يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تتمايز الصفوف في تونس مرة أخرى بين منافح عن الحرية وبين مستظل بالفاشية. نكتب دفاعا عن الحرية، فلا مكسب لنا غيرها من ثورة باهرة لن ننكر فضلها.. نكتب منحازين ملتزمين، ونحتسب مصائرنا عند الله، فقد تمايزت الصفوف وصار الحياد نفاقا.
هل كان شهودنا معركة وأد الحريات زمن ابن علي مكرمة إلهية علمتنا دروسا عظيمة؟ سنراها كذلك، فقد تدربنا على بؤس الحياة بلا حرية، ولذلك فإن دفاعنا عنها الآن وهنا هو دفاع عن وجودنا الحر في ما تبقى من أيام وأبناء ووطن. سنفند بعض موقف أركسترا انطلق في الغناء السعيد بموت "الخوانجية".
الهدف ليس النهضة ولكن الحرية
ظاهر ما يجري من معارك سياسية في تونس هذه الأيام موجه ضد حزب النهضة، فقد حُصِر كل الشّر فيه، وقمة الشر شيخ الحزب؛ رئيس البرلمان الذي صار هدفا لكل متقوّل، وكل من لا يشارك في الهجوم عليه ويلعنه يصنف في القوادين.
لكن الأمر في تقديري يتجاوز الحزب وموقعه ودوره وشخصياته، إنها حرب على الحرية. فالحرية هي فاتحة باب الديمقراطية، وهي بوابة الدخول في الحرب على الفساد وبناء الدولة القوية والعادلة (الشعار ليس للنهضة بل لحزب التيار، ولكنه محل إجماع وطني).. والدولة القوية والعادلة هل تقوم بدون الحرية؟
زاوية النظر هذه تتعرض بدورها إلى تبكيت وتبخيس؛ لأن أعداء الحرية الذين تقودهم الفاشية التجمعية يرجمون القائلين بالدفاع عن الحرية بأن النهضة ليست ضمان حرية، وهذا اختصار معيب يهدم النقاش الديمقراطي. فلم يقل أحد إن النهضة هي من جاءت بالحرية أو هي ضمانتها.. الحرية جاءت بالنهضة وليس العكس، لذلك فثمرة الحرية لا تتجزأ، فيصبح وجود النهضة ضمن مناخ حريات ضمانة لبناء الحريات، ويصبح الهجوم في ظاهره على النهضة كمكوّن ضمن مشهد سياسي وطني حر، لكن باطنه كسر مناخ الحريات ليشرع من جديد وبالمنهج الفاشي نفسه في تفكيك الحرية. وقد كانت التجربة ماثلة ولا تزال دروسها حية، والأدلة عليها جثث في عَرَصات الإسمنت.
في غياب مناخ الحريات لن نعود إلى الحرب على الفساد، ولن نناقش النقابات في ما تفعل بالاقتصاد الوطني وبالمؤسسات الخربة. ودليلنا أن الذين زغردوا سابقا لوأد الحريات يصفقون الآن لبدء معركة استئصال جديدة لن يكون ثمنها كالعادة من لحم النهضويين فقط، بل من لحم الشعب التونسي الذي يرى البؤس يعود.
هل تصمد الحرية دون حزب النهضة في المشهد؟
اندثار حزب النهضة أمنية يتمناها كثيرون، ولكن ما زال من المبكر القول بانتهاء حزب النهضة فللحزب موقع لم يعد يسهل تذويبه كما فعل ابن علي، وسنوات المشاركة في السلطة سلّحت الحزب بأدوات دفاع عن وجوده. وهناك مكاسب قانونية لم يعد يسهل محوها؛ تمتع بها الجميع وأخذ منها حزب النهضة وسائله، ولكن العودة بالبلد إلى نقطة الصراع حول حق الوجود هو في ذاته تراجع عن المعارك المطلوبة ثوريا.
لقد تقدمت أحزاب بشعار محاربة الفساد وصوت لها الناس من أجل ذلك، بل إن اختيار الرئيس كان في جوهره اختيارا ضد الفساد، وقبول رئيس الحكومة الفاقد للسند السياسي من حزبه "التكتل" كان من أجل تاريخه النظيف. مقاومة الفساد مطلب وطني مجمع عليه شعبيا، لكن ماذا نفعل إذا توسمنا أن من انتخبناه سيقود الحرب فإذا هو مشبوه؟
الآن وعوض مواصلة تلك الحرب انحرف النقاش إلى مطاردة حزب النهضة ورئيسها. ويقود الحرب رئيس الحكومة، نفسه مستعينا بالرئيس ومستهينا بتصويت حزب النهضة له. وقد سمعنا من رئيس الحكومة ولدينا الدليل أنه لن يحكم دون حزب النهضة. أي نوع من أنواع الحكم يريد على ظهر النهضة؟ أن تقبل به وهو ذو شبهة يحارب الفساد في التلفزيون؟
هل هي صدفة أن يلتقي رئيس الحكومة الديمقراطي ورئيس الدولة الفقير وأحزاب مقاومة الفساد؛ خطابيا مع مشروع الفاشية القائم فقط على استعادة "سيستم" ابن علي، ثم نجد فرنسا في خلفية المشهد والرز الخليجي وعدا يسيل اللعاب؟
ليكن ولنضح بحزب النهضة، لكن ما هي ضمانات الشعب الأعزل أن يقاوم الباقون بعد النهضة مشروع الفاشية، وأن يعودوا ولو منفردين إلى مقاومة الفساد؟
نقرأ المشهد من نفس زاوية حرب ابن علي على الإسلاميين سنة 1990، ونجد تشابها كبيرا في النوايا وإن اختلفت بعض المعطيات على الأرض. فقد سلّم أعداء الإسلاميين له يومها بمحقهم وانتظروا الأسلاب والفيء، فإذا هم الضحايا على نفس الطريق، وإذا ربع قرن كامل يضيع من شعب أعزل بسبب نخبة مستشرفة وهو يراها تعيد إنتاج معاركها خوفا من حرية تسمح للجميع بالتعايش ضمن الاختلاف. إذا ضحوا بالنهضة مرة ثانية فسيبكون على الحرية ربع قرن آخر. هل كانوا فعلا يؤمنون بالحرية؟ هذا هو السؤال الملح الآن.
الحرية ليها ناسها
عشنا سنوات الجامعة وكل اليسار يرفع شعار "لا حرية لأعداء الحرية"، وهي دعوة إلى الاستئصال غطت سياسة ابن علي وبررت لها، الآن سنقول: "لا حرية لأعداء الحرية"؛ لا كدعوة إلى الاستئصال، ولكن بمعنى أن من لم يؤمن بالحرية لا يمكنه أن يرعاها ويدعمها ويكمل فعلها في الواقع، كأن نقول على سبيل الشرح والتبسيط: لا تقدم الفستق علفا للدواب، فهي لا تفرق بينه وبين أي نوع من أنواع العلف.
كثير من النخب تنكشف في هذه المعركة انكشاف دواب قدم لها الفستق في مذود من ذهب، فأكلت قشور بطيخ. لذلك فالحرية لها ناسها يحمونها ويرعونها ويدفعون ثمنها، وقد آن أوان الدفاع عن الحرية ودفع الثمن.
وددنا أن لا نعود إلى هنا، فقد راق لنا الطريق وسرنا في الحرية خطوات كبيرة، ولكن الردة ماثلة تتهدد كل مكسب، ونحن في لحظة حرجة من تاريخ بلدنا ونحلم بصوت عاقل يخرج من زاوية ما يهدئ النفوس ويعيد قطار السياسة إلى سكة الحرية ومناخاتها، فنتجاوز إلى مطالب شعبنا الحيوية، ومنها مقاومة الفساد. لكن الأمل يضعف في كل ساعة، غير أن إيماننا بالحرية يزداد، ولا باس أن ننتهي جثة في عَرَصة إسمنت، فنحن لسنا أفضل ممن سبقنا إلى قبر عمودي تسير عليه الفاشية وتضحك.
------------
وقع تغيير العنوان الأصلي للمقال
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: