البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

تأخر فطام النخبة التونسية عن الأم فرنسا

كاتب المقال نور الدين العلوي - تونس   
 المشاهدات: 1368



أعادت الحماقة الإرهابية التي استهدفت معلمًا فرنسيًا من شاب شيشاني مسلم إلى سطح النقاش في تونس وربما في بلدان المغرب العربي كافة، موضوع العلاقة مع فرنسا، وكشفت أن هناك تونسيين كثر يشفقون على فرنسا أكثر مما يشفقون على أنفسهم، كما أخرجت من الأعماق خطابًا عدائيًا لفرنسا لا يحسن ترتيب حججه ولا لغة خطابه السياسي والاقتصادي، فيقع في عفوية مرضية غير منتجة لموقف أو لقرار.

فرنسا الجميلة المغرية
تعود علاقة التونسيين بفرنسا إلى ما قبل القرن التاسع عشر حين قدمت بقناصلها ثم بقروضها ثم بجيشها واحتلت البلد، صمت التونسيين السريع على وجودها فوق أكتافهم يكشف أن رفضهم لها لم يكن عميقًا، لذلك سرعان ما استولت على أرضهم وحولتهم إلى أقنان فوق مزارعهم، لكن يبدو لي أن تغلغلها في نفوسهم يفوق تغلغلها في أرضهم، فقد قدمت لهم وجه الحضارة الجميل فعاينوه وأحبوه وانخرط فيه كثير منهم فصار التقدم والرفاه والسعادة المادية فرنسية أو على الطريقة الفرنسية.

لقد بنت لهم مدنًا جميلة لم يسكنوها لكنهم قلدوا عمرانها، وقدمت لهم نموذج عيش مدني رخي فاتبعوه وصارت رؤيتهم للعالم بعيون فرنسية. يختلف الأمر بقدر التحضر، ففي الأرياف البعيدة حيث الشظف والجوع ظلت فرنسا كائنًا غريبًا وربما بغيضًا ومخيفًا (وكافرًا) لكنه موجود ويفرض رؤيته، أما في الحواضر فقد صار نموذج الحياة الفرنسية مطمحًا، وكان تعلم اللغة الفرنسية بابًا للرزق أولًا، لكنه تحول بصمت إلى باب للاندماج في النموذج الثقافي الذي صار نموذجًا حضر المدن بامتياز.

يسمي التونسيون فرنسا (العَكْرِي) ولم أعرف أصل التسمية ولكن كل ما فعلته العكري متين وجميل وعبقري، لقد تحولت إلى مقياس لكل شيء ولكل فعل، فلما انصرفت جيوشها عن البلاد تحولت إلى نافذة وحيدة للإطلال على العالم، فسافرت النخب إلى باريس للتعلم وعادت من هناك إلى حكم البلد بروح فرنسية، ودون أي اتهام بالخيانة أو ضعف الوازع الوطني كانت النخبة تريد بناء تونس على مقياس فرنسا في معمارها (تخطيط البيت الخاص والسكن الجماعي) وحياتها اليومية (المطبخ والملبس والإتيكيت)، فتعمق الإيمان بالنموذج القيادي وسمي ذلك بالتحديث، ويروى عن بورقيبة في تبريره للانفتاح السياحي زمن الاستقلال وبناء الدولة أنه قال: "أريد أن أمدنكم لتصيروا مثل الفرنسيين"، لقد كان أكبر معجب بالنموذج الفرنسي وخاصة المتخيل منه على طريقة أوجيست كونت الذي عشق بورقيبة كتبه وحاول فرضه كبرنامج دراسي في الجامعة، لقد جننت الغانية الفرنسية عشاقها التونسيين حتى الآن.

فرنسا القاهرة اقتصاديًا
بروح مؤمنة بالنموذج الفرنسي كنموذج وحيد للتحديث بنى التونسيون اقتصادهم الجديد فجاء ملحقًا بالاقتصاد الفرنسي، لم يفلح النموذج الاستقلالي للستينيات الذي بناه أحمد بن صالح في فك رباط التبعية، فقد انهار بسرعة قياسية، ولم نعرف بعد دور فرنسا في تخريبه، لكن نعرف أن النموذج الليبرالي الذي تأسس بعده مع الهادي نويرة (وزير أول عقد السبعينيات) فتح الباب للمستثمرين الفرنسيين أولًا. جاء غيرهم من الألمان والإيطاليين، لكن الأسبقية الاستثمارية في الصناعات الخفيفة والسياحة كانت لفرنسا، وحتى اللحظة تعتبر فرنسا أول مستثمر في تونس طبقًا لقوانين الاستثمار القائمة على المناولة، فقد فرضت بقوة امتيازات تنافسية في الاقتصاد التونسي وكانت أول مستفيد منها.

وضع الشريك المهيمن على الاقتصاد التونسي سمح للفرنسيين بمد أرجلهم، فهم قناة التصدير الأولى للمواد الفلاحية وخاصة الزيت (يعاني المنتجون الآن من عقبات التخلص من الهيمنة الفرنسية)، ومن مظاهر الهيمنة الفرنسية المرئية لكل ناظر احتكارها لسوق السيارات الخاصة والشاحنات، حيث يعسر على التونسي الحصول على سيارة غير فرنسية وتسرب السيارة الآسيوية إلى السوق التونسية يجري الآن بالقطرة.

سمحت الهيمنة الاقتصادية بهيمنة سياسية، فالوضع السياسي التونسي يدار من فرنسا في الغالب، وقد كتبت مرارًا أن الرئيس التونسي تختاره فرنسا وينتخبه الشعب التونسي متوهمًا السيطرة على قراره الوطني وقد جسد الخضوع أمام الهيمنة أحسن تجسيد الرئيس التونسي الحاليّ وهو يقبل كتف الرئيس الفرنسي بذلة مهينة، والهيمنة السياسية مهدت لهيمنة ثقافية حيث لا يمكن أن نجد فيلمًا تونسيًا لم تسهم مؤسسات ثقافية فرنسية في تمويله وفرض محتواه وقضاياه.

هذه الهيمنة لم تحمل السلاح بشكل مباشر بل تفشت بفعل موروث الإعجاب بالنموذج الذي بدأ مع الاستعمار في القرن التاسع عشر وبفعل الانبهار بالنموذج السياسي والثقافي الفرنسي الحديث (لما بعد الحرب الثانية خاصة لجهة الترويج للائكية يعقوبية كانت سلاحًا فعالًا ضد كل سؤال الهوية المغيب).

إن نموذج علاقة التونسيين بفرنسا هو مثال مدرسي عن الهيمنة الشاملة والمطلقة التي تمسح منطقة الثقافة والسياسة والاقتصاد وتعمل كل هذه الجوانب في تكريس التبعية والعجز عن اختراع نموذج مستقل وتعددي يستفيد من تجارب غير التجربة الفرنسية السياسية والثقافية، لذلك عندما تصاب فرنسا بصداع يبلع تونسيون كثر الباندول الثقافي خشية انهيار نموذجهم المتخيل، لذلك وقفوا صفًا مع قضية شارلي إيبدو ونموذج العملية الإرهابية الأخيرة ضد المعلم في حين لم نسمع لهم ركزًا يوم حصلت عملية إرهابية مسيحية في نيوزلاندا وقتل فيها متطرف مسيحي أكثر من 50 مسلمًا في مسجدهم. بل لقد تعرضت بلدان أوروبية أخرى لعمليات إرهابية أقسى مما عرفت فرنسا ولم نر ولم نسمع تفاعل النخبة التونسية المتفرنسة مع تلك البلدان.

لذلك أيضًا ذهب مثقفون تونسيون وسياسيون يستجدون تدخل فرنسا المباشر لإنقاذهم من ديمقراطية يشارك فيها الإسلاميون، ولذلك أيضًا ذهب إسلاميون إلى فرنسا يستجدون السلامة كي لا تخرب عليهم مشاركتهم، لذلك وقبله لم يجرؤ سياسي تونسي على قيادة معركة استقلال عن فرنسا يدفع ثمنها ويقبض مغنمها بشجاعة، ولذلك سيظل هناك تونسيون مغرمون يوجعهم ما يوجع فرنسا الغانية المهيمنة، ويتلذذون خضوعهم لها كشواذ في برنوغرافيا مفضوحة.

هل يمكن التحرر من فرنسا؟

بالنخبة الحاليّة يشبه الأمر حلم سجين بالمؤبد بالخروج من سجنه، وأرى أن من يتكلم عن الاستقلال الاقتصادي عن فرنسا عاجز عن تقديم بديل حقيقي غير متوتر بخطاب شعبوي، فعداء فرنسا بخطاب ديني صار غير مجد، كما أن استعادة خطاب الثورة ضدها غير منتج كما نسمعه هذه الأيام.

نظريًا تسمح العولمة والانفتاح الاقتصادي بربط علاقات اقتصادية متعددة تخفف الهيمنة الفرنسية وتعيد ترتيب العلاقة على أساس الندية والحرية، وقد بدأ ذلك فعلًا لكنه كما في حالة دخول السيارة الآسيوية إلى تونس يتم بالقطرة.

القرار السياسي التونسي مرهون لأسباب كثيرة بالهيمنة الفرنسية، فالتخلص من هامش الاقتصاد الفرنسي يطلب ثمنًا موجعًا وسريعًا لا يجرؤ عليه سياسي واحد والشباب الذي سار في الشوارع بشعارات الحرية فقير بل معدم ولا يمكنه الاستقواء ببعضه ليؤلف موقفًا واحدًا ضد هذه الهيمنة، بل إن بعض صغار السياسيين يتخذون خطاب الاستقلال مطية انتخابية ثم يخونوه بسرعة بما يزيد في إحباط كل نفس مستقل أو استقلالي، وكثير من المعدمين الذي (يحرقون) عبر زوارق الموت يحملون في قلبهم حب فرنسا وكرههم لها في وقت واحد فهي عدو لكنه يوفر عملًا ورزقًا.

فرنسا الغانية الجميلة لا تزال تسكن صدور التونسيين، لذلك يجدون لذة في حبها القاسي وهي تجلدهم بالسوط وتغلق السماء المفتوحة في وجوههم، وأقول بأسف مرير أن زمن التحرر من فرنسا لا يزال بعيدًا، لذلك سنرى التونسيين يتناولون الباندول كلما أصيبت فرنسا بصداع وأقصى أمانيهم الآن أن يواصلوا رفع شعارات ضدها بلسان فرنسي (مثل قولهم ديقاج).


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، فرنسا، بقايا فرنسا، التبعية،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 23-10-2020   المصدر: نون بوست

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
أحمد الحباسي، محمد عمر غرس الله، أ.د. مصطفى رجب، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، سلوى المغربي، حميدة الطيلوش، د - محمد بن موسى الشريف ، عراق المطيري، صفاء العربي، رشيد السيد أحمد، سامر أبو رمان ، محمود فاروق سيد شعبان، د- محمد رحال، أحمد النعيمي، أحمد ملحم، د - شاكر الحوكي ، صلاح الحريري، عمر غازي، د - صالح المازقي، عبد الرزاق قيراط ، رحاب اسعد بيوض التميمي، محمد الطرابلسي، ماهر عدنان قنديل، إياد محمود حسين ، مصطفى منيغ، فتحي العابد، د. عبد الآله المالكي، محمد الياسين، د. مصطفى يوسف اللداوي، محمود سلطان، د - الضاوي خوالدية، إيمى الأشقر، د- محمود علي عريقات، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، د. كاظم عبد الحسين عباس ، رضا الدبّابي، منجي باكير، أحمد بوادي، رافد العزاوي، عبد الله زيدان، جاسم الرصيف، محمد شمام ، عمار غيلوفي، حسن عثمان، د. خالد الطراولي ، أبو سمية، كريم فارق، صلاح المختار، مجدى داود، نادية سعد، حسن الطرابلسي، حسني إبراهيم عبد العظيم، علي الكاش، فتحي الزغل، د.محمد فتحي عبد العال، مصطفي زهران، الهادي المثلوثي، ضحى عبد الرحمن، د - عادل رضا، فتحـي قاره بيبـان، صفاء العراقي، أشرف إبراهيم حجاج، خبَّاب بن مروان الحمد، عبد الغني مزوز، د. صلاح عودة الله ، رمضان حينوني، د. أحمد بشير، د. ضرغام عبد الله الدباغ، سامح لطف الله، د. أحمد محمد سليمان، الناصر الرقيق، يحيي البوليني، د. طارق عبد الحليم، الهيثم زعفان، يزيد بن الحسين، محرر "بوابتي"، محمد أحمد عزوز، ياسين أحمد، العادل السمعلي، فهمي شراب، صباح الموسوي ، فوزي مسعود ، عواطف منصور، علي عبد العال، حاتم الصولي، د- هاني ابوالفتوح، د- جابر قميحة، وائل بنجدو، د - محمد بنيعيش، أحمد بن عبد المحسن العساف ، د. عادل محمد عايش الأسطل، المولدي الفرجاني، محمد يحي، تونسي، طلال قسومي، إسراء أبو رمان، عزيز العرباوي، سيد السباعي، سلام الشماع، مراد قميزة، د - مصطفى فهمي، سعود السبعاني، سليمان أحمد أبو ستة، صالح النعامي ، خالد الجاف ، محمد اسعد بيوض التميمي، سفيان عبد الكافي، رافع القارصي، كريم السليتي، محمود طرشوبي، د - المنجي الكعبي، محمد العيادي، عبد الله الفقير، أنس الشابي،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة