البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

هل يجب أن نخشى ضياع الدولة التونسية؟

كاتب المقال نور الدين العلوي - تونس   
 المشاهدات: 1917



أثار اتفاق حكومة المشيشي في تونس، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، مع معتصمي منطقة الكامور بالجنوب التونسي، موجة من الخوف على ضياع الدولة في تونس، وتحدثت أقلام كثيرة مفجوعة عن نهاية البورقيبية، ومرادف ذلك عندهم نهاية الدولة التونسية، في عملية خلط بين نموذج مرحلي للدولة وبين فكرة الدولة نفسها، كما لو أن هناك صيغة واحدة للدولة وشكلا لا يمكن تغييره. في المقابل، رحب كثير من الكتاب والمدونين بالاتفاق، ورأوا فيه بداية لدولة جديدة تقوم على أسس لا مركزية. بين الخطابين، هل يجب أن نخشى فعلا على الدولة القائمة بعد، أم نتفاءل بشكل جديد لها؟

فكرة كسر المركزية وليدة الثورة

لم يحتو خطاب المعارضة لنظام بورقيبة وابن علي نقدا لمركزية الدولة القائمة، وأقصى أماني تلك المعارضة كان تحسين وجه النظام السياسي بضخ المزيد من الحريات. أما مراجعة هيمنة المركز السياسي في العاصمة وفي الحزب الحاكم وبيدي الرئيس الفرد الزعيم الأوحد فلم يكن محل جدال كبير، ولكن الفكرة تبلورت مع الثورة وبدأ الحديث عن الديمقراطية المباشرة وعن التسيير الجهوي، واكتمل ذلك النقاش في الدستور بتشريع النظام شبه البرلماني، ثم بوضع الباب السابع الذي فتح إمكانية بناء حكم على قاعدة جهوية، دون المساس بوظائف الدولة المركزية كالدفاع والخارجية والأمن. لكن تطبيق هذا الباب اصطدم بنفس الرؤية المركزية العاجزة عن بناء تصورات تنفيذية للباب السابع.

لقد اتضح أن المطلب الصاعد من الأسفل يهدد فعلا الرؤية المركزية والقائلين بها، وخصوصا المستفيدين منها سياسيا واقتصاديا. ولأن النخبة التي تولت منذ الثورة بكل ألوانها السياسية لم تتغير ولم تراجع تصوراتها فعلا، فإن الباب السابع من الدستور بقي حتى الآن حبرا على ورق، مثبتا بذلك أن التغيير بالنص (كما فعل بورقيبة ونخبته دوما) ليس هو المنهج المطلوب من الثورة ومن المجتمع الأهلي. لذلك جاء احتجاج الكامور وقبله احتجاج منطقة جمنة (واحة في الجنوب التونسي ) كطلب أهلي لكسر مركزية الدولة، وبناء نموذج تسيير مختلف لا يُظهر حتى الآن أي رفض لبقاء الدولة والذهاب إلى تفتيتها، كما اتهم القائلون بالمركزية هذه الاحتجاجات الشعبية ذات الطابع السلمي والمدني المتطور.

من هذه الزاوية ينتقل الحديث عن اللامركزية من الدستور (الورقي) إلى التنفيذ الشعبي، ويبدأ التغيير من حيث كان يجب أن يبدأ فعلا، ويصبح اتفاق الكامور خطوة نحو تنفيذ مطلب الثورة وليس إسقاط الدولة وتفكيكها. بذلك يتجاوز احتجاج الكامور الذي قاده فتيان كبروا مع الثورة كل عمل النخبة القديمة، ويقدم لها نقدا جذريا ويقترح نموذجه التسييري الجديد. إنها عملية تجاوز تنتمي الى فكرة التأسيس ومشروعه؛ لا إلى فكرة إصلاح النظام بالإبقاء على آليات عمله المركزية، إنه تصور جديد للدولة لا نقضا لها.

هل التخوفات مشروعة؟

في ظني أن التخوفات ناتجة عن أمرين مترادفين، أولهما كسل فكري لنخبة تتبع ولا تبدع، وقد بنت أفكارها على نفس القواعد التي اتبعها المؤسس (بورقيبة) رغم أنها عاشت من معارضته لأكثر من نصف قرن. وهي الآن واقفة أمام مقترح/ مشروع/ تصور جديد لم يخرج من كراستها، وإنما نزل عليها من الشباب الذين لم ينتموا اليها ولم يأخذوا برأيها في طرق المعارضة والاحتجاج، وهي لا ترغب في أن تنصفهم في ما فعلوا؛ لأن إنصافهم ومنحهم شرعية وجود وفعل سياسي تكشف خوفها على مكانتها ضمن نخبة كلفت نفسها بالتفكير للآخرين دون استشارتهم، فتكون بذلك كتبت شهادة على عجزها وموتها السريري.

والسبب الثاني هو نظام المصالح المادية التي عاشت من المركزية وحمتها واحتمت بها منذ النشأة، حيث أن القرار يعود لمن يختاره نظام المصالح (والتي لا تختلف كثيرا عن عصابات مافيا منظمة وذكية). وقد تبين أن نظام المصالح الذي لا يزال يمسك الإعلام ويوجهه قد وضع ثقله ضد شباب الكامور وجمنة، فأدانهم إلى حد التجريم والتخوين.

لقد فكر بورقيبة ورجال دولته في أن مركزة القرار تسهل عليهم بناء الدولة وتسييرها، وقد كان خطاب بورقيبة موجها دوما ضد التفتت القبلي الذي تخيله وعمل على القضاء عليه، جاعلا من القبيلة نقيضا للدولة وخطر عليها. (الحقيقة أن مركزة الدولة تعود الى ما قبل بورقيبة، ويمكن بالتمعن في التاريخ إرجاعها إلى ما قبل الوجود العثماني في تونس وصولا إلى الدولة الحفصية في القرنين 14 و15 الميلاديين).

كان بورقيبة يردد دوما أن التونسيين كانوا قبله غبارا من البشر، وقد صنع منهم شعبا وبنى له دولة، متناسيا دور الاحتلال الفرنسي في التفتيت والتقسيم بخلق مناطق حكم عسكري وأخرى مدنية، ومثيرا للحزازات القبيلة والنعرات كلما تيسر له إيجاد ثغرة في وعي الناس بالانتماء إلى كيان واحد موجود فعلا لا خيالا.

ونرى أن التخوفات الحالية تبالغ في إظهار حرصها على الدولة، وفي الحقيقة هي تستشعر خروج سلطة القرار السياسي والاقتصادي من يديها وانتقاله الى فئات المحرومين من المشاركة السياسية منذ الاستقلال والتأسيس. إنها ترى عائدات الثروات الطبيعية سواء قلت أو كثرت تتحول إلى تمويل الجهات ضمن نظام موازنة جديد (لم يوضع بعد، ولكن نموذج الكامور واحتجاجات الحوض المنجمي تفرضه بصمت وأناة).

هناك احتمال كبير أن يعاد توزيع الثروة طبقا للحاجات وليس طبقا لرؤية مركزية أنتجت التفاوت الجهوي الذي يعيق تقدم جهات كثيرة ويفيد جهات دون أخرى. أمام هذا الاحتمال الواعد للجهات يتعالى النواح على الدولة؛ كما لو أن المحتجين ليسوا مواطنين فيها أو كأنهم أعلنوا الاستقلال عنها وبناء دولة أخرى في مناطقهم.

حكومة المشيشي في منعرج تاريخي

عودا إلى الاتفاق، نجد أن السيد المشيشي قد سالم المحتجين واتفق معهم دون استعمال آلة الدولة القمعية ضدهم، فيكون بذلك قد برّأ نفسه من قرار ضربهم في آخر أيام حكومة الفخفاخ (رغم أنه كان وزير الداخلية فيها)، ونهج نهجا سلميا فوصل إلى اتفاق بث في النفوس الكثير من الطمأنينة. ويجب الإقرار بأن الرجل تحلى بحكمة كبيرة وكشف رؤية سياسية لم يتوقعها الكثيرون عنده، وهو الإداري المختص في القانون (ابن التصورات المركزية) ولم تعرف عنه رؤية سياسية واضحة قبل ظهوره.

هل يطور رؤيته هذا ليحل معضلة تعطل إنتاج الفوسفات في منطقة الحوض المنجمي، وهي أهم ثروة وطنية والاحتجاج فيها أقدم من الثورة نفسها بل كان إرهاصات الثورة؟ علما أن كثيرا من المناطق بدأت بعد اتفاق الكامور تتحدث عن حقوقها على الأرض التي نشأت عليها، كالحق في المياه ومقاطع الرخام والغابات الخ.. (حديث يستفيد منه حتى الآن المتباكون على المركزية)، لكن الحكومة وضعت نفسها في موضع من عليه الإنصات والإنصاف (وقد قطعت على نفسها طريق استعمال القوة).

إلى أي حد قد تذهب هذه الحكومة في تعديل النظام السياسي على أسس الاتفاق الأخلاقي والسياسي مع شباب الكامور؟ هل تستخرج منه رؤية أوسع وتربطه بالباب السابع من الدستور، وتعيد بناء الموازنة على أساس المحلي قبل المركزي؟

هذا أفق لمشروع سياسي جديد لدولة جديدة ومؤسسات حكم جديدة تتجاوز أولا الرؤية المتكلسة التي يدافع عنها رئيس الدولة الحالي، وتتجاوز كل تراث البورقيبية السياسي.

هل يقدر المشيشي على مواجهة أمر مماثل؟ لم نكن نتوقع أن يبدأ وقد بدأ ورفع سقف التحديات عاليا أمام النخبة وأمام الأحزاب، والزمن حتى الآن يقدم له فرصة بحجم إعادة تأسيس دولة.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، المشيشي، الكامور، بقايا فرنسا،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 10-11-2020   المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
د. أحمد محمد سليمان، محمد عمر غرس الله، أحمد النعيمي، ضحى عبد الرحمن، منجي باكير، صالح النعامي ، د. مصطفى يوسف اللداوي، د. خالد الطراولي ، سفيان عبد الكافي، سعود السبعاني، إياد محمود حسين ، عبد الرزاق قيراط ، مصطفي زهران، أبو سمية، عبد الله زيدان، د - صالح المازقي، بيلسان قيصر، تونسي، د- هاني ابوالفتوح، حميدة الطيلوش، د. أحمد بشير، أحمد ملحم، حسني إبراهيم عبد العظيم، د - المنجي الكعبي، رضا الدبّابي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، أنس الشابي، مصطفى منيغ، محمد أحمد عزوز، محمود طرشوبي، سامح لطف الله، عبد العزيز كحيل، خالد الجاف ، د - الضاوي خوالدية، الهيثم زعفان، محمود سلطان، رمضان حينوني، عبد الغني مزوز، ماهر عدنان قنديل، د - شاكر الحوكي ، د. كاظم عبد الحسين عباس ، سامر أبو رمان ، د- محمد رحال، إيمى الأشقر، رافع القارصي، محمد شمام ، أحمد الحباسي، أحمد بوادي، فتحي العابد، محمد يحي، الناصر الرقيق، مراد قميزة، العادل السمعلي، سيد السباعي، المولدي اليوسفي، أحمد بن عبد المحسن العساف ، المولدي الفرجاني، د - محمد بنيعيش، د - محمد بن موسى الشريف ، وائل بنجدو، محمد الطرابلسي، د- جابر قميحة، رحاب اسعد بيوض التميمي، عبد الله الفقير، حاتم الصولي، إسراء أبو رمان، يزيد بن الحسين، عزيز العرباوي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، سليمان أحمد أبو ستة، د. صلاح عودة الله ، رشيد السيد أحمد، مجدى داود، صلاح المختار، يحيي البوليني، نادية سعد، فتحي الزغل، صباح الموسوي ، عواطف منصور، عمر غازي، علي عبد العال، خبَّاب بن مروان الحمد، أ.د. مصطفى رجب، كريم السليتي، جاسم الرصيف، محمد اسعد بيوض التميمي، حسن عثمان، فتحـي قاره بيبـان، محمد علي العقربي، د - عادل رضا، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، د. طارق عبد الحليم، د- محمود علي عريقات، د - مصطفى فهمي، د. عادل محمد عايش الأسطل، سلام الشماع، رافد العزاوي، صفاء العراقي، طلال قسومي، محمد العيادي، د. عبد الآله المالكي، محمود فاروق سيد شعبان، الهادي المثلوثي، كريم فارق، علي الكاش، فهمي شراب، صلاح الحريري، أشرف إبراهيم حجاج، فوزي مسعود ، صفاء العربي، د.محمد فتحي عبد العال، محمد الياسين، حسن الطرابلسي، محرر "بوابتي"، سلوى المغربي، عراق المطيري، طارق خفاجي، ياسين أحمد، عمار غيلوفي،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة