البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

تونس: معركة الإعلام وإعادة التفاوض على المشترك الوطني

كاتب المقال عادل بن عبد الله - تونس   
 المشاهدات: 1747



قد يبدو من المبالغة أن نتحدث عن الصراع حول إعادة التفاوض على المشترك الوطني (أو الهندسة المجتمعية)، وعلاقة ذلك بتنقيح المرسوم 116 المؤرخ في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 والمنظم لقطاع الإعلام في تونس (وهو مرسوم رئاسي صدر عن السلطة المؤقتة في الفترة التأسيسية). ولكنّ إلقاء نظرة على طبيعة السجلات اللغوية أو الجمل السياسية التي تتصارع في هذا الملف ينبؤنا بأن الرهان يتجاوز المستوى الإعلامي البحت، ليرتبط بالمستوى المجتمعي وما يعنيه ذلك من إمكان تغيير شروط التفاوض على إعادة هندسة المجتمع بصورة قد لا تتوافق مع أطروحات العديد من الفاعلين الجماعيين، خاصة منهم أولئك الذين يُعرفون أنفسهم بالانتماء للقوى الحداثية والديمقراطية والتقدمية.

المرسوم ومشروع القانون: نحو إعادة بناء الحقل السياسي

رغم أنّ موضوع النزاع هو مرسوم (أي لا يرتقي إلى مرتبة القانون) ورغم صدوره في مرحلة انتقالية يعلم الجميع دورها الكبير في مأسسة أهداف الثورة بصورة تجعل منها مجرد تعديل صوري للمنظومة القديمة، فإن تقدم كتلة ائتلاف الكرامة بمشروع قانون لتنقيح المرسوم 116 أثار عاصفة من الردود، بل من الضربات الاستباقية التي حاولت نزع المشروعية (بل الشرعية) عن الائتلاف بقرار نقابة الصحافيين مقاطعته، والتزام الأغلب الأعم من وسائل الإعلام بهذا القرار الذي يحرم كتلة نيابية من حقها في الوصول إلى التونسيين والدفاع عن أطروحاتهم. وهو أمر كانت له آثار غير مقصودة، لأنه أكّد من حيث لا يقصد حاجة القطاع الإعلامي وهيكله التعديلي (الهايكا) إلى إصلاح جذري يجعل كل الأطراف في مأمن من الاستهداف الممنهج وسياسات الكيل بمكيالين.

بصرف النظر عن صمت رئيس الجمهورية عن حرمان طيف سياسي كامل من حقه في التعبير والوصول إلى التونسيين (وهو الذي نصّب نفسه بحكم غياب المحكمة الدستورية، الجهة التحكيمية الأولى في النزاعات الدستورية)، وبصرف النظر عن انخراط الرئيس في هذا الصراع في بلاغ رئاسة الجمهورية الذي "حذّر" منذ البدء من "خطورة خرق أي مبادرة تشريعية لأحكام الدستور أو خضوع بعض المبادرات في مخالفة واضحة لنص الدستور"، وأكّد دعمه "للصحفيين الشرفاء وإيمانه بضرورة التعويل على آليات التعديل والتعديل الذاتي" (رغم أنّ المرسوم 116 سابق للدستور الجديد زمنيا، ورغم أنه كان خاضعا في صياغته لـ"الحسابات ومصالح الأحزاب أو اللوبيات السياسية والإعلامية" التي ترسّبت منذ عهد المخلوع وكانت وراء صياغة المرسوم بتلك الطريقة، ورغم فشل منطق "التعديل الذاتي" الذي كان دائما مجرد ذريعة لمنع أي إصلاح حقيقي لكل القطاعات)، وبصرف النظر كذلك عن شبهات تعارض مقاطعة الإعلام لائتلاف الكرامة مع الفصل 31 من الدستور (حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يمكن ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات)، والفصل 32 (تضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة. تسعى الدولة إلى ضمان الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال).. بصرف النظر عن ذلك كله، فقد جاء مشروع التعديل ليعيد هندسة الحقل السياسي ويُرسّخ الاستقطابات التي كانت تحكمه بصورة مخاتلة حينا وصريحة أحيانا أخرى.

دفاع عن حرية التعبير أم قمع للاختلاف؟

لقد أكّد قرار نقابة الصحافيين بتواطؤ الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، بل مع صمت ما يسمّى بمنظمات المجتمع المدني، بمنع كتلة نيابية كاملة من حقها في الظهور الإعلامي (مع ما يعنيه ذلك من حرمان هذه الكتلة من حقها في التعبير والوصول إلى عموم التونسيين حتى في القنوات العمومية التي يدفع لها الناخبون أداء ضريبيا منتظما)؛ أنّ الإعلام يحتاج فعلا إلى إصلاح، وذلك بصرف النظر عن موقفنا من مشروع التعديل الذي تقدم به ائتلاف الكرامة أو المشروع الذي تقدمت به الحكومة السابقة، ثم سحبته هذه الحكومة لتعيد الكتلة الديمقراطية طرحه على أنظار مجلس النواب.

ورغم أن تونس ما زالت تتصدر الدول العربية في مؤشر حرية الصحافة (حيث تحتل المرتبة 72 عالميا حسب منظمة " مراسلون بلا حدود")، فإن هذا الترتيب لا يعني الكثير في دولة كان من المفروض أن تجعلها الثورة في مرتبة أفضل، بحيث لا يكون معيار المقارنة هو واقع الحريات الصحافية في الدول العربية، بل واقع تلك الحريات في الـ71 دولة التي تسبقنا في الترتيب عالميا.

إن معركة حرية الإعلام هي معركة هندسة اجتماعية بالضرورة. فالإعلام ليس سلطة رابعة كما كان الشأن قبل هيمنة "نظام التفاهة" كما أسماه الباحث الكندي آلان دونو، بل أصبح الركيزة/ المظهر الأهم في ذلك النّظام المعولم، أي السلطة التي تعكس توازنات باقي السلطات والفاعل الأكثر تأثيرا في بناء الرأي العام وتزييف الوعي وتعليبه بصورة تخدم الأطراف المتحكمة في الثروات المادية والرمزية وآليات تحصليها وتوزيعها.

كما أن الإعلام التونسي قد أكّد أكثر من مرة أنه قد أصبح عائقا أساسيا أمام إعادة التفاوض على المشترك المواطني (الكلمة السواء)، وذلك لاندراجه الصريح في الدفاع عن أساطير "النمط المجتمعي التونسي" ضد "الظلامية" و"الرجعية" و"التطرف" (وهي مخاطر يحملها حسب رأيهم الإسلامُ السياسي وكل من يتحالف معه أو يقترب منه سياسيا أو إيديولوجيا)، أي اندراجه في عمليات وصم/ شيطنة كل الخطابات التي تسائل تلك الأساطير التأسيسية، أو تدعو إلى أخذ مسافة نقدية منها ومن النواة الصلبة التي تتحكم فيها من وراء المرسوم وغيره.

ولذلك فإن الهجمة التي يتعرض لها مشروع تنقيح المرسوم 116 ليست دفاعا مبدئيا عن حرية الصحافة؛ في بلد يعلم الجميع أن صحافته الخاصة مرهونة للرأسمال السياسي وصحافته العمومية مرهونة لورثة الشُّعب المهنية وحلفائهم في اليسار الاستئصالي، بل إن تلك الهجمة هي دفاع عن احتكار النخب المُعلمنة (على مذهب اللائكية الفرنسية المتطرفة) لأدوات التواصل الجماهيري ومنع أي تغيير جذري لهذا الواقع.

ختاما، فإننا واعون بأن مرور مشروع التعديل لن يعنيَ تحرر الإعلام في رمشة عين من سلطتي المال والأيديولوجيا، ولن يعنيَ أيضا انتهاء الجدل حوله، خاصة بعد موقف الرئاسة الرافض لهذا التعديل، بحيث من المرجّح أن يرفض الرئيس إمضاء مشروع القانون وأن يعيده للبرلمان، ولكننا نؤمن بأن التعديل قد يكون خطوة "تقدمية" في سبيل تنويع مصادر التلقي الجماعي، وهو تنويع سيساهم في تغيير شروط التفاوض على إعادة هندسة المجتمع، بحيث نخرج من المأزق التاريخي الذي أوصلتنا إليه أساطير النمط المجتمعي التونسي من جهة أولى، وانتهازية أغلب النخب "الثورية" و"الإصلاحية" من جهة ثانية.

ولكن علينا عدم المبالغة في التفاؤل إلا بمنطق واحد؛ هو الدفع بتناقضات هذه النخب المتصارعة إلى أقصاها، وهو ما قد يكون تمهيدا لتغيير مواقفها وبناء تسويات جديدة انطلاقا من موازين الضعف (لأن موازين القوة لا تكون إلا في مجتمع ذي سيادة)، أو إظهار لا وظيفية كل المتصارعين أمام عموم المواطنين، بما قد يمهّد لظهور فاعلين جماعيين آخرين لا تحكمهم "النظرة العمياء" على حد عبارة فرانز فانون (مع ضرورة تغيير المقاربة من تفكيك للعنصرية وللاستعمار المباشر إلى تفكيك للسرديات الأيديولوجية التي تحولت إلى أكبر حليف للمنظومة القديمة وللاستعمار غير المباشر، رغم كل ادعاءاتها ومزايداتها)


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، الإعلام، منشور 116، التبعية، تحرير الإعلام، المنظومة القديمة،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 27-10-2020   المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
جاسم الرصيف، د - شاكر الحوكي ، عواطف منصور، صلاح المختار، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، أحمد النعيمي، سامر أبو رمان ، عمار غيلوفي، علي عبد العال، إيمى الأشقر، د. مصطفى يوسف اللداوي، فهمي شراب، حسن عثمان، محمد علي العقربي، د. كاظم عبد الحسين عباس ، إياد محمود حسين ، عبد الله الفقير، محمد أحمد عزوز، منجي باكير، د. أحمد بشير، الهيثم زعفان، العادل السمعلي، ياسين أحمد، أشرف إبراهيم حجاج، سليمان أحمد أبو ستة، محمد الياسين، محمد يحي، يحيي البوليني، يزيد بن الحسين، د- هاني ابوالفتوح، د- جابر قميحة، د. ضرغام عبد الله الدباغ، د - المنجي الكعبي، طلال قسومي، المولدي اليوسفي، د. عادل محمد عايش الأسطل، رضا الدبّابي، أحمد الحباسي، د. عبد الآله المالكي، كريم فارق، تونسي، د - محمد بن موسى الشريف ، محمد عمر غرس الله، محمد الطرابلسي، سامح لطف الله، صلاح الحريري، عبد العزيز كحيل، أحمد بن عبد المحسن العساف ، خالد الجاف ، د - مصطفى فهمي، محمد شمام ، عزيز العرباوي، حاتم الصولي، د. خالد الطراولي ، د. صلاح عودة الله ، رحاب اسعد بيوض التميمي، صالح النعامي ، طارق خفاجي، إسراء أبو رمان، نادية سعد، محمد اسعد بيوض التميمي، أ.د. مصطفى رجب، فتحي العابد، مصطفي زهران، رافد العزاوي، رشيد السيد أحمد، الهادي المثلوثي، سلوى المغربي، سيد السباعي، صفاء العربي، د - صالح المازقي، د- محمد رحال، محمود سلطان، محرر "بوابتي"، ضحى عبد الرحمن، فتحـي قاره بيبـان، ماهر عدنان قنديل، مجدى داود، د. أحمد محمد سليمان، وائل بنجدو، د - عادل رضا، د - الضاوي خوالدية، د. طارق عبد الحليم، عبد الله زيدان، مصطفى منيغ، حميدة الطيلوش، رمضان حينوني، صباح الموسوي ، أحمد ملحم، عمر غازي، محمود طرشوبي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، محمود فاروق سيد شعبان، أحمد بوادي، أبو سمية، د - محمد بنيعيش، خبَّاب بن مروان الحمد، فتحي الزغل، سلام الشماع، أنس الشابي، حسني إبراهيم عبد العظيم، المولدي الفرجاني، علي الكاش، بيلسان قيصر، كريم السليتي، مراد قميزة، صفاء العراقي، محمد العيادي، سفيان عبد الكافي، سعود السبعاني، عبد الرزاق قيراط ، حسن الطرابلسي، د.محمد فتحي عبد العال، عراق المطيري، الناصر الرقيق، رافع القارصي، د- محمود علي عريقات، فوزي مسعود ، عبد الغني مزوز،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة