحث حول ماهيّة الجسد إلى آفاق غير محدودة تتجاذبها البحوث الفلسفية والعلمية على امتداد التاريخ البشري.
******************
الإحالات:
1.محمد رسول (رسول)، "جسديات الأشياء، رؤية جمالية"، مؤانسات في الجماليات، نظريات، تجارب، رهانات، تأليف مجموعة من الباحثين والأكاديميين العرب، اشراف د. ام الزين بنشيخة المسكيني، 2015، صفحة عدد 506، سطر عدد 4.
2.العلوي (هشام)، الجسد بين الشرق والغرب، نماذج وتصورات، منشورات الزمن، العدد 44، 2004، صفحة عدد 47.
3.نفس المصدر، صفحة عدد 47.
4.بيدوح (سمية)، فلسفة الجسد، التنوير للطباعة والنشر، 2009، صفحة عدد 13، سطر عدد 7.
5.نفس المصدر، صفحة عدد 6، سطر عدد 6.
6.مصطفى (عادل)، بوبر (كارل)، مائة عام من التنوير ونضرة العقل، دار النهضة العربية، ط: 01 بيروت 2002، ص 94.
7.العلوي (هشام)، الجسد بين الشرق والغرب، نماذج وتصورات، منشورات الزمن، العدد 44، 2004، ص 48. (مصدر سابق)
8.بيدوح (سمية)، فلسفة الجسد، التنوير للطباعة والنشر، 2009، صفحة عدد 22، سطر عدد 13. (مصدر سابق)
9 .« Considérons ce corps comme une machine " qui ; ayant été fait des mains de Dieu, est incomparablement mieux ordonnée, et a ensoi des mouvements plus admirable, q u aucune de celles qui peuvent être inventées par les hommes ».
Descartes(r), discoure de la méthode, cinquième partie, librairie philosophique j. Varin, paris, 1 1992, p 120.
10 .«L’Âme et le Corps sont une seule et même chose qui est conçue tantôt sous l’attribut de la Pensée, tantôt sous celui de l’Étendue. » Baruch Spinoza
“Éthique” (1677), III, « De l’origine et de la nature des affects », scolie de la proposition 2, trad. C. Appuhn, 1913.
11.نيتشه (فريديريك)، هكذا تكلّم زرادشت، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، 2007، صفحة عدد 75، سطر عدد1.
12.Nietzche, La volonté de puissance, Tome 1, Livre II, p226.
13. نيتشه (فريدريك)، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة محمد الناجي، إفريقيا الشرق، 2006، ص 14..
14.سعيد (جلال الدين)، فلسفة الجسد، دار أمية للنشر 1992. صفحة عدد 85.
-------------
كاتبة المقال
أمل الهاني
باحثة من تونس
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: