إنها ليست جريمة أن يفكر المرء في تغيير شكل الدولة وتغيير طبيعة علاقتها بالمواطن، إنه اجتهاد مشروع وأخلاقي ويكشف رغبة في التغيير بحثًا عن الأفضل للناس وللدولة نفسها.
إن طرق الاحتجاج الجهوي/المحلي في جهات تونس المختلفة اصطبغت بصيغة مطلبية مباشرة تركز على التشغيل أولًا وعازها تنظير مطالبها ضمن مشروع أوسع من المطلبية، وقد غالت بعض الجهات في ذلك فظهرت كأنها ترغب في الاستحواذ على خيرات مناطقها بشكل فردي (أو قَبَلي وعروشي وعائلي)، وهذ الوجه الاحتجاجي حجب وجهًا آخر ممكنًا وربما يكون مرغوبًا من الناس الذين لا يمكن لهم بناء تصورات نظرية معمقة عن طبيعة تصوراتهم للمستقبل ولعلاقتهم ببقية الناس وبالدولة ومؤسساتها.
لقد جرى تخوين الكثيرين ونعتهم بالمخربين وهي نعوت لم تصبر بدورها على قراءة هذه الاحتجاجات بغير الرؤية الكلاسيكية للدولة الموروثة من زمن المركزية الإدارية ومركزية خيال الزعيم وحزبه، هذه الورقة ليست درسًا في بناء الخيال السياسي الجديد، لكنها محاولة قراءة التوقعات والاحتمالات القادمة في إدارة البلد وإعادة تنظيم العلاقة بين المركز والأطراف في الدولة الواحدة وذلك بعد حدث اتفاق حكومة المشيشي مع منطقة محتجة هي الكامور بالجنوب التونسي وهي منطقة استخراج الغاز والنفط.
النموذج المركزي للإدارة استنفد قدراته
لقد استعاد كثيرون في بداية الثورة تنظيرات ابن خلدون بخصوص العصبية وصراعاتها من أجل الرفاه أو التمدن، لكن هذه الزاوية في التحليل اختفت تحت ركام الأحداث التي أفلتت من كل النظريات المطمئنة إلى سلامتها، وانتهى غالب الكتاب إلى أن الثورة التونسية ثورة على غير منوال معتاد، وقد حررهم تعويم شكل الاحتجاج على تعويم المطالب الشعبية والخلفيات الكامنة ورائها وظهر كأن قولهم نهائي في المسألة، وكان ذلك خلاصة مريحة فكريًا استعفى بها الكثيرون من القراءة وإعادة القراءة لفهم ما يطلبه الناس فعلًا، وطبعًا انصرف الكثيرون إلى الدفاع عن الموجود خوفًا من المنشود، وهي رجعية كامنة حتى لدى غلاة القائلين بالتقدمية والداعين إلى تجديد أساليب الإدارة وبناء الوعي السياسي على أسس مختلفة.
الاحتجاجات المتواصلة كشفت أن المطالب المشروعة لم تعد تلبى عبر المسالك المعتادة، بل أثبتت أن تلك الأساليب منحرفة وفاقدة للصلاحية وعلى الطبقة السياسية والنخب الدائرة في فلكها أن تعيد التفكير في طرق عملها وتواصلها مع الناس في أطراف الوطن، ومما يزيد إلحاحية هذه المسألة أن تهم التخوين لا تقوم على أسس واقعية خاصة في الجنوب التونسي، فقد كان لمعركة بن قردان (وهي بجوار الكامور) ضد الإرهاب دور فعال في إثبات ولاء الناس بالمنطقة للدولة وتجندهم لحمايتها بدمائهم، وقد دفعوا شهداءً في ذلك، فهم ليسوا انفصاليين ولا خونة، لكنهم مواطنون مجندون مؤمنون بالعيش الجماعي غير أن هذا التجند الفعلي لم يلق التقدير اللازم من المركز، لذلك استعاد الناس مثل سنمار الذي جوزي بأسوأ الجزاء على أحسن الفعل.
لقد وسع ذلك من الشعور بالضيم، لكنه لم يتجه إلى سلوك انفصالي، بل رفع القدرة على الاحتجاج والصبر على التهم ومحاولة القهر التي جربتها الدولة كآخر حل قبل أن تسلم بأن عليها أن تكون في مستوى التزامها بتحقيق التنمية ضمن السلم الأهلي وليس بالقمع الذي يذكر فقط بالفاشية وأساليبها.
لقد انتهى باتفاق الكامور عصر تفضل المركز على أطرافه وأعدنا اكتشاف شكل جديد للعصبية الخلدونية، العصبية الصاعدة من شباب الأطراف المهمشة تحاجج سلميًا العصبية المتهالكة (تمثلها نخبة المركز) غير أنها لا تزحف على المقر بل تخلق مقرها وتعادله بصيغة أخرى تقتسم قوة المركز دون تحطيمه بل تفرض عليه التعايش وهنا يمكن أن نجد بداية تنظير لشكل الدولة القادم، إنها تعادلية جديدة، تبني حقوقًا وتقترح شكل إدارة جديد.
كيف سيكون شكل الإدارة الجديدة؟
يوجد هنا (وهذا تحذير للقارئ) خلط متعمد بين ما نرغب فيه وما نتوقعه فعلًا وهو خلط تحدثه العاطفة التي تتغذى من الرغبة في التغيير ومن الحاجة إلى تجديد أساليب الحكم بعد أن تهالك المركز وقصرت النخب في قراءة المرحلة وبناء توقعات للمستقبل من خارج خرائط التفكير القديمة المستنفدة.
إن قالب الموازنة السنوي مبني مركزيًا حيث تتجمع العائدات المالية من كل الجهات الجغرافية ومن كل مؤسسات الدولة ليعاد توزيعها طبقًا لخطط يضعها المركز الذي طالما روج للتنمية الجهوية المتوازنة، لكنه تصرف دومًا بطريقة غير متوازنة بين الجهات، وقد نتج عن ذلك انخرام جهوي وتحول إلى سبب دائم لسوء التوزيع حتى وصل الأمر إلى إقفار سكاني أثبته آخر إحصاء ديموغرافي (2014) فصارت بعض المناطق طاردة للسكان وأخرى مستقبلة، فضلًا عن حركة الهجرة وخاصة السرية منها التي تتغذى أساسًا من المناطق المفقرة ولا نقول الفقيرة.
كيف يمكن بناء موازنة على أساس غير مركزي تحد من يد المركز على المقدرات المالية للجهات دون فصلها؟ وهل يخشى فعلًا أن تتفكك الجماعة البشرية (الشعب) إذا استقلت ولو نسبيًا عن تحكم المركز في مصيرها؟ وماذا لو أن قدرات المناطق غير متعادلة من حيث حجم الثروات الطبيعية؟
إن هذه معضلة حقيقية تحتاج فكرًا جديدًا وإرادةً حقيقيةً، لكنها ليست كفرًا بالدولة بل دعوة إلى وضع تصورات تقدم التنموي على السياسي، وربما يجدر بنا استعارة المثل القائل بأن أهل مكة أدرى بشعابها تنمويًا، لذلك وجب أن يترك لأهل مكة تدبير شؤونهم.
وقد مهد الدستور لذلك بالباب السابع وبالسلطات الموسعة للبلديات المنتخبة ويمكن إيكال مهام تحديد الحاجات وطرق تلبيتها إلى سلطات منتخبة في الجهة وتقع تحت رقابة قاعدتها الناخبة المحلية أولًا.
وعندنا في تراثنا القانوني التاريخي ما يسهل الاستعارة، فقد كانت أموال الخراج والزكاة في الدولة الإسلامية تصرف في محل جمعها أولًا ويرفع إلى الخليفة ودواوينه ما زاد عن حاجة الناس، وفي تقديرنا أن هذا كان تراثًا وضعيًا بنى منواله باجتهاده وهو ليس نصًا مقدسًا طبعًا، لكنه لم يفقد فعاليته لمن يريد أن يستفيد من تجارب التاريخ.
يذكرنا ذلك بطرق التصرف الفيدرالي في دول مثل ألمانيا، فاستقلال الولايات أو الدول المكونة للدولة الألمانية الكبرى لم يؤد إلى تفكيكها بقدر ما صنع قوتها، وليست تونس دولة فيدرالية بل هي موحدة ومتجانسة بقدر عجيب، لكن هذا التجانس لا يؤدي بالضرورة إلى حكم مركزي بل قد يسهل حكمًا محليًا دون خشية التفكك الإداري الذي تعلو حوله أصوات كثيرة الآن بحق ودونه.
اتفاق الكامور قد يكون عند الحكومة مجرد عملية ظرفية لحلحلة أزمة بأخف الأضرار، لكن ما فائدة عودة الحكومات إلى مركزية القرار التنموي والسياسي إذا كانت المناطق قادرة على الانفجار في وجهها بأساليب احتجاج تزداد قوة في كل مرحلة؟
إنها دعوة إلى التريث وإعادة النظر في سبل إدارة الموارد بحسب حاجة السكان الذين هم أعرف بتحديدها، وقد وضعت القوانين لتسهيل حياة الناس لا لتعقيدها، من هنا يمكن أن يتحول الكامور إلى لبنة أولى في بناء نظام إداري وسياسي جديد سيفرض وهو أمر محمود معارك فكرية وقانونية ويفتح كراسات الحقوق من جديد لبناء تراث قانوني لدولة مختلفة وذات إدارة فعالة.
إن النظريات الكبرى ولدت في أثناء عمل الناس على التغيير ولم تولد خارج فعلهم من كراسات جاهزة بعضها كان جمهورية أفلاطون وما يبقي ابن خلدون حيًا أنه قرأ دومًا ما كان ولم يسع إلى تعليمهم ما ينبغي أن يكون، متخذًا موقع المثقف المطلع على الغيب، والغيب الوحيد المكشوف هو حاجة الناس إلى الاجتماع والتعايش دون قهر، ونرى أن الكامور حالة تعايش لا حالة انفصال.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: