تونس وجمهورية "سعيد" الثالثة.. انقلاب على الدستور أم تصحيح للمسار الثوري؟
أنيس العرقوبي - تونس المشاهدات: 2007
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أثارت دعوة الرئيس التونسي قيس سعيد التي جاءت في رسالة تكليف وزير الداخلية الحالي، هشام المشيشي بتشكيل الحكومة الجديدة، بمراجعة الشرعية، بقوله "يحترم الشرعية ولكن آن الأوان لمراجعتها حتى تكون بدورها تعبيرًا صادقًا وكاملًا عن إرادة الأغلبية"، عديدًا من التساؤلات حول نوايا ساكن قرطاج في تغيير النظام السياسي في البلاد وإرساء نظام رئاسي يجمع كل السلطات.
ويرى مراقبون أنّ هذه الدعوة تأتي في سياق مواقف الرئيس التي ما انفك الإعلان عنها في كل المناسبات، حيث حملت خطبه وتصريحاته في الأيام الماضية إشارات وتلميحات لإمكانية تفعيل الفصل الـ80 من الدستور الذي يخول له "الحق في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلِنُ عن التدابير في بيان إلى الشعب".
وكان الرئيس التونسي أشار في معرض انتقاده للأزمة السياسية الحاصلة في البلاد جراء تعطل أعمال البرلمان، إلى أنّه "يملك الإمكانيات القانونية والوسائل المتاحة في الدستور للحفاظ على مؤسسات الدولة"، واصفا إياها بأنها "كالصواريخ على منصات إطلاقها".
الانقلاب الأبيض
مراقبون وسياسيون يؤكدون من خلال هذه التصريحات وكذلك تلميحات سعيد السابقة بوجود "مؤامرات من الخارج والداخل لزعزعة أمن الدولة والخروج عن الشرعية"، أن رئيس الجمهورية بدأ في تهيئة الظروف والمبررات لتركيز منظومة الحكم الرئاسي، خاصة وأن هذه الدعوة كانت من بين مشاريع سعيد التي روج لها خلال حملته الانتخابية في رئاسية 2019 والتي حمل فيها شعار "الديمقراطية المباشرة" المستمدة سلطتها من إرادة الشعب عبر المجالس المحلية.
وفي هذا السياق، أكّد النائب عن كتلة ائتلاف الكرامة زياد الهاشمي في تصريحات إعلامية أنّ ما يقوم به رئيس الجمهورية خطير جدًا على الانتقال الديمقراطي وعلى الجو العام في الحياة السياسية في تونس، مضيفًا أنّه "لم يعد خافيًا أنّ قيس سعيد يسير في تنفيذ خطته وبرنامجه الذي أعلن عنه في حملته الانتخابية والمتمثل في تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي، الأمر أصبح واضحًا للعيان ولا يقبل الشك إنّه يمضي في إرساء نموذج اللجان الشعبية في تجربة شبيهة بكتاب الأخضر للعقيد الليبي الراحل والتي وقف العالم على خطورتها ومدى الدمار الذي أحدثته بسبب إفراغها للعمل والفعل السياسي".
المحلل السياسي والمستشار السابق للرئيس المنصف المرزوقي، عدنان منصر، ذهب بدوره في ذات الاتجاه وأكّد في تدوينة على صفحته بفيسبوك، بأن "تونس أصبحت واقعيًا تحت نظام رئاسي بدستور لنظام شبه برلماني"، محذرًا من استئثار الرئيس بكامل القرار التنفيذي وما يمثله ذلك من تهديد للديمقراطية، في ظل غياب محكمة دستورية.
ويُعوّل فريق سعيد على مجموعة من الفرضيات التي قد تُمهد لهم بيسر إرساء مشروعهم المتمثل في تغيير النظام إلى الرئاسي، ومن بينها:
- رفض الأحزاب منح الثقة لشخصية المشيشي القادمة من خارج الحقل الحزبي وبالتالي الالتجاء إلى ورقة حل البرلمان.
- تخوف الإسلاميين (حركة النهضة) من العزلة السياسية في الداخل بعد الحملة التي طالتهم داخليا وخارجيا، ما يسهل عملية تحجيم دورهم.
- رغبة الأحزاب التي لا تتحوز على تمثيليات كبيرة أو قواعد واسعة في الحكم أو في إقصاء النهضة.
وزير أول؟
هشام المشيشي، المكلف حديثًا من قبل رئيس الجمهورية لم يكن من المقربين أو من الدائرة الضيّقة لقيس سعيّد، إلا أنّ قربه من مستشارة شؤون قانونية نادية عكاشة (وهي طالبة سابقة وزميلة لقيس سعيّد)، مكنه من تعويضها في المنصب بعد أن نُصبت هي مديرة الديوان الرئاسي، ليتم اختياره وزيرًا للداخلية باعتباره شخصية بإمكانها الانخراط بيسر مع مقاربة سعيّد للأمن القومي التي كانت ترمي إلى الجمع بين الشؤون العسكرية التي تتصل مباشرة بصلاحياته الدستورية وأيضًا مجال الأمن الداخلي الذي لا يتصل بالضرورة إجرائيًا بصلاحيات الرئيس، وذلك في إطار حرصه على توسيع صلاحياته.
ومع تكليفه برئاسة الحكومة، يبدو أنّ سعيد يسير في اتجاه خيار حكومة يسيطر عليها مستقلون دون هوية سياسية أو حتى حزبية، وهي حركة من ساكن قرطاج لا تستهدف كما يروج البعض إلى ضرب حركة النهضة الإسلامية بقدر ما هي أشمل وأعمق تستهدف المنظومة الحزبية برمتها سواء تلك التي في خلاف مع النهضة أو في وفاق معها، إضافة إلى أنّها تأتي في سياق توجه سعيد الحثيث نحو الاستئثار بكامل القرار التنفيذي من خلال الدائرة الضيقة من "الأوفياء" ممن لا ماضي سياسي لهم ومن المُستعدّين للسير في أي طريق يختاره، ومن غير المستبعد أن يكون الخيار الأمني هو الطريق الأقرب لتنفيد الانقلاب الأبيض الذي يقتضي تحجيم الأحزاب وتجميد العمل السياسي إلى حين.
من جهة ثانية، فإنّ التحذيرات من أن يتحوّل رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي هو رجل إدارة وقانون، إلى وزير أول لدى رئيس الجمهورية تنحصر مهامه على بتنفيذ توجيهات وأوامر سعيد، وهو أمر يرى فيه بعض المراقبين خرق للدستور وضرب للعلاقات بين السلطات الثلاث، إضافة إلى رغبة رئيس الجمهورية في السيطرة على الحكومة وتوسيع صلاحياته، ستتبين لاحقًا من خلال شكل الحكومة وتركيبتها وتوجهاتها وتفاعلها مع الأحزاب والبرلمان.
في غضون ذلك، فإنّ أكثر ما تتوجس منه بعض النخب والأحزاب السياسية في تونس، هو أن يتوجه الرئيس قيس السعيد إلى اعتماد الفصل 80 من الدستور وذلك في حال ثبت وجود مؤامرات تُحاك في الداخل والخارج، في حين أنّ الحديث عن تغيير النظام السياسي والانتقال إلى الجمهورية الثالثة يُعد أمرًا مشروعًا ولا يُمثل تهديدًا للانتقال الديموقراطي في البلاد خاصة إذا كان يحمل في طياته أدوات ومكانيزمات الإصلاح التي يفتقدها النظام الحالي.
تصحيح المسار
على نقيض السيناريو الأول، يعتقد بعض المراقبين للشأن السياسي التونسي أن خطوة تكليف وزير الداخلية هشام المشيشي بتشكيل حكومة جديدة، لا يعني بالضرورة أن سعيد يسعى لوضع يديه وبسط سيطرته سيطرة الحكومة الجديدة أو توسيع صلاحياته، بقدر ماهي محاولة منه لإنهاء هيمنة الأحزاب على الحكومة، باعتبار أنّ الحسابات والتوازنات والمناكفات الحزبية كانت سببًا في الأزمة طيلة الـ9 سنوات الماضية التي أعقبت ثورة 14 يناير.
ومن هذا الباب، فإنّ عملية اختيار سعيد للمشيشي في هذا الظرف تحمل عدد من الرسائل التي باتت غير مشفرة وواضحة للعيان ومن أهمها، أنّ شرعية ومشروعية البرلمان والأحزاب الممثلة فيه أصبحت في تآكل مستمر بسبب الفوضى والصراعات التي عمقت الأزمة السياسية في البلاد، وبالتالي فإنّ مشروع سعيد السياسي يرتكز على تعديل المسار الثوري من خلال إجراءات لم يكشف عنها بعد ولكنه أشار إليها ضمنيًا من خلال تصريحاته المتكررة أبرزها: "لا مجال للتسامح مع أيّ كان وأقولها مرّة أخرى على رؤوس الملإ، في أيّ ملّيم من أموال الشعب التونسي، مهما كانت الترتيبات، ومهما كانت محاولات الإخفاء والتخفّي، لن نتسامح أبدًا في أيّ ملّيم من أموال شعبنا".
هذا التصريح، يكشف عن مقاربة سعيد لحل الأزمة الاقتصادية والمتماهية إلى حد بعيد مع سرديّة الثورة القائمة على فتح الملفات الملغومة كأموال رجال الأعمال الفاسدين والمرتبطين بالنظام السابق والمتهمين بعدم تسديد القروض، ما يعني أنّ قوانين المصالحة المالية التي أرسيت على قاعدة التوافق الذي أسّس له الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي، قد يكون أول خطوة تصحيحية لمسار الثورة المعطل.
فيما تتمثل الرسالة الثانية وهي الأقوى، أنّ سعيد قصد من خلال هذا التعيين، التنصيص على مكانته في السلطة والاحتفاظ بزمام المبادرة وبصلاحية تكليف رئيس الحكومة وذلك من خلال تعيين رجل يدين له بالولاء بإمكانه أن يستقيل ويعيد له التكليف مثلما فعل الفخفاخ، مع الحرص على عدم تجاوز دستور 2014، الذي يرى فيه كثيرون، سببًا في الأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد باعتباره المسؤول عن النظام السياسي الحالي والقانون الانتخابي العليل.
من جهة أخرى، يرى بعض المختصين أنّ قيس سعيد الرئيس والخبير في القانون الدستوري يعلم جيدًا أنّ تغيير النظام السياسي وتوسيع صلاحياته بين رأسي السلطة التنفيذية يتطلب إصلاحات تشريعية وأخرى دستورية"، وأن هذه الأخيرة تتطلب بدورها تنقيح الدستور وهو أمر يكاد يكون مستحيلا في هذه الدورة النيابية، على اعتبار أن الاصلاحات الدستورية التي يضبطها الفصل 143 و144 من الدستور تقتضي المرور عبر خمسة مراحل من بينها توفر المحكمة الدستورية التي يستحيل في غيابها تنقيح الدستور، إضافة إلى وجوب الحصول على موافقة ثلثي أعضاء البرلمان وهو أمر محال على اعتبار أن نواب الشعب سيرفضون التصويت على تنقيح يقلّص من صلاحياتهم التشريعية، وبالتالي فإن هذه الخطوة مستبعدة في الوقت الراهن.
ويُعلل أصحاب الطرح الذي ينفي عن قيس سعيد محاولة الانقلاب الدستورية، بأنّ الأخير ليس من مصلحته فشل حكومة المشيشي، الذي يفتقد لخلفية اقتصادية بينما تعاني المالية العامة وضعا حرجًا للغاية وتحتاج البلاد إلى إصلاحات عاجلة يطالب بها المقرضون الدوليون، باعتبارها من اختياره وجاءت دون الاستئناس بمقترحات الأحزاب الممثلة في البرلمان، وبالتالي فإن أي فشل سيُحسب عليه وسيأكل من خزانه الانتخابي وكذلك من مريديه في حال ذهب بعيدًا إلى الاستفتاء على الدستور.
بالمحصلة، فإنّ المشهد التونسي ينذر بأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات في ظل المكايدات السياسية المتواصلة وحالة التطاحن بين الفاعلين وغياب أفق لتسوية على قاعدة الحوار الوطني ومبدأ التعايش السلمي، وهي أزمة عمّقتها قوى فوضوية مسنودة من جهات خارجية تعمل ضمن أجندة الثورة المضادة التي تعمل على تقويض العملية الديمقراطية واستقرار البلاد، خاصة وأنّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة قد تُفاقم الوضع سوءًا وتعقيدًا، وقد تختلف التقديرات والقراءات حول نوايا قيس سعيد في تغيير النظام السياسي من خلال انقلاب يحدثه مستغلًا حالة الفوضى في البرلمان، إلاّ أنّها تتوحد في حقيقة مفادها أنّ ساكن قرطاج حصد ما زرعته النخب السياسية طيلة السنوات التسع الماضية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: