تشكل فكرة الإرهاب الإسلامي إحدى أكثر الأساطير شيوعا في العالم الغربي المعاصر، بحيث بات الحديث عن الإرهاب الإسلامي لازمة خطابية متداولة من لدن الزعماء السياسيين الغربيين، من ترامب إلى ماكرون، وهي مادة إعلامية رئيسية في تناول قضايا العالم الإسلامي، تضخمت منذ هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر.
وتتفرع أسطورة الإرهاب الإسلامي عن أسطورة العنف الديني، وهي من أكثر الأساطير شرعية في الغرب الحديث. فثمة فكرة شائعة في المجتمعات الغربيّة تنص على أنّ الدين يتوافر على نزعة تشجّع على العنف، وإذا كانت هذه الفكرة رائجة بخصوص الأديان عموما، فإن مسألة عنف الدين الإسلامي تقدم على كونها حقيقة لا مجال للتشكيك فيها، الأمر الذي جعل من الربط بين الإسلام والعنف والإرهاب مسألة أقرب إلى البداهة، ازدهرت مع رواج أسواق المقاربة الاستشراقية والثقافوية.
تبرز فكرة العنف الديني كأسطورة حسب وليام كافانو بوضوح في العديد من المؤسسات والسياسات الغربية، بدءا من الحدّ من الدور العمومي للكنائس، وصولا إلى الجهود المبذولة لتعزيز الديمقراطية الليبرالية في الشرق الأوسط. فما يطلق عليها "أسطورة العنف الديني"، هي الفكرة القائلة بأنّ الدين، بما هو سِمَة عابرة للثقافة والتاريخ وللحياة الإنسانيّة، مختلفٌ جوهرياً عن السمات "العلمانية" كالسياسة والاقتصاد، وذلك لأنّه يحمل ميلا مخصوصا وخطيرا نحو العنف، ومن ثمّ فلا بدّ من كبحه ومنعه من الوصول إلى السلطة العامة. وهكذا تظهر الدولة القوميّة العلمانيّة باعتبارها طبيعيّة، متوافقة مع الحقيقة الكونيّة العابرة للزمن حول الأخطار المتأصّلة في طبيعة الدين.
لقد أشار طلال أسد إلى أنه "لا يرى شيئا أقل معقولية ووجاهة من الإدعاء القائل بأن العلمانوية وسيلة أساسية لتجنب الصراع المدمر ولإرساء السلام في العالم الحديث"، وشدد على أنه "لا ينبغي أن ننسى أننا مدينون بنماذج القهر الأكثر فظاعة في الأزمنة الحديثة لأنظمة شمولية علمانية كالنازية والستالينية، بحيث يتحتم علينا القول بأن قسوة الممارسة العلمانية لم تترك شيئا لوحشية الديني".
وعلى أبعد تقدير، فإن السجل التاريخي للعلمانويات فيما يتعلق بالعنف سجل مختلط يقينا، ولكن ذلك هو حال بدائل العلمانوية أيضا، وربما مقولات من قبيل "العلماني" و"الديني" هي بحد ذاتها مقولات ذات قدرة تفسيرية محدودة فيما يتعلق بالعنف. فحسب تشارلز تايلور ليس ثمة "إجابات مقنعة تماما لهذه الأسئلة التي تجابهنا جميعا، بغض النظر عن معتقداتنا الميتافيزيقية أو الدينية".
إن الاتهامات التي يوجهها الكثيرون اليوم إلى الدين عموما والدين الإسلامي خصوصا، بوصفه العامل الأساسي في الصراعات الدموية عبر التاريخ، التي تضم قائمة لا نهاية لها من أنصار المقاربات الاستشراقية والثقافوية فضلا عن تيار الإلحاد الجديد، لا تتوافر على حقائق علمية وتاريخية وموضوعية، إذ تبرز المفارقة بجلاء خلال القرن العشرين، ففي ظل أفول الدين وانحسار هيمنته على الحياة، لم يزدد الوضع إلا سوءا، حيث كان القرن الماضي بحربيه العالميتين ولأسباب غير دينية تماما، هو القرن الأكثر دموية في تاريخ البشرية برمته، فالأيدولوجيات والمؤسسات الموصوفة بـ"العلمانية" يمكن أن تكون على ذات الدرجة من العنف من تلك الموصوفة بـ"الدينية"، وتتفوق عليها.
تكشف الحوادث الإرهابية البيضاء المتنامية التي ينفذها عناصر ومجموعات من اليمين المتطرف وغيرها من الأيديولوجيات، عن الطبيعة السياسية الغربية الانتهازية لاستخدام مصطلح الإرهاب، حيث يتحول المصطلح إلى مفهوم ذاتي غير موضوعي ومفروض وغير مفترض. فسلطة القوة السيادية الانتقائية هي من تتحكم في تعريف ماهية الإرهاب ومادته، وتحدد هوية الإرهابي وكينونته.
وإذا كان الخطاب السياسي الغربي الذائع منذ أحداث أيلول/ سبتمبر في أمريكا يقوم على الربط بين "الإسلام" و"الإرهاب"، فقد بات شائعا منذ أحداث "شارلي إيبدو" في فرنسا أن "ليس كل المسلمين إرهابيين، ولكن كل الإرهابيين مسلمون"، وبهذا فقد أصبح مفهوم "الإسلام" ينطوي على صفة هوياتية جوهرانية ستاتيكية ترتبط دلاليا بالشر والفساد، في مقابل مفهوم "الغرب" الذي يشكّل هوية آخرية تتسم بحيوية ديناميكية ترتبط بالخير والصلاح. فسياسات الهوية والإرهاب الأمريكية والأوروبية غدت تحدد ماهية الإرهاب بهوية الفاعل وليس بذات الفعل الإرهابي، فظاهرة تشييء الإسلام ليس بوليد اللحظة، أو بسبب ما يسمّى "الإرهاب الإسلاميّ"، إنّما هو محاولة معرفيّة وسياسيّة للهيمنة.
بات واضحا منذ نهاية الحرب الباردة أن الوصم بـ"الإرهاب" أصبح صفة ترتبط بـ"الإسلام"، رغم أن نسبة الهجمات "الإرهابية" التي ارتكبها المسلمون في الولايات المتحدة ضئيل جدا، كما هو الحال في أوروبا، ومع ذلك تذهب التفسيرات الغربية إلى المطابقة بين الإسلام والإرهاب، وترتفع الأصوات الغربية التي تطالب المسلمين بالتبرؤ من "الإرهاب" والعنف.
وهكذا، يوضع الإسلام حسب جوزيف مسعد في حالةِ تعارضٍ مع نقائضَ معيّنةٍ، كالمسيحيّة، والغرب، والليبراليّة، والفرديّة، والديمقراطيّة، والحريّة، والمواطنة، والعلمانيّة، والعقلانيّة، والتسامح، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والحقوق الجنسيّة. وفي حالةِ توافقٍ مع معانٍ أخرى تُعّرف كمرادفاتٍ له كالاضطهاد، والقمع، والاستبداد، والشموليّة، والإخضاع، والظلم، وعدم التسامح، واللاعقلانيّة، والقسوة، وكره النساء، ورهاب المثليّة.
يحاجج كافانو بأنّ السعي لتعيين مفهوم عابر للثقافة والتاريخ لـ"الدين"، بوصفه يمتلك نزوعا أصليا لإنتاج العنف، هو واحد من الأساطير المؤسسة لشرعيّة الدولة القوميّة الليبرالية في المجتمعات التي يطلق عليها "غربيّة"، ذلك أنّ أسطورة العنف الديني تساعد في تأسيس فكرة الآخر الديني ومن ثمّ تهميشه، حيث يصبح الميل للتعصّب هو الوجه المقابل للذات العقلانية، الحريصة على السلام، والعلمانية، ويمكن أن تُستعمل هذه الأسطورة، بل وتستعمل، في السياسات الداخليّة لشرعنة تهميش أنواع معيّنة من الجماعات والممارسات الموصوفة بـ"الدينية"، في الوقت الذي تُصادق فيه على احتكار الدولة القوميّة لاستعداد مواطنيها للتضحية والقتل على مستوى السياسة الخارجيّة.
وبهذا، تُستخدم أسطورة العنف الديني لقولبة الأنظمة الاجتماعية غير العلمانية، بالأخصّ المجتمعات المسلمة، في قالب "الشرير". فهم لم يتعلّموا بعد ضرورة نزع الآثار الخطيرة للدين من الحيّز السياسي، ومن ثمّ فإنّ عنفهم غير عقلانيّ ومتعصّب. أمّا عنفنا، العلماني، فهو عنف عقلاني، يسعى للسلام، وهو مع الأسف عنفٌ ضروريّ لاحتواء عنفهم، إننا نجد أنفسنا مجبرين على تفجيرهم ليصبحوا ديمقراطيين ليبراليين!
إن الجدل حول العلماني والديني، والطبيعة المتداخلة لكليهما كتوأم سيامي، تجعل من إسناد العنف لطبيعة مترسخة في تكويناتهما بعيدا عن الصواب، فالحال أن قلة من الأنثروبولوجيين، حسب سيندر بانجستاد، يمكن أن يعتبروا أنفسهم مؤهلين بالقدر الكافي لحسم مسألة ما إذا كانت الحركات التوتاليتارية الحديثة في أوروبا القرن العشرين تمثل تعبيرا عن ممارسة "علمانية" أو "دينية"، أو كليهما.
نعم، لا مجال واسعا للشك في أن تجارب التوتاليتاريات "الغربية" الطوباوية الحديثة مع الإصلاح السياسي والاجتماعي قد أطلقت للعنف العنان، وخلفت فظاعات في القرن العشرين. ولكن ربما يود المؤرخ، مع ذلك، أن يعرف ما إذا كان "العلماني" بما هو كذلك؛ هو ما يفسر "وحشيته" المزعومة، أم إن السياقات السياسية والاجتماعية المخصوصة وطبيعة الأنظمة التوتاليتارية التي طُبِقت فيها الرؤية "العلمانية" هي ما تفسرها.
إن كل حِجاج يرمي إلى نفي علاقة العلمانية بالعنف، يواجه ببراهين أقوى لنفي علاقة الدين بالعنف. فحسب طلال أسد، ثمة صعوبة بتحديد الدوافع الدينية، "فلتعيين دافع ديني للعنف، ينبغي للمرء أن يمتلك نظرية في الدوافع تتعامل مع مفاهيم الطباع والاستعدادات والحالة الجوانية ووضوح الرؤية والمفكر فيه واللامفكر فيه". فثمة شبه إجماع على أن الأنظمة التوتاليتارية الحديثة في أوروبا القرن العشرين، كالنازية والبلشفية، قد اعتمدت على نحو كبير ومتسق على متخيلات ورموز ذات طبيعة شبة دينية، وأن الجماهير التي جيّشتها يمكن القول بأنها قد كانت، ومن كل اعتبار، جماهير متدينة تماما، وبعبارة أخرى، بل ذهب زيجمونت باومن إلى أن فظاعات المحرقة هي نتاج التنوير.
خلاصة القول بأن استخدام مصطلح الإرهاب الإسلامي لا يعدو عن كونه أحد أكثر الأساطير الغربية شيوعا التي تُستخدم للهيمنة والقمع، وهو نتاج أسطورة العنف الديني المتهافتة، التي تتلازم مع ادعاء العلمانوية بأنها كانت وسيلة أساسية لتجنب الصراع المدمر وإرساء السلام في العالم الحديث، وهي أسطورة تفضحها النازية والبلشفية والكولونيالية، والحروب العالمية، إذ تكشف عن استعدادية العلماني للعنف والقهر.
وإذا كان العنف ظاهرة إنسانية معقدة تستند إلى أسباب وظروف وشروط موضوعية سياسية واقتصادية، فلا بد أن نتجاوز أسطورة العنف الديني والعلماني، والخروج من أسطورة الإرهاب الإسلامي، والالتفات إلى الأسباب العميقة والجذرية للعنف عموما والعنف السياسي خصوصا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: