رغم كثرة أصناف"المحللين" في بلادنا ودورهم الذي لا ينكر في تشكيل الرأي العام وتوجهاته الكبرى، فإن الغائب الأبرز يظل هو "المحلل النفساني" الذي يكون قادرا على إعادة بعض النظام للفوضى التي يشيعها أغلب المتدخلين في وسائل الإعلام الجماهيرية، سواء منها التقليدية أو المنتمية إلى منصات التواصل الاجتماعي الحديثة.
ونحن لا نزعم (بحكم عدم التخصص في العلوم النفسية) أننا سنسدّ هذه الثغرة المعرفية الكبيرة، ولا ندعي أيضا أنّ نخبتنا مصابة بمرض الانفصام في الشخصية بالمعنى العلمي للكلمة، ولكننا سنحاول أن نطرح مسألة الانفصام الفكري (أو التناقضات الداخلية) في خطابات تلك النخب من خلال بعض النماذج التي قد لا تكفي للحكم بمرض أصحابها؛ ولكنها تكفي للاستدلال على وجود مظاهر من الخلل الإداركي والانفعالي التي تغري بمقاربتها بالاستفادة من أعراض الانفصام في الشخصية (حسب توصيفات منظمة الصحة العالمية ذاتها)، باعتبار ذلك الانفصام: "تشوّشا في التفكير والإدراك والعواطف واللغة والشعور بالذات والسلوكيات".
هل يمكن للمشوّه فكريا أن يُصلح الواقع؟
لا شك عندنا في أن المسارات غير السوية للانتقال الديمقراطي في تونس ومآلات ذلك الانتقال واقعيا (أي بعيدا عن ادعاءات بعض النخب والتوظيفات غير البريئة لبعض النخب الأخرى) هي أكبر دليل على وجود خلل ما يتجاوز المؤسسات ومنطقها الداخلي؛ إلى بنية شخصية القائمين عليها من الفاعلين الجماعيين. ورغم حرص المشرع التونسي على استيفاء شروط "الصحة" المالية والقانونية للمشتغلين في المناصب العامة (اشتراط سلامة الذمة المالية وخلو السيرة الذاتية من الأحكام الموجبة لسقوط الحقوق المدنية)، فإن ذلك المشرع لم ير من الضروري التيقن من "الصحة النفسية" أو الفكرية للمترشحين للمناصب العامة. لقد صادر على وجودها بحكم انعدام ما ينقضها ماليا وجزائيا، وهي ثغرة مهّدت لعودة المشوّهين فكريا ونفسيا من سدنة المنظومة القديمة، وساهمت أيضا في دعمهم بطوائف جديدة من المنتمين إلى مختلف السرديات الأيديولوجية الكبرى.
الانفصام الفكري وهيمنة آليات الإنكار
لتوضيح هذا الفكرة وبيان مقدار الحاجة إلى المحلل النفساني، سنكتفي بضرب مثالين نرى أن فيهما الغُنية عن غيرهما من الأمثال رغم كثرتها:
- لو قال مواطن تونسي بسيط إنه سيسعى إلى تهجير جيرانه أو سجنهم لأنهم يفكرون ويعيشون قناعاتهم بصورة مختلفة عنه (رغم أنها لا تخالف الدستور ولا القانون)، فإن أي طبيب نفساني سيحكم بأنه يعاني من اضطرابات نفسية لا ينفع معها إلا التدخل العلاجي. أما عندما يدير سياسي أو صحفي أو نقابي خلافاته مع بعض شركائه في الوطن بمنطق الصراع الوجودي ومفردات الحرب والتنافي المطلق فإنه يُعتبر "ديمقراطيا"، بل يُعتبر معيارا للتفكير السليم الذي ينبغي تعميمه إعلاميا ووصم كل من يخالفونه بالرجعية والظلامية وأحيانا بالإرهاب. وقد يكون ما فعله "الإعلاميون" ونقابتهم مع "ائتلاف الكرامة" أكبر دليل على ذلك الانفصام الفكري الذي تتحول فيه الشعارات (مثل شعار حرية الإعلام) إلى أكبر معول لنسف إرادة الناخبين؛ بخطاب مغالطي لا يسمح الإعلام ذاته بظهور من يكشف تناقضاته الداخلية وتهافته بعيدا عن "أحادية الصوت" المهيمنة على الأغلب الأعم من المتدخلين المرضيّ عنهم.
- لو حرّر أحدهم شخصا من القهر والمظلومية وجعله سيدا لمصيره بل مكّن له في الأرض، فإن الواجب الأخلاقي يقتضي من الذي تحرر أن يردّ دَين محرّره، أو على الأقل ألا يصيبه منه مكروه. ولو قام من تحرر بما يؤذي سبب تحرره فإن أي مراقب خارجي سيحكم (حتى دون اعتماد المرجعية الدينية) بفساد فعله مهما كانت تبريراته. أما عندما ينقلب الحزب الذي حررته الثورة من القهر والسرية والمظلومية على وعوده وعلى انتظارات ناخبيه وغيرهم من المقهورين، فإن ذلك يُعتبر "تكتيكا" و"توافقا" و"استثناء تونسيا" و"حكمة خفية"، ويصبح كل من ينتقدونه من صيادي الماء العكر والجالسين على الربوة وأعداء المصلحة الوطنية، وغير ذلك من "الصفات الحسنى" التي تعكس عجزا عن مواجهة الحجة بالحجة ومصادرةً على النوايا، وتماهيا لاواعيا مع المنطق الذي كان هذا الحزب (وما زال) من أكبر ضحاياه.
اللامفكر فيه داخل الخطابات المتصارعة
قد يبدو من المبالغة أن نقول إن "الانفصام الفكري" هو أعدل الاختلالات قسمةً بين النخب التونسية، ولكن استقراء خطابات تلك النخب ومواقفها يعطي لهذا الحكم مصداقية كبيرة. فكيف يمكن أن نفسر أن يتحول اليسار الذي صيغت أغلب شعارات الثورة بروحه إلى أكبر حليف موضوعي لورثة المنظومة القديمة؟ وكيف نفسر أن يكون الاتحاد العام التونسي للشغل إلي "خيمة كبرى" لورثة الشُّعب المهنية والترابية؟ وكيف نفسّر أن يصبح "صنّاع" المخلوع وحملة الفكر الفاشي مركزَ "العائلة الديمقراطية"؟ وكيف نفسر انزياح اليسار الاجتماعي (خاصة التيار الديمقراطي) إلى موقع اليسار الثقافي وافتتانه بمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي؟ وكيف نفسّر تحوّل حركة النهضة رغم طبيعة قاعدتها الانتخابية المحافظة قيميا والمهمشة اجتماعيا إلى حليف موضوعي للمافيات الحاكمة من وراء الستار؟ وكيف نفسر أن يكون أغلب "الديمقراطيين" هم أكبر أنصار الأنظمة الانقلابية إقليميا، وأول دعاة الانقلاب العسكري ومركزة السلطة بين يدي "المستبد العادل" في تونس؟
النخبة والتخييل المزدوج الزائف
لو أردنا اختزال الأزمة في تونس في تعبير يُظهر مقدار التناقض بين الدعوى والمحصول أو بين تمثل الذات وصورتها لدى الآخرين، فإننا لن نجد أعمق من ذلك التعبير الذي كان عنوان أحد كتب أستاذنا المرحوم حسين الواد "تدور على غير أسمائها". ولكن المسألة أعمق من الانزياح الشعري وعوالمه، فنحن لسنا أمام لغة شعرية تعي شعريتها ووظيفتها الجمالية، بل في حضرة خطابات نثرية تريد أن تسوس الواقع رغم أنه لم يبق فيها من الشعرية إلا تخييل مزدوج زائف: تخييل أول يتعلق بتوصيف العالم الداخلي للذات المتحدثة، وهو يعكس خللا عميقا في تمثل تلك الذات ومحاولة لأمثلتها وشيطنة كل من يخالف قناعاتها وخياراتها الفكرية والسلوكية، وتخييل ثان يتعلق بتوصيف العالم الخارجي، وهو يدعي الموضوعية والحيادية وغياب الانحياز والأيديولوجيا وحظوظ النفس. ولا شك عندنا في أن هذا التخييل المزدوج هو أكبر عائق أمام ملاحظة الانفصام الفكري الذي يطبع تلك الخطابات ويجعلها في أغلب الأعم خطابات لاوظيفية من جهة التأسيس للجمهورية الثانية وما تقتضيه من مراجعات مؤلمة، تلك المراجعات التي لا يبدو أن نخبتنا مستعدة (في المدى المنظور) للقيام بها وتحمل كلفتها معنويا وماديا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: