لن أنفك عن الإلحاح على أن النقابة في تونس تدفع البلد إلى حافة الإفلاس المفضي إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني في القريب العاجل. إن موارد الدولة الطبيعية، والفوسفات في مقدمتها، معطلة والمؤسسات الاقتصادية العمومية التي يمكن أن توفر دخلا للدولة واقعة في قبضة النقابات في كل قطاع، والنقابة لا تنفك تدفع إلى حافة الهاوية، لذلك فإن إعلان الإفلاس غير بعيد، فإذا حلت الكارثة فإن باب الاقتراض بدون ضمانات سيادية سيكون آخر الحلول، وهنا ينفتح باب الضغط الدولي على دولة مفلسة لتقدم كل التنازلات فلا يُقبل منها إلا المزيد من تفليسها سياسيا وإجبارها على ما لم يرضه شعبها منذ بدء مسار التطبيع العربي.
النخبة السياسية خائفة من النقابة
من أول الثورة حتى رسالة الدكتور مرزوقي التي نشرها في ذكرى الثورة، لا أحد ممن اهتم بالشأن العام من النخب تجرأ على نقد النقابة وتوجيه إصبع الاتهام إلى ما تفعله بالمؤسسات العمومية المنتجة وبالإدارة العمومية عامة، في نفس الإطار نسمع رئيس النهضة يلقي قصائد المديح في النقابة رغم علمه بأن النقابة منعته من الحكم منذ 2011، وهي تواصل التخريب لأنه هو وحزبه لا يزالان في مقدمة المشهد السياسي.
كان الدكتور مرزوقي يطلب طيلة فترة حكمه هدنة اجتماعية تسمح للبلد بالتنفس والخروج، لكنه في تقييمه للثورة لم يوجه كلمة واحدة للنقابة ودورها التخريبي ولا نخاله إلا خائفا بعد، إذ لا نشك في قدرته على التحليل والقراءة ولكن الموقف من النقابة كان يقتضي جملا واضحة لم تصدر عن أحد، وكان الأجدر أن ينطقها فقد استكمل مشروعه واستقال ولم يعد لديه سبب للخوف.
الرئيس الحالي يتحدث عن المؤامرة على تونس وعن قوى الشر، ولكنه لم يضع النقابة ضمن هذه القوى بل هو في مقدمة المنسقين مع النقابة في مشروع لم نعرف كنهه بعد، وأمين عام النقابة أقام تقريبا في القصر قرب الرئيس دون أن نعرف ما الذي يدبران للبلد.
وهؤلاء الذين سميت هم رأس النخبة السياسية الظاهر للعيان، أما بقيتها الغارقة تحت ركام الفشل فهي تكتب حتى حول تلاقح الفقمة في القطب الشمالي ولكنها تغفل كل قول عن دور النقابة التخريبي، وكلما أمسك واحد منها في موقع علني أعلن صلاة خاشعة للنقابة.
لم كل هذه الخوف؟ لكثير من مكونات النخبة ملفاتها المخجلة التي تعرفها النقابة (علاقة النقابة بداخلية ابن علي ستكون موضوع مقال آخر)، ولأغلبها كثير من الرغبة في تسلق مراكز السلطة ومعاداة النقابة تقضي على آمالها في كل ترقية داخل مؤسساتها أو خارجها. فالنقابة هي من تعين الوزراء فعلا وإن لم تقدم من قياداتها شخصيات للحكم، ولكن المرور إلى كرسي وزارة يمر حتما ببطحاء محمد علي، وهو مقر النقابة. وعلى سبيل المثال، فإن وزير الشؤون الاجتماعية تختاره النقابة كأن الوزارة إقطاع خاص بها، وقد سقط كل وزير أعلن تمرده على النقابات القطاعية، مثل وزراء الصحة النهضويين ووزير النقل الذي جاء دون رغبتها. هنا قوة النقابة، وهي ليست قوة على الأرض ولكنها ضعف في نفوس النخبة.
نقابة الابتزاز بامتياز
ليس لدى النقابة كمؤسسة مشروع حكم كما كان لديها في الستينيات، وهي حقبة لا يناقش فيها أحد تاريخ النقابة ودورها، لكن النقابة الحالية المؤسسة والأشخاص ليس لديهم إلا مشروع تخريب ممنهج. ونعتقد بيقين أنها تشتغل لمصالح خارجية، ونحدد بثقة النقابة تشتغل عند الفرنسيين بعد أن فقد الفرنسيون مرتكزا أساسيا مدنيا على غرار حزب ابن علي.
إن أحمد بن صالح، النقابي والوزير المقتدر الذي بنى القطاع العام في الدولة المستقلة لم يحظ بأي تقدير لدى النقابة بعد عام 1970، عام سقوطه وسجنه من قبل بورقيبة وتيار حزب الدستور الليبرالي، وعندما مات منذ شهرين تذكرته النقابة ببيان تأبين وإكبار، وهو بيان فضيحة في حق أمين عام سابق وأكبر مؤسس للدولة التونسية الحديثة.
كل ذي بصيرة يعرف أن فرنسا تخسر تونس إذا حكم غير التجمعيين وخاصة إذا حكم الإسلاميون ولو بشكل جزئي بل أن كل قوة وطنية تفكر في مصلحة تونس أولا هي قوة معادية لفرنسا لذلك تخرب عليها وتدمر قدراتها وقد وجدت في النقابة وسيلة وآلة تقوم بعملها بكل براعة وما يجري الآن يجنى ثمره الفرنسيون في تونس بلا منازع.
توفر وجهة النظر هذه ذريعة لكل جبان لكي يقول بوقاحة: نحن لا نواجه النقابة بل نواجه حاميها الفرنسي، وهذا تبرير مهما كان واقعيا فإنه يحمل قدرا كبيرا من الجبن والذل السياسي والاستعداد للتواطؤ ضد المصلحة الوطنية، ولا أستثني أحدا فرائحة الخوف تزكم الأنوف (وهي جملة انطباعية في سياق تحليل).
منذ أول حكومة بعد الثورة تبين أن النقابة لن تدخل السلطة بل ستحكم من خارجها، وكذلك كان.. تحرك وحشي يضع الحكومات المتتابعة في وضعية القبول والتسليم أو تعطل المرافق العامة في النقل كما في التعليم كما في الجامعة، دون أي اتباع لبروتوكول الإضراب كالإعلان المسبق والتحذير قبل الإضراب. دفعت النقابة إلى إضرابات عامة ووضعت البلد على حافة الحرب الأهلية، واستغلت الاغتيالات السياسية لتجني منها مكاسب كان أبرزها الدخول كحكم بين فرقاء السياسية في اعتصام الرحيل.
تم تعطيل وسائل النقل فجأة في قمة شهر آب/ أغسطس بعد الخروج من العمل بما أبقى الناس مرميين في الشوارع، وإغلاق المشافي في وجه المرضى حتى الموت أمام المشفى بلا رحمة، وإغلاق المدراس والمعاهد والجامعات في وجه المتعلمين وكادر التدريس بالقوة المليشاوية لو لم يوافقوا على الإضراب، وغير هذا كثير لا تعلمه السيزل ولا أي نقابة في العالم. الكل أو لا شيء، وكانت كل الحكومات تأتي صاغرة ذليلة خائفة على مكاسبها الفردية أكثر من خوفها على مصالح البلد.
سقوط القطاع العام يعني سقوط الدولة والسير إلى التطبيع
لم تجرؤ النقابة على تحريك أي مؤسسة في القطاع الخاص، بل الأخبار المستقاة تقول بتواطؤها مع منظمة الأعراف، ولكن مؤسسات القطاع العام المنظمة نقابيا بشكل كلي موشكة كلها على الإفلاس، هذا فضلا عن تعطل الإدارة. إن موارد موازنة تونس هي أولا مؤسسات القطاع العام والثروات الطبيعية، وهي كلها تحت حكم النقابة وهي معطلة. لذلك فان الميزانية الآن رغم المصادقة على القانون المالية لن توفي التزاماتها إلا بالاقتراض. والسؤال الآن: من يقرض دولة مفلسة؟
إنه المقابل التطبيعي يتهيأ لتونس وهي تقف عاجزة وغير قادرة على تسمية العدو الداخلي باسمه، ولن تخوض معه الحرب وهو يستعد لتسليم البلد لفرنسا بشكل كلي، ووراء فرنسا الاستعمارية تكمن لنا الصهيونية العالمية مع إغراءات مالية وسياحية، ولديها مطالب سياسية مثل التي فرضتها على السيسي وكانت تنوي فرضها على حفتر وفرضتها على السودان والمغرب.
تونس في طريقها إلى التطبيع لتغطي مطالب النقابات بالقروض الكاسرة للسيادة، ولكننا نكتب بوعي لنشهد على مرحلة الانهيار وأدواتها (شيء من تبرئة الذمة العاجزة،) ونحن من ضمن قوم كثير لا نصدق بل نسخر من زعم النقابة معاداة الصهيونية ووقوفها مع حركات التحرر في العالم. هذه نكتة لم تضحكنا وخديعة لم تنطل علينا، وليس لدينا إلا قلمنا.
لكن إذا خاف 12 مليون تونسي من النقابة فسيكون هناك مواطن أخير لن يخشاها ومستعد للثمن. جملة أخيرة لعرب يرون تونس من بعيد ويعتقدون تحت دعاية النقابة أن هناك مجتمعا مدنيا تونسيا تقوده النقابة. ستبكون على تونس المطبّعة قريبا، وساعاتها ستجدون حاجة إلى فهم الأسباب هذه الورقة تقدم لكم مدخلا للتحليل.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: