سلطان الفصاحة وفصاحة السلطان والحداثة المعطوبة.. تونس نموذجا
أحمد القاسمي المشاهدات: 2267
تصدير:
"وكان كلفه بالسجع في الكلام والقول، عند الجد والهزل، يزيد على كلف كل من رأيناه في هذه البلاد، قلت لابن المسيبي: أين يبلغ ابن عباد في عشقه للسجع؟ قال: يبلغ به ذلك لو أنه رأى سجعة تنحل بموقعها عروة الملك، ويضطرب بها حبل الدولة، ويحتاج من أجلها إلى غرم ثقيل، وكلفة صعبة وتجشم أمور، وركوب أهوال لما كان يخف عليه أن يفرج عنها ويخليها، بل يأتي بها ويستعملها، ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها".
وكانوا يزعمون أن سجعة اضطرته إلى عزل قاضي مدينة قم: فإن قال يوما: أيها القاضي بقم، ثم حاول أن يكمل السجع فأعنته ذلك فقال: قد عزلناك، فقم. ويبدو أن إغرامه بالسجع على هذا النحو كان قديما فيه، فقد روى الرواة عن ابن العميد أنه قال: "خرج ابن عباد عمن عندنا من الري متوجهًا إلى أصفهان وطريقة رامين، فجازوها إلى قرية غامرة، وماء ملح لا لشيء إلا ليكتب إلينا: كتابي هذا من النوبهار، يوم السبت في نصف النهار".
شوقي ضيف نقلا عن الإمتاع والمؤانسة ويتيمة الدهر
السياسة في العالم العربي قلّب والطريق إلى سلمها طويل وشائك. وكثيرا ما تتحول ودروبها إلى متاهة لمن لم يخبر منظومة الحكم ويحسن ملاعبتها. فقد أفنى كثيرون العمر بحثا عن الرئاسة أو الوزارة وبدد آخرون ثروات ضخمة لجهات إعلامية وتسويقية تصنع الرأي العام، ووظفوا مختصين في الدعاية والعلاقات العامة. وبدد من لا مال له ماء الوجه هباء وقدمه قربانا لكرسي لم يحصل عليه.
وليس عالمها في تونس غير تقليب على الأصل نفسه. فرغم قيام الثورة وتغير اللاعبين الأساسيين قد ظلت المنظومة تشتغل بالقانون نفسه: ضرورة الولاء والطاعة للمسؤولين المتنفذين ودعم العائلة أو الجهة أو لوبيات المال والأعمال.
وفي هذا السياق المشبع بالتشاؤم استطاعت بعض الشخصيات غير النمطية، والقادمة من خارج المنظومة التقليدية التسلل لتحتل صدارة المشهد السياسي. فمثل ظهورها انقلابا مفاجئا ومربكا. وفي هذه الورقة نسلط الضوء على شخصيتين بينهما الكثير من التقاطع ونحاول من خلالهما أن نغوص في اللاشعور السياسي الجمعي.
1 ـ رجلان من خارج المنظومة
مثل كل من قيس سعيد ـ الرئيس التونسي الحالي، ووليد الزيدي وزير الثقافة خرقا لهذه المنظومة فكلاهما أكاديمي ينصرف إلى مباحثه ولا يكاد ينخرط في الشأن العام. وكلاهما غريب عن عالم السياسة والأهم أن كليهما لا يكاد يتكلم في تواصله اليومي، على الأقل أوان الظهور الإعلامي، بالعامية التونسية ويختار بدلا منها العربية الفصحى. وكلاهما ميّال إلى أساليبها التقليدية، إلى العبارة الفخمة الجزلة وإلى البناء المركب والمفردة القديمة حتى رُدّ هذا الصعود إلى هويتهما اللغوية أساسا.
فقد شكل قيس سعيد ما عُدّ "تسونامي" سياسي في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية التونسية السابقة لأوانها في أيلول (سبتمبر) 2019 بحصوله على 18.4 بالمائة من أصوات الناخبين. أما في الدور الثاني فقد أحدث الاختراق الحقيقي. فقد حصل على 72.71 من الأصوات. وتحوّل بذلك إلى لغز محيّر يجتهد المحللون كثيرا في تفسيره. فلا أحد كان يعتبره مرشحا جديا. فلا ارتباطات له بعائلة سياسية أو إيديولوجية معينة. وهو وافد إلى عالم السياسة من خارج دوائر المال والأعمال وجماعات الضغط ذات النفوذ ولا تاريخ نضالي له رغم أنه عاش في ظل دكتاتوريتي بورقيبة وبن علي العاتيتين.
وشكل ترشيح وليد الزيدي لوزارة الثقافة مفاجأة للمثقفين مذهلة. فصحيح أنه شاب مكافح أدار إليه الرقاب في بداية 2019 لما أحرز على شهادة الدكتوراه في اللسانيات العربية ببحث عنوانه "وظائف التقديم والتأخير في تأويل القول"، واحتفت به وسائل الإعلام أيما احتفاء، فقد كان أول كفيف يحوز على هذه الشهادة في تونس. وصحيح أن ثقافته واسعة وذكاءه حاد.. ولكن لا يعرف خصاله العلمية إلا أصحاب الاختصاص الدقيق والمزاملين له بالكلية. فلم تعرف للشاب كتابات مهمة عند عامة المثقفين ولا متابعة حثيثة للمشهد الثقافي ولا اهتماما بالشأن العام أو دراية بدواليب الإدارة. ولا يمكن لإسهامه في الندوات العلمية ذات الصلة بالعلوم اللسانية أو أطروحته التي ناقشها في كانون الثاني (يناير) 2019 والتي لم تنشر بعد، أن تفتح له أبواب الوزارة.
وبصرف النظر عن الرسالة التي يريدها الرئيس عبر ضم كفيف للطاقم الحكومي، يجمع الملاحظون على دور فصاحة الشاب ووقعها على من يستمع إليه في هذا الصعود.
2 ـ من فصاحة السلطان إلى سلطان الفصاحة
بديهي أن يتساءل المرء عن خصائص هذه الفصاحة، وعن علاقتها بارتقائهما السريع في سلم يعسر عبوره. هل هو مستمدّ من سلطة الكلمة؟ وإن صحّ أنّ الأمر كذلك. فأي سلطان للفكرة وللطرح السياسي والخلفية الإيديولوجية في عالم معقد يعوّل على الذكاء الاصطناعي في ضبط خططه وبرامجه، وفي عصر تتراجع فيه الكلمة لتحتل فيه الصورة المكانة الأولى. للأسف لا يتسع مجالنا لدراسة إحصائية استقرائية ولا يحتمل مقامنا دراسة مفصلة لذلك أثرنا أن نعرض بعض الاستنتاجات السريعة حول أسلوب الرجلين وخصائص إجرائهما للغة، وهو ما ينزّل ضمن البحث في الهوية اللغوية للمرء.
مما يميّز أداء قيس سعيد اللغوي اعتماد العربية الكلاسيكية بطريقة مسترسلة لا تلعثم فيها ولا تردد. فيعرب الكلمات إعرابا صحيحا عامة ويتجنب الوقوف على السكون. ويميل إلى الجملة الطويلة المركبة ذات النفس الطويل. وينزع إلى المفردات القديمة ويرغب عن الألفاظ الدخيلة أو الأجنبية. وكما القدماء لا يخلو نثره من "تحلية" بالشعر وأمثلة سارية والحكم وحكايات مقتبسة من عيون الأدب العربي القديم، من حكايات ابن المقفع المثلية ومن قصة المتنبي مع كافور الإخشيدي خاصة. فيسترسل في الكلام بشكل رتيب يصرف عناية المتقبل إلى الآلة اللغوية الغريبة الماثلة أمامه. فلا تتفاعل نبرة الصوت مع السياق الخارجي خفضا أو رفعا أو سرعة أو إبطاءً، أو ضعفا أو قوة.
ولعل ذلك ما كان يلهي عن مضمون الكلام نفسه ويصرف عنه الانتباه. فقد كان الرجل مثلا كثير الإشارة إلى وعود كافور الإخشيدي للمتنبي ليلمح إلى فساد الساسة الذين يعِدون الشعوب بما لن يتحقق، متجاهلا أن القصة وردت في القصيدة الشهيرة خاصة:
وربما يجادلنا البعض في محاسبة الماضي بمعايير الحاضر وفي اعتبار البيت معيبا. ولكن لا يمكن أن نتجادل في أنّه لا يليق بالمرء اليوم، أن يحتفي بالجانب العنصري من المتنبي وأن يصور الإخشيدي بذلك السوء فيحرمه حقه من الإشادة. فهذا الرجل كان على قدر من النبوغ خول له الارتقاء من وضعية الرق والاستخدام في تجارة الزيوت إلى قيادة الجيش المصري ثم إلى حكم مصر لمدة 23 عاما والتوسع إلى بلاد الشام. والمؤرخون أثنوا كثيرا على حكمه واعتبروه عادلا راعيا للأدب والدين.
ولكن الجانب الشكلاني من "فصاحة" الرجل لم يذهل أنصاره فحسب. فقد أصاب الذهول منافسيه أيضا. فسكتوا عن زلته تلك ولم يجعلوها مدخلا لنقده. ولم ينتبه التونسيون إلى أنهم أمام رجل تتضارب أفكاره وينقصه الوضوح الذي يصيب المراد مباشرة دون مواربة وتعميم وتنقصه الخبرة بتسيير دواليب الدولة إلا بعد أن توالى ظهوره بالإيقاع نفسه والغموض نفسه. فزالت عنهم الدهشة. واشتكوا كثيرا من عدم فهمهم لرئيسهم. واضطرت حاشيته إلى أسلوب الحواشي لتفسير خطاباته الغامضة حول "إرادة الشعب" و"الديمقراطية القاعدية" التي تقلب بناء النظام السياسي والإداري فتمنح السيادة للمحلي ليصوغ المركزي ويضع عليه يده.
أما وليد الزيدي فيمثل ظاهرة بلاغية في محيطه الضيق وهوية لغوية مخصوصة ناشئة عما يعتمد من الموازنات التركيبية نحو ما كتب في إعلان انسحابه من التشكيل الوزاري لما سلط عليه من ضغط: "يعلم الله أنّ الوزارة قد أتتني (طوْعا لا كَرها)، ولم (أَرِدْ مواردَها ولم أبلغ مبالغها)، (ويعلم الله أنني لا أرضى بالجامعة بَدَلا، وأُشْهِد الله وأُشْهدكم أنني تعفّفتُ عنها) ـ أو (وأقنع بكلّيّتي، فهي جنّتي، وبدرسي للطلبة فهو بَصَري، وببيْتي فهو سَعْدي ومستقَرّي)" والسجع الذي يقسم الكلام إلى فقرات ذات فواصل وقواف ويخلق الإيقاع الداخلي الذي يتماشى مع الذائقة التقليدية التي ترى الجميل في المتوازن والمنسجم والمتناظر نحو (ولم أَرِدْ مواردَها ولم أبلغ مبالغها) فضلا عن المجازات التي تقلب السمع بصرا وتمنح المجرد جسدا.
ولئن كنا نرصد اتجاهات في أسلوب الرجل فنحن ندرك بكل تأكيد أن العينة التي عرضنا لا تتمتع بالقدرة التمثيلية لدراسة أسلوبه في إجراء الكلام. ولكننا ندرك أيضا أنها مثال جيد لما تعرف عنه من تصيّد للبديع أولا ومن سعي جلي ليرنّ صوت طه حسين في ملفوظه ثانيا. وما يعنينا هنا هو أثر هذه "الفصاحة" في الكشف عن اللاشعور السياسي الجمعي إزاء توجهات السياسة التونسية المعاصرة.
3 ـ من الظواهر المفردة إلى الأنساق الناظمة
بأي معيار يمكننا أن نجد كلام الرجلين فصيحا؟ لا نقصد بالفصاحة دلالتها الأولى في المعاجم شأن: "فصح اللبن فصحا وفصاحة أي خلص مما يشوبه فأخذت عنه رغوته وبقي خالصه. وفصح الرجل، انطلق لسانه بكلام صحيح واضح.." وغير ذلك من الدلالات التي تربطه بالبلاغة والبيان. وإنما نريد الفصاحة باعتبارها نزعة كونية في إجراء اللغة ناشئة عن تصورات محافظة للوجود والهوية.
أ ـ تكشف هذه النزعة في إجراء الكلام عن بعد صفوي. والصفوية المقصودة هنا هي تلك النزعة التي جعلت العرب يبحثون عن خالص الكلام العربي الذي لم تشبه عجمة تقدح في فصاحته عند البدو دون غيرهم "فإنه لم يؤخذ لا من لخم، حسب السيوطي المزهر ج1 ص 212، ولا من جُذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة، وغسان لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرؤون بالعبرية ولا من تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة". فقد كانت تعمل على حماية الرصيد اللغوي من التأثيرات الخارجية كالاقتراض والكلمات الهجينة. وهي نزعة تشمل كل اللغات لا يكترث أصحابها بالاستعمال والتطور ويعتبرون الفصيح ـ والأقدم أفصح دائما، سلطانا لا سلطان عليه. فيعارضون تيسير اللغة ويؤمنون بضرورة المحافظة على نقائها ويعتقدون أن وضعتها في الماضي كانت مثالية وأنّ الاستعمال يلوثها فيصيبها التدهور والانحطاط. وتعمل على التحكم في السلوك اللغوي للأفراد وتقييده بجملة من القواعد لتجنب الاستعمالات السيئة التي تخرج عن المعيار وترى في كل جرأة على هذه القواعد تهديدا للهوية الثقافة.
بـ ـ ولهذه الفصاحة صلة بالعقل الشفوي. فمن سماته الإيقاع والنبر والتكرار واختيار الأمثال المناسبة وتكرار الصيغ الجاهزة وعطف الجمل وقيامها على الجوار بدل تداخلها والإطناب والغزارة. ومن وظائفه خلق المؤثر الوجداني بدل الحياد والبرودة والتعبير عن الانطباع المباشر بدل التجريد. ومن خصائص الشعوب الشفوية النظر إلى اللغة بوصفها ذات قوة سحرية لها سلطان على الأشياء. وللشفوية صلة عميقة بالبداوة كما نعلم.
وضمن هذا الأفق الوجداني رسم المخيال التونسي لقيس سعيد صورة رومنسية مدارها على الرجل المثالي الحالم المتعالي عن دنس المدينة الباحث عن عالم طاهر بكر. وهكذا انزلق التقبل من فكرة نقاء لغة الرجل إلى فكرة نقاء سريرته. ودعمت هذا الانزلاق شهادات تمدح تعففه وزهده. ومن هنا خلقت أسطورة قيس سعيد التي هزمت منظومة السياسة في تونس ومهدت الطريق إلى هذا الوافد من خارجها ليتصدر المشهد السياسي إثر سقوط حكومة الحزب الأغلبي عند عرضها على البرلمان والانتقال وفق ما ينص الدستور إلى حكومة الرئيس. وعن هذه الأسطورة نفسها جاء ترشيح الشاب الزيدي للوزارة وتفضيله على "قامات" كانت تمني النفس بكرسيها الوثير.
ت ـ وفي هذه "الفصاحة" موقف من الحداثة يتخذه اللاشعور السياسي الجمعي. واللاشعور السياسي الجمعي حسب ريجيس دوبري نزوعات جمعية تنتمي إلى الماضي القريب أو البعيد فتعكس الرواسب الدفينة وتتحكم في سلوك الفرد والجماعة. فقيس سعيد ينحدر ـ ضمن هذا المخيال وفي هذا اللاشعور ـ من القديم / الأصيل، أسلوبا وفكرة وانتماءً. وعبر الاحتفاء بصفوية لغته يعبر التونسيون عن تمسكهم بهويتهم العربية ويتخذون موقفا من النخب الحداثية المتعالية التي تبشر برؤية مجتمعية يراها الهوى العام بعيدة عنه. وهذا الاعتقاد مؤشر لأزمة مزدوجة فيما نعتقد.
ـ فالرأي العام الواسع لا يزال مقاوما لقيم الحداثة بما فيها من دعوة للحريات الفردية واعتماد للقيم الديمقراطية وحث للقبول بالآخر المختلف. وهذا يقتضي إعادة التفكير في المصادرات التي تعلن المجتمع التونسي مجتمعا حديثا.
ـ والنخبة الحداثية فشلت فشلا ذريعا في الإقناع بمقولاتها لأنها هي نفسها كانت عاجزة عت تقديم المثال والنموذج. فغابت الديمقراطية في أحزابها وجمعياتها وانزلقت من فلسفة الفرد التي تدافع على الحقوق والحريات إلى الفردانية التي توظف المكتسبات للصالح الخاص وتعبّر عن نرجسيات متورمة. فتغدو الحداثة معطوبة وفق اصطلاح الشاعر المغربي محمد بنيس عند حديثة عن فشل المشروع الحداثي العربي. وهذا يقتضي مراجعات جذرية للحداثة فهما وممارسة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: