الفــنان التشكــيلي التـونسي ناجــي الثـــابتي: الحفر بلغة الرسم أو العكس تماما (*)
أمل الهاني - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3243
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
فيض من الذاكرة وسفر في الأزمنة:
يقدّم ناجي الثابتي في هذا المعرض المتكوّن من 11 لوحة بتواريخ إنجاز متفاوتة مجموعة من الحالات والوضعيّات الجسديّة المختلفة وتنفجر الأزمنة الماضية والحاضرة في علامات ورموز وتقسيمات هندسيّة متراكبة، تُقرّب أو تُبعّد آثار بصمة أو جسم ديناصور أو بقايا حجارة. يسافر الثابتي عبر التاريخ لينقل لنا مشاهدا من الطبيعة والتراث ويلامس إزميله مرايا الرّاهن فيقف على عتبات الحاضر ويتجلّى مزيج بشريّ مندمج تماما مع مخلّفات العولمة والتطوّر التكنولوجي ليرسم ويحفر على صفائح من الخشب مجموعات بشريّة بحالات اجتماعيّة مختلفة كصورة العائلة والأصدقاء وينتبه الفناّن إلى تجدّد رموز الحاضر في علامات جديدة اقتحمت زمنيّة اللوحة فوظّف صور الهواتف الجوّالة وإشارات الأيادي والأصابع التي أصبحت ترافق التقاط الصور السريعة والحينيّة وأثر هذه الظاهرة كأداة اتّصال حديثة على العلاقات الانسانيّة التي أصبحت علاقات تحكمها الفردانيّة والبرود والتوحّد أحيانا. وأنت تتجوّل في هذا المعرض الزمني، الملوّن والمخضرم وكأنّك تطوف بأزمنة غارقة في القدم وتستفيق فجأة على صوت موسيقى صاخبة آتية من تلك اللوحة أو حركة طفل من اللوحة الأخرى، تسافر من مكانك عبر تقاسيم اللوحات وتراكب الألوان وتهافت الرّموز وتحط رحالك أمام تفصيل لمربّع منقوط تكاد النقط أن تنفذ إلى الداخل ولا تفقه بعدُ إن كان حفرا أو رسما، ويسترعيك وجه محوّرٌ مشوّهٌ، فتك به الزمن أو اللون أو المنقاش، ثم تعود أدراجك وتدقّق النظر في معجم العلامات والرّموز وتاريخ الحضارات فتتعثّر ببقايا عجلة وآثار قدم ورمز لآلهة تانيت، وتتأمّل كتابة غير الكتابة! ربّما كانت سومريّة أو بدائيّة أو أمازيغيّة! فيض من الذاكرة وحفر في الأزمنة. نقش وتلوين وتصوير، خدش وتخطيط وتلصيق، هذا هو ناجي الثابتي، الحفّار المخضرم، الرسّام المدجّج بصفائح الخشب وأزاميل الحفر، هو هذا وذاك، الحفّار -الرسّام، تجربة تقنية طويلة امتدّت لسنين، يبحث فيها الثابتي عن آفاق جديدة للعمل الفنّي، أين يجتمع الرسم والحفر على نفس المحمل.
الصفيحة أصل العمل الفنّي:
يضعنا ناجي الثابتي أمام رؤية جديدة ومختلفة في ميدان الحفر الفنّي التونسي، حيث مراحل التجريب والبحث المتواصل التي يمرّ بها الفنّان المؤمن برسالته وبقيمة فنّه تُحفّز فيه المقدرة على الابداع والاختلاف. إنّ التجربة المستديمة والنفس الطويل في السعي نحو صقل التجربة وتقديم أعمال ذات قيمة تشكيليّة هامّة يعكس حبّ الفنّان للتقنية وإرادته في تكريس الممارسة الحرفيّة الفنّية لاختصاص لطالما عرف بصعوبة إتقانه وتعدّد مراحل إنجازه، تحبير وتحميض وسوائل، صفيحة للحفر ومسحوبة للنسخ، طباعة ونسخ متوالدة. دقّة في العمل والتصوير على صفائح متنوعة الصلابة ودراية عميقة بأسرار التقنية للحصول على النتيجة النهائية للمحفورة، لهذا نجد أنّ ناجي الثابتي قد خرق نواميس العادة والقواعد الثابتة في ممارسة تقاليد فنّ الحفر وذهب ليبحث في الاشكاليّات التقنية والأسلوبيّة ليتمكّن من اجتياز القالب التقليدي للمحفورة حيث يقول: "إنّ هاجس التجديد من ناحية والحرص على تجاوز بعض القيم التقليديّة لتقنية الحفر من ناحية أخرى شكّلا في الحقيقة الدافع الرئيسي لبحث أسلوب تعبيري في مجال الحفر يسمح بتخطّي هذا المستوى التقليدي" (ناجي الثابتي). لقد أراد الفنّان أن يختزل مراحل الحفر التي تؤول في إلى الحصول على محفورة صغيرة الحجم تستدعي التقرّب والتثبّت لتأمّلها وقراءة تفاصيلها نحو محفورة ضخمة الحجم تساوي ضخامة اللوحات القماشيّة. لقد اختار أن تكون الصفيحة هي أصل العمل الفنّي، أوّلية ونهائيّة، وهي قطع من الخشب الصّلب بأحجام كبيرة، يحفر عليه الأشكال، يلوّنها بأدوات الرسم المتمثّلة كمادّة الأكريليك (Acrylique) أو الدّهن الزيتي وفي الأخير تكون الصفيحة هي نفسها اللوحة ونفسها المحفورة. إنّ تلاقح التقنيات في أعمال ناجي الثابتي لم يكن نشازا تشكيليّا ولم يسبّب نفور الذائقة الفنيّة بقدر ما كان شكلا من أشكال الاكتمال والابداع، إذ يعتقد: " أنّ الجمع بين الحفر والرسم على نفس المحمل بشكل يحكمه منطق التفاعل والجدليّة (أي التداخل بين فعل الحفر وفعل الرسم دون الفصل بين العمليّتين إلى أن يكتمل العمل الفنّي)، يضعنا في صميم الممارسة الابداعيّة" (ناجي الثابتي). لقد نجح الفنّان في استغلال تقنيات الحفر ومؤّثّرات المادّة الصلبة واللونيّة في خلق عمل مبتكر وفيّا للحفر والرّسم ومبتعدا عن إكراهات المراحل المضنية للحفر وتوفير مستلزماته الصعبة والمكلفة، فهو يجد أنّ: "هذه الطريقة التي تغنينا عن استخدام الآلة الضاغطة (Presse). يمكن أن تسمح لنا بالتحرّر في اختيار حجم الصفيحة وبالتالي إنجاز محفورات عملاقة تؤسّس لقيم جماليّة جديدة وتستجيب من جانب آخر للفضاءات الشاسعة التي تُميّز جدران بعض أروقة العرض"(ناجي الثابتي). إنّ هذه المرحلة في تجربة ناجي الثابتي تعدّ من أهمّ المحطّات التي ميّزت تجربته التشكيليّة وهي نتيجة لمراحل تقنية سابقة كان الفنان إثرها يكتفي بإنجاز محفورة على الطريقة التقليديّة أو رسم مشهد على محمل من القماشة.
لم يقف ناجي الثابتي على حدود الحفر المباشر على صفائح الخشب، بل وأبعد من ذلك، إذ نجد في بعض الأعمال أنّه قد تخلّى نهائيّا عن فعل الحفر، بل أصبح يطبّق مباشرة تأثيرات الحفر على الصفيحة من خلال الرسم بالريشة، لقد نقل خدوش الحفر والخطوط ونسيجيّة المادّة ومخلّفات مؤثّرات الصفيحة على المحمل دون الشروع في الحفر، بل كان رسما وعجائن لونيّة وخربشات في الأشكال والمساحات المقسّمة للوحة، وتُعتبر هذه المرحلة محطّة وصول جديدة في اقتفاء أثر المحفورة دون عناء الحفر وطول الصّبر وفي نفس الوقت تؤمّن هذه الطريقة الكثرة في الإنتاج والسهولة في التعامل مع أدوات الرّسم مقارنة بآليّات وقوانين الحفر وتعتبر هذه المحطّة في المسار الفنّي للثابتي كسلاح ذو حدّين، فهو لم يتخلّى عن نجاحه في مجال الحفر والخصوصيّة الجماليّة التي تُميّز أعماله وفي ذات الوقت كانت طريقة مرور ذكيّة لكن سهلة في التخلّص النهائي من عبء متطلّبات الحفر، ولو أنّ النتيجة لم تكن لتكون لولا طول التجريب وعمق المراحل التي سبقت.
يكسر ناجي الثابتي حدود التقنية ويذهب بعيدا حيث البحث والتجريب والاكتشاف، لا يقف على حدود الرّسم والحفر، بل يجتهد في العثور على الخيط الرّفيع المثقّل بغزارة التجربة وثراء المرجع والوصول إلى أعلى درجات الإبداع. إنّ التفكير في المختلف يمثّل انزياحا والتمرّد على المألوف هو فعل مقاومة. إنّه الباحث الدؤوب عن أسرار التقنية وإمكانات التجريب في سعي نشيط حول إبراز قيمة الشكل والرّمز وجماليّة العمل الفنّي.
---------------
أمل الهاني
باحثة في علوم الفنون وممارساتها.
--------------
(*)
قدّم ناجي الثابتي عشيّة يوم الجمعة المنقضي من شهر نوفمبر الجاري معرضا تشكيليّا فرديّا بدار الثقافة ابن خلدون المغاربيّة بتونس العاصمة، وحقيقة أنّ الثابتي من الفنّانين الباحثين في تطوير التقنية وفي التمشّي الأسلوبي الخاص بأعماله منذ بداية مشواره الفنّي سنة 1984 وإلى غاية اليوم. يقدّم الثابتي في كل مرّة باقة من الأعمال المتنوّعة في المواضيع وفي الصياغة الشكليّة والتقنيّة والاتجاهات الفنّية. يراوح بين العوالم السرياليّة والتجريديّة وأحيانا يطغى الجانب التشخيصي في أعماله، وبين هذا وذاك ينهمك تارة في تفصيل لشبّاك أو بناية أو جبال من الحجارة. يطرح مجموعة من القضايا في علاقة بالهويّة والزمن والمجتمع، ويعود في كثير من الأحيان إلى النّبش في أشياء مألوفة باحثا عن رمزيّتها والمجالات التعبيريّة والجماليّة التي يمكن أن توفّرها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: