البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

النخب التونسية والانفصام الفكري

كاتب المقال عادل بن عبد الله - تونس   
 المشاهدات: 1885



رغم كثرة أصناف"المحللين" في بلادنا ودورهم الذي لا ينكر في تشكيل الرأي العام وتوجهاته الكبرى، فإن الغائب الأبرز يظل هو "المحلل النفساني" الذي يكون قادرا على إعادة بعض النظام للفوضى التي يشيعها أغلب المتدخلين في وسائل الإعلام الجماهيرية، سواء منها التقليدية أو المنتمية إلى منصات التواصل الاجتماعي الحديثة.

ونحن لا نزعم (بحكم عدم التخصص في العلوم النفسية) أننا سنسدّ هذه الثغرة المعرفية الكبيرة، ولا ندعي أيضا أنّ نخبتنا مصابة بمرض الانفصام في الشخصية بالمعنى العلمي للكلمة، ولكننا سنحاول أن نطرح مسألة الانفصام الفكري (أو التناقضات الداخلية) في خطابات تلك النخب من خلال بعض النماذج التي قد لا تكفي للحكم بمرض أصحابها؛ ولكنها تكفي للاستدلال على وجود مظاهر من الخلل الإداركي والانفعالي التي تغري بمقاربتها بالاستفادة من أعراض الانفصام في الشخصية (حسب توصيفات منظمة الصحة العالمية ذاتها)، باعتبار ذلك الانفصام: "تشوّشا في التفكير والإدراك والعواطف واللغة والشعور بالذات والسلوكيات".

هل يمكن للمشوّه فكريا أن يُصلح الواقع؟

لا شك عندنا في أن المسارات غير السوية للانتقال الديمقراطي في تونس ومآلات ذلك الانتقال واقعيا (أي بعيدا عن ادعاءات بعض النخب والتوظيفات غير البريئة لبعض النخب الأخرى) هي أكبر دليل على وجود خلل ما يتجاوز المؤسسات ومنطقها الداخلي؛ إلى بنية شخصية القائمين عليها من الفاعلين الجماعيين. ورغم حرص المشرع التونسي على استيفاء شروط "الصحة" المالية والقانونية للمشتغلين في المناصب العامة (اشتراط سلامة الذمة المالية وخلو السيرة الذاتية من الأحكام الموجبة لسقوط الحقوق المدنية)، فإن ذلك المشرع لم ير من الضروري التيقن من "الصحة النفسية" أو الفكرية للمترشحين للمناصب العامة. لقد صادر على وجودها بحكم انعدام ما ينقضها ماليا وجزائيا، وهي ثغرة مهّدت لعودة المشوّهين فكريا ونفسيا من سدنة المنظومة القديمة، وساهمت أيضا في دعمهم بطوائف جديدة من المنتمين إلى مختلف السرديات الأيديولوجية الكبرى.

الانفصام الفكري وهيمنة آليات الإنكار

لتوضيح هذا الفكرة وبيان مقدار الحاجة إلى المحلل النفساني، سنكتفي بضرب مثالين نرى أن فيهما الغُنية عن غيرهما من الأمثال رغم كثرتها:

- لو قال مواطن تونسي بسيط إنه سيسعى إلى تهجير جيرانه أو سجنهم لأنهم يفكرون ويعيشون قناعاتهم بصورة مختلفة عنه (رغم أنها لا تخالف الدستور ولا القانون)، فإن أي طبيب نفساني سيحكم بأنه يعاني من اضطرابات نفسية لا ينفع معها إلا التدخل العلاجي. أما عندما يدير سياسي أو صحفي أو نقابي خلافاته مع بعض شركائه في الوطن بمنطق الصراع الوجودي ومفردات الحرب والتنافي المطلق فإنه يُعتبر "ديمقراطيا"، بل يُعتبر معيارا للتفكير السليم الذي ينبغي تعميمه إعلاميا ووصم كل من يخالفونه بالرجعية والظلامية وأحيانا بالإرهاب. وقد يكون ما فعله "الإعلاميون" ونقابتهم مع "ائتلاف الكرامة" أكبر دليل على ذلك الانفصام الفكري الذي تتحول فيه الشعارات (مثل شعار حرية الإعلام) إلى أكبر معول لنسف إرادة الناخبين؛ بخطاب مغالطي لا يسمح الإعلام ذاته بظهور من يكشف تناقضاته الداخلية وتهافته بعيدا عن "أحادية الصوت" المهيمنة على الأغلب الأعم من المتدخلين المرضيّ عنهم.

- لو حرّر أحدهم شخصا من القهر والمظلومية وجعله سيدا لمصيره بل مكّن له في الأرض، فإن الواجب الأخلاقي يقتضي من الذي تحرر أن يردّ دَين محرّره، أو على الأقل ألا يصيبه منه مكروه. ولو قام من تحرر بما يؤذي سبب تحرره فإن أي مراقب خارجي سيحكم (حتى دون اعتماد المرجعية الدينية) بفساد فعله مهما كانت تبريراته. أما عندما ينقلب الحزب الذي حررته الثورة من القهر والسرية والمظلومية على وعوده وعلى انتظارات ناخبيه وغيرهم من المقهورين، فإن ذلك يُعتبر "تكتيكا" و"توافقا" و"استثناء تونسيا" و"حكمة خفية"، ويصبح كل من ينتقدونه من صيادي الماء العكر والجالسين على الربوة وأعداء المصلحة الوطنية، وغير ذلك من "الصفات الحسنى" التي تعكس عجزا عن مواجهة الحجة بالحجة ومصادرةً على النوايا، وتماهيا لاواعيا مع المنطق الذي كان هذا الحزب (وما زال) من أكبر ضحاياه.

اللامفكر فيه داخل الخطابات المتصارعة

قد يبدو من المبالغة أن نقول إن "الانفصام الفكري" هو أعدل الاختلالات قسمةً بين النخب التونسية، ولكن استقراء خطابات تلك النخب ومواقفها يعطي لهذا الحكم مصداقية كبيرة. فكيف يمكن أن نفسر أن يتحول اليسار الذي صيغت أغلب شعارات الثورة بروحه إلى أكبر حليف موضوعي لورثة المنظومة القديمة؟ وكيف نفسر أن يكون الاتحاد العام التونسي للشغل إلي "خيمة كبرى" لورثة الشُّعب المهنية والترابية؟ وكيف نفسّر أن يصبح "صنّاع" المخلوع وحملة الفكر الفاشي مركزَ "العائلة الديمقراطية"؟ وكيف نفسر انزياح اليسار الاجتماعي (خاصة التيار الديمقراطي) إلى موقع اليسار الثقافي وافتتانه بمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي؟ وكيف نفسّر تحوّل حركة النهضة رغم طبيعة قاعدتها الانتخابية المحافظة قيميا والمهمشة اجتماعيا إلى حليف موضوعي للمافيات الحاكمة من وراء الستار؟ وكيف نفسر أن يكون أغلب "الديمقراطيين" هم أكبر أنصار الأنظمة الانقلابية إقليميا، وأول دعاة الانقلاب العسكري ومركزة السلطة بين يدي "المستبد العادل" في تونس؟

النخبة والتخييل المزدوج الزائف

لو أردنا اختزال الأزمة في تونس في تعبير يُظهر مقدار التناقض بين الدعوى والمحصول أو بين تمثل الذات وصورتها لدى الآخرين، فإننا لن نجد أعمق من ذلك التعبير الذي كان عنوان أحد كتب أستاذنا المرحوم حسين الواد "تدور على غير أسمائها". ولكن المسألة أعمق من الانزياح الشعري وعوالمه، فنحن لسنا أمام لغة شعرية تعي شعريتها ووظيفتها الجمالية، بل في حضرة خطابات نثرية تريد أن تسوس الواقع رغم أنه لم يبق فيها من الشعرية إلا تخييل مزدوج زائف: تخييل أول يتعلق بتوصيف العالم الداخلي للذات المتحدثة، وهو يعكس خللا عميقا في تمثل تلك الذات ومحاولة لأمثلتها وشيطنة كل من يخالف قناعاتها وخياراتها الفكرية والسلوكية، وتخييل ثان يتعلق بتوصيف العالم الخارجي، وهو يدعي الموضوعية والحيادية وغياب الانحياز والأيديولوجيا وحظوظ النفس. ولا شك عندنا في أن هذا التخييل المزدوج هو أكبر عائق أمام ملاحظة الانفصام الفكري الذي يطبع تلك الخطابات ويجعلها في أغلب الأعم خطابات لاوظيفية من جهة التأسيس للجمهورية الثانية وما تقتضيه من مراجعات مؤلمة، تلك المراجعات التي لا يبدو أن نخبتنا مستعدة (في المدى المنظور) للقيام بها وتحمل كلفتها معنويا وماديا.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، العلمانية، التبعية، بقايا فرنسا،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 29-12-2020   المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
بيلسان قيصر، سعود السبعاني، محمد علي العقربي، ماهر عدنان قنديل، د- محمد رحال، الهادي المثلوثي، مصطفي زهران، محمود فاروق سيد شعبان، رافع القارصي، أحمد الحباسي، مجدى داود، محرر "بوابتي"، د - محمد بن موسى الشريف ، ياسين أحمد، أ.د. مصطفى رجب، عبد الرزاق قيراط ، مصطفى منيغ، محمد الطرابلسي، عبد العزيز كحيل، د - محمد بنيعيش، صلاح الحريري، حميدة الطيلوش، سلوى المغربي، حاتم الصولي، وائل بنجدو، سامر أبو رمان ، رافد العزاوي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، جاسم الرصيف، فتحي الزغل، أشرف إبراهيم حجاج، سليمان أحمد أبو ستة، أحمد ملحم، عبد الغني مزوز، د. كاظم عبد الحسين عباس ، فتحـي قاره بيبـان، د - عادل رضا، طارق خفاجي، أبو سمية، د - المنجي الكعبي، منجي باكير، د - مصطفى فهمي، رضا الدبّابي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، عراق المطيري، أنس الشابي، د - صالح المازقي، إياد محمود حسين ، د - شاكر الحوكي ، يزيد بن الحسين، عمار غيلوفي، خبَّاب بن مروان الحمد، محمد شمام ، أحمد بوادي، د. طارق عبد الحليم، د- جابر قميحة، د. أحمد محمد سليمان، سيد السباعي، المولدي الفرجاني، عزيز العرباوي، علي الكاش، صالح النعامي ، سفيان عبد الكافي، حسن الطرابلسي، محمد العيادي، سامح لطف الله، حسني إبراهيم عبد العظيم، حسن عثمان، عواطف منصور، فهمي شراب، نادية سعد، فوزي مسعود ، ضحى عبد الرحمن، الهيثم زعفان، د. ضرغام عبد الله الدباغ، تونسي، رحاب اسعد بيوض التميمي، د - الضاوي خوالدية، د- هاني ابوالفتوح، د. عبد الآله المالكي، محمد أحمد عزوز، د. خالد الطراولي ، عبد الله زيدان، صفاء العربي، رشيد السيد أحمد، صفاء العراقي، صباح الموسوي ، كريم السليتي، سلام الشماع، صلاح المختار، العادل السمعلي، عمر غازي، طلال قسومي، محمد الياسين، محمد عمر غرس الله، المولدي اليوسفي، محمود سلطان، د- محمود علي عريقات، د. صلاح عودة الله ، فتحي العابد، أحمد النعيمي، د. أحمد بشير، الناصر الرقيق، محمود طرشوبي، محمد يحي، أحمد بن عبد المحسن العساف ، د.محمد فتحي عبد العال، د. مصطفى يوسف اللداوي، يحيي البوليني، خالد الجاف ، مراد قميزة، إسراء أبو رمان، د. عادل محمد عايش الأسطل، كريم فارق، رمضان حينوني، محمد اسعد بيوض التميمي، عبد الله الفقير، إيمى الأشقر، علي عبد العال،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة