إنها ليست الموجة الأولى في إقامة علاقات سياسية واقتصادية وثقافية وتجارية وحتى عسكرية مع كيان استعماري مغتصب للأرض والمقدسات. فقد سبقتها موجات من التطبيع كانت فاتحتها معاهدة كامب ديفيد التي وقعتها مصر المهزومة مع دولة الاحتلال وفتحت معها باب التطبيع على مصراعيه. توالت بعد ذلك المبادرات الفردية التي تبرمها الدول على حدة بشكل سرّي أو المعاهدات المعلنة مثل اتفاقية أوسلو الشهيرة 1993 التي تضمنت عملية السلام الشامل وحلّ الدولتين وصولا إلى اتفاقية وادي عربة بين الأردن ودولة الكيان 1994.
بقطع النظر عن هذه الاتفاقيات يملك عدد من الدول العربية مبادرات فردية سريّة في أغلبها تشمل تعاونا مع دولة الاحتلال في مجالات مختلفة وهي معاهدات واتفاقيات تتأثر صعودا ونزولا بالسياق الإقليمي والسياق الدولي. لكنها تصبّ جميعا في مصبّ التطبيع مع دولة محتلة للأرض والمقدسات واعتراف بالحق الصهيوني في الأرض العربية وتنكّر للحق الفلسطيني والعربي الإسلامي في الأرض والمقدسات. إنها بعبارة أوضح وأكثر جرأة خيانة موصوفة للأرض والعقيدة ولآلاف الشهداء الذين سقطوا من أجل فلسطين طوال تاريخ المواجهة بين الأمة وجحافل العدو الغاصب.
أكذوبة السلام
لا يشك عاقل في أنّ مقولة السلام ومشتقاتها المعجمية مثل التآخي والتعايش والتقارب بين الشعوب ليست في الحقيقة إلا أقنعة لتبرير التطبيع بما هو خيانة موتمَن على الأرض والمقدسات. أكذوبة لا يصدّقها عاقل لأن الشعوب أعلم بخيانة الحكّام وحتى الحاكم نفسه والنخب المحيطة به من الشيوخ والعلماء والمفكرين والفنانين والإعلاميين يدركون فداحة الأكذوبة لكنّ ارتباط مصالحهم بوجود النظام المطبّع يجعل من العسير عليهم إنكاره لأنهم صُنعوا لتبرير سياسة الحاكم مهما كان اتجاهها.
تتأسس أكذوبة السلام مع المحتلّ على معطيات كثيرة تكشف زيفها. أول هذه المعطيات إنما تحدّدها طبيعة العلاقة بين الطرفين لأن السلام يشترط تكافؤا في القيمة وفي طبيعة النظام السياسي وفي شرعية القائم به. الأنظمة العربية المطبعة تفتقر إلى أدنى شروط الشرعية فهى قائمة على الانقلابات وعلى القوة القاهرة وعلى طبيعة استبدادية تُلغي كل مكونات الشعب والمجتمع من كل مساهمة في القرار السيادي. النظام السياسي العربي لا يملك شرعية إعلان الحرب ولا إحلال السلم لأنه نظام غير شرعي منفصل عن شعبه وعن مجتمعه بل هو نظام وكالة استعمارية منذ نشأة ما يُسمى زورا الدولةَ الوطنية. إنه بذلك جزء من عملية الاحتلال نفسها ومشارك رئيسي في اغتصاب الأرض وانتهاك المقدسات بما أنه قائم على اغتصاب السلطة وسلب الحرية ومنع السيادة. وهي القناعة التي تدفع كثيرين إلى القول بأن تحرير فلسطين يسبقه تحرير الإنسان العربي نفسه من سلطة الكيانات السياسية المحتلة التي تتحكم فيه وفي إرادته.
المعطيات الأخرى التي تكشف أكذوبة السلام يؤكدها حصاد سنوات عجاف من التطبيع والمعاهدات فلم تحقق الدول العربية السلام مع الكيان الصهيوني الذي ارتكب منذ معاهدة التطبيع الأولى أبشع الجرائم في حق الفلسطينيين. واصلت دولة الكيان الزحف على الأراضي الفلسطينية وضمت منها مساحات شاسعة كما قامت بالسطو على منازل الفلسطينيين وتجريف أراضيهم ومزارعهم وواصلت تهويد القدس وأعلنتها عاصمة للدولة اليهودية. صفقة القرن الأخيرة هي الوجه الحقيقي للسلام المزعوم الذي يعني في الحقيقة إكراه الشعوب على القبول بالاحتلال الغاشم وتهويد المقدسات والتنازل على القدس والمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
لم تحقق الصهيونية أكبر اختراقاتها في المنطقة العربية إلا تحت غطاء السلام والحوار والتعايش وهي الكيان الذي لا يؤمن بغير القتل والاحتلال واغتصاب الأرض. لم تحترم دولة الكيان ولو قرارا أمميا واحدا لصالح الشعب الفلسطيني كما أنها رمت بكل قرارات مجلس الأمن في سلة المهملات مستفيدة من الفيتو الأمريكي المساند لها ومن ضعف الدول العربية وتواطؤ الأنظمة والحكومات معها.
السلام مصطلح مختلف الدلالة فهو يعني عند الصهاينة الاعتراف بالأمر الواقع وبالهزيمة التاريخية وبالقدس عاصمة يهودية ويُلغي حق العودة وينسف الحق العربي من أساسه. السلام الصهيوني هو سلام الجزار والضحية التي عليها أن تقبل بسلخها بعد ذبحها. أما السلام العربي الرسمي فيتمثل عند المُطبعين في ضمان أمنهم وضمان عروشهم وضمان ثرواتهم وثروات أبنائهم وحمايتهم من محاسبة شعوبهم وإنقاذهم عند الثورات والمحن.
التطبيع الشعبي
تدرك اسرائيل جيدا أن التطبيع الرسمي لم يعد يعني لها شيئا اليوم لأن قادة الكيان قد صرّحوا في أكثر من مناسبة بأن النظام الرسمي العربي قد باع فلسطين وحق فلسطين منذ عقود. إنها تبحث اليوم عن مكسب المكاسب وأكبر الانتصارات الذي سيحقق لها نقلة وجودية نوعية وهو المكسب المتمثل في التطبيع الشعبي. ليس هذا الكلام استنتاجا فرديا ولا جماعيا بل هي الجملة التي ترد على لسان رئيس الوزراء الصهيوني في أكثر من مناسبة حين يقول بأنه قد آن الأوان للتطبيع مع الشعوب التي لا تزال تقف عائقا مع السلام الدائم لدولة إسرائيل.
التطبيع الرسمي معلوم الدلالة بأنه أولا اعتراف رسمي بدولةٍ محتلة في صفقة معلنة تطلبُ من الكيان الغاصب والقوى الدولية الراعية له أن تتعهّد بالمحافظة على النظام المُطبّع من السقوط إذا واجه ثورة شعبية مثلما حدث في مصر. لا يتطلّب التطبيع الرسمي سوى موافقة النظام على الصفقة وهو غير مرتبط بزمان محدد بخلاف التطبيع الشعبي الذي يتطلب مجهودا كبيرا تتوفر فيه أدوات متعددة ومتشابكة لتحقيق الهدف المرجوّ منه. التطبيع الشعبي يتطلّب إقناع ملايين المواطنين بشرعية المُطبَّع معه وهو أمر عسير التنفيذ. يتطلب هذا الأمر كذلك تحقيق اختراق كبير للوعي الجمعي من أجل توفير الأرضية التي يمكن على أساسها تحقيق التطبيع وهو ما يبدو في الحالة العربية والإسلامية أمرا على قدر كبير من الصعوبة.
فلسطين هي قضية الأمة المركزية وهي الخط الفاصل بين الانتماء وعدم الانتماء. فلسطين ليست فقط مأساة شعب مشرّد مغتصَب الأرض والسيادة عانى عبر عقود طويلة مرارة الاحتلال والاستعمار بل هي أولا وقبل كل شيء قضية مقدسات مغتصبة لأنها تحمل رمزية حضارية ودينية عظيمة الأثر في نفوس المسلمين جميعا. فلسطين أرض مغتصبة وشعب محتل لكنها كذلك أولى القبلتين بما تحمله من رمزية دينية وعقائدية عند جموع المسلمين.
بهذا المحمول الدلالي المزدوج وبهذا المخزون الحضاري العميق يكون التطبيع الشعبي مع دولة الاحتلال أمرا مستحيل التحقيق مهما حاولت قوى الاحتلال والأنظمة العربية الوظيفية المرتبطة بها اختراقه. بل إنّ الوعي الشعبي اليوم بتحالف الاستبداد مع الاحتلال الصهيوني من خلال التطبيع الإماراتي وقبله المصري والأردني وغيرهما إنما يشكلان نقلة نوعية في وعي هذه الشعوب. تُدرك الشعوب اليوم أنّ النظام الرسمي العربي يلعب آخر أوراقه ويستظل بآخر السقوف من أجل مواجهة كل أمواج التغيير الممكنة والمحتملة ولهذا فهو يهرول بسرعة للتحالف مع القوى الخارجية على حساب الأرض والمقدسات.
بذلك تكون الهرولة نحو التطبيع وما سيتمخض عنها من قرارات وتداعيات مكسبا للوعي الجمعي العربي والإسلامي ومضمونه حقيقة الأنظمة العربية وأنها الحليف الموضوعي للمحتلين والغزاة وهو الأمر الذي سيصبغ مطالب الموجات الشعبية القادمة بصبغة حاسمة. لن يكون تحرر الإنسان العربي ممكنا إلا إذا أدرك في معاركه القادمة أنّ مقاومة الاستبداد هي المدخل الطبيعي والوحيد لطرد الوكلاء والغزاة وتحرير فلسطين كلّ فلسطين من البحر إلى النهر.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: